الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
عباس أحمد.. شيخ المخرجين
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2021 / 1 / 9
الادب والفن
عباس أحمد..شيخ المخرجين
احتفت الدورة الثالثة عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري- دورة الآباء- التي افتتحت في العشرين من ديسمبر الماضي 2020 بدار الأوبرا، ببعضٍ من نجوم المسرح الذين أثروْا الوجدان بالمثل الإنسانية، وقيم العقل والحرية والعدالة، كان في مقدمتهم: نجيب سرور وعباس أحمد ومحمود ياسين وصلاح السعدني وسهير المرشدي والمنتصر بالله، وسواهم من الفنانين الذين تمثلوا تراث المسرح، وقواعده الدرامية التي تجمع بين الفكر والفن، بين الوعي والبهجة.وسأتوقف هنا عند مسيرة المبدع عباس أحمد (1938-)، شيخ المخرجين الذي قدَّم مائة مسرحية من إخراجه، منذ أن تفتحت موهبته المسرحية في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، برفقة صديقيْ عمره الفنانيْن الكبيريْن: محمود ياسين والسيد طليب، اللذيْن تعرَّف إليهما في خضم المقاومة الشعبية للعدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، كما أخبرتنا روايته المهمة "البُلط..ملحمة بورسعيد" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2016، ومحاولة تأسيس ثقافة للمقاومة تؤكد على أن الفن، والمسرح بوجه خاص، كان في جوهره فنّا مقاتلًا. يقول راوي"البلط" ص219، 220:"واستمرَّ اللقاء الدامي بين نوار ومحمود ياسين، وهما يتأملان عدة الحرب الجهنمية، وطوفان الجنود وهم يُجهزون على البلد.اتحدا منذ ذلك اللقاء، وأصبحا صديقيْن لفترات بعيدة ربما تشمل العمر كله، وأثرا كلٌّ في الآخر بدرجات لا تمحى"..ثم أضاف:"جاءهم السيد طليب، وهذا ثالث المجموعة التي لعبت الدور، كل الدور، في حياة نوار. تجوَّل في أثناء الغزو، وحاول أن يلتقط صورًا للعدوان، فصادره الإنجليز وضربوه وكادوا يقتلونه. وقف السيد ببنية قوية متماسكة يتقمص شخصية زعامية، وقال: لا بدّ أن تُقدّم مسرحية عن هذا العدوان، ودخل في التفاصيل.وتختلط دموعه وأحزانه بخطة العمل المسرحي الذي يقترحه". وبهذا "لعب الثنائي محمود ياسين والسيد طليب دورًا في حياة نوار؛ حيث أخرجا مخزون التنكر، وأرجعا إلى ذاكرته مسرحية عمر بن الخطاب، ودخل من يومها إلى جنة المسرح وجحيمه. كان السيد طليب يضع نواة المسرح التسجيلي في بلده دون أن يدري". غير أن عباس أحمد فنان شامل احترف الكتابة والإخراج والتمثيل وتكوين الفرق المسرحية (فرقة نادي العمال المسرحية، وفرقته الرائدة هواة التمثيل، وأعضاؤها من موظفي هيئة البريد ببورسعيد، وفرقة مسرح الطليعة التي قدَّمت مسرحيات عالمية رصينة، مثّلت اللبنة الأولى للحركة المسرحية البورسعيدية الفارقة، وفرقة استديو الممثل المسرحية بقصر ثقافة بورسعيد مع مجموعة من الشباب الموهوبين منهم : أحمد عجيبة وأحمد سخسوخ وصلاح الدمرداش ومراد منير وحمدي الوزير، الذي قدّم من خلالها أعمالًا لموليير(البخيل)، ولبريخت (القاعدة والاستثناء)، ولألبير كامو (الحصار)، ولآرثر ميللر (مشهد من الجسر: بطولة : عباس أحمد، ومن إخراج: محمود ياسين)، ولوليم وإيمارك جاكوبس (شروع في زواج)، ولنعمان عاشور( عيلة الدوغري)، ولمحمود دياب (الزوبعة)، وليوسف إدريس ( جمهورية فرحات وملك القطن)، ولسعد الدين وهبة (المحروسة والسبنسة وسكة السلامة)، وللطفي الخولي ( القضية)، وليسري الجندي (اليهودي التائه)، ولأبي العلا السلاموني (النديم في هوجة الزعيم)، ولعباس أحمد نفسه (نيرون والندم ونيرون)، وأخيرًا ورشة حزب التحالف الشعبي الاشتراكي المسرحية).ناشدًا فيما شُغل به واهتمّ، التركيز على قضايا المجتمع وهمومه الملحّة، من خلال نقد أبنيته وعلاقاته القائمة ومؤسساته الاجتماعية،والدعوة إلى تغييرها وطرح البدائل السياسية الكفيلة بخلق بيئة وجودية جديدة يتحرّر فيها الإنسان من الاغتراب والتسلط والخضوع، متيحة له التحقق الذاتي والتلقائي والإبداع الحر الخلاق.غيرأن عباس أحمد طاعت له الحرفة المسرحية،واللغة الشعرية،والقدرة على التقاط الشخصيات والمواقف المثقلة بعناصر الصراع، ورفدها بالمضامين التقدمية، مُعوِّلًا دومًا على استجابات الجمهور والتفاعل بينه وبين الممثلين، بخلق نمط جديد من الفعل.وهو ما لمسناه-على سبيل المثال لا الحصر- في إخراجه عام 1985 لمسرحية "اليهودي التائه..أو ما حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر"، رائعة الكاتب الكبير يسري الجندي، وقامت بتجسيدها "فرقة بورسعيد القومية المسرحية"؛ ما حدا بفنانة عظيمة من طراز" أمينة رزق" إلى حضور العرض ومشاهدته كاملًا، على الرغم من أنها لم تجد كرسيًّا تجلس عليه، ثم الصعود على خشبة المسرح لتحية الفنانين، قائلة لهم: " لقد صعدتُ ها هنا؛ لأني لم أستطع إيجاد مكان لي وسط الجماهير، من شدة التدافع والإقبال.أحسنتم أيها الرائعون".وكذلك فعل الفنانون الكبار: حسين بيكار ونادية لطفي ومحمود ياسين وأشرف عبد الغفور وصلاح مرعي وسواهم. كما قلّدت السيدة خديجة عرفات شقيقة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الممثلين في بغداد "الحَطَّة الفلسطينية"، أي الكوفية الفلسطينية التي ترمز إلى القومية والتضامن الفلسطينييْن، عندما اختارتها وزارة الثقافة لتمثيل مصر في "مهرجان بغداد المسرحي" في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي. لهذا يُعزى امتياز عباس أحمد المسرحي إلى استيعابه تجارب الماضي تكنيكيًّا ودراميًّا، وامتلاكه القدرة على تحريك الإمكانات المنظرية على المسرح وتوظيفها جيدًا، واهتمامه بالممثل وحركته وضبط إيقاع تنفسه وكيفية استخدامه لعضلاته، والتآزر بين جسده وروحه. موصيًا إياه بقوله : " إن صادفك الموت وأنت آتٍ إلى البروفة، فلا تصدقه وتعالَ إلى البروفة.. إن لم تحفظ دورك المسرحي قبل الحركة،فلن تأخذ الدور أبدًا ". فقد أيقن منذ البدء بأنه ( لكي يقوم فن جديد، لابد من ممثلين جدد.. ممثلين ذوي نوعية مختلفة، وتكنيك جديد كلّ الجِدَّة " كما قال كونستانتين ستانسلافسكي. وقبل هذا وبعده، إيمانه بأن جوهر المسرح هو علاقة حيَّة بين الممثل والجمهور. وهو ما شهد به الأديب والفنان محمد خضير الذي عمل معه، وأفاد من تجربته العريضة في الحياة وفي المسرح، وكيف كان يهتم بالثقافة المسرحية لأعضاء فرقته، وتعريفهم بالمدارس المسرحية على مستوى العالم، وتدريسه لهم كتاب " إعداد الممثل" لستانسلافسكي. لذا استطاع عباس أحمد أن يُفيد من رحابة المتخيل، منقّبًا عن دلالة الإنساني تحت ركام الأحداث والوقائع، وعن حضور الشعري فيها. فكتب روايته الفاتنة "البُلط.. ملحمة بورسعيد ". فما الذي يُشير إليه عنوانها هذا؛ بوصفه جزءًا من تجاذبات الدلالة وأعرافها التأويلية، بما تنطوي عليه من علاقات وشبكة وظائف لبُنى أنساقها الداخلية؟ البُلْط هي أرض بورسعيد بمن يعيش عليها، مُرجِعًا تسميتها بالبُلْط "إما إلى سمك البلطي الذي تأكله المدينة وتشتهر به، وإما إلى الاسم الإنجليزي port said، وحُذفت الرَّاء مع الاستعمال الشعبي وصارت بُلطًا". مُضيفًا : "والبَلاطْوَة هم أهل هذه المدينة، وينسبهم الاسم إلى نفس نسب المدينة.. ويُعرف ابن بورسعيد بأنه بُلْطي، والجمع بلاطوة". لكن اسم البُلْط والبَلاطْوَة تراجع استخدامهما بعد معركة بورسعيد عام 1956، وأصبح مسمَّى بورسعيد هو السائد والشائع حتى الآن. وبذلك تتحدَّد رواية البُلْط بوصفها رواية مكان- وهو هنا مدينة بورسعيد- اتخذ منه الكاتب منطلقًا تحليليًّا لتشريح المجتمع المصري، ورصد حركته، ومنحنى تطوره وهبوطه.على غرار ما صنعته "ثلاثية" نجيب محفوظ حين عبرت عن صورة القاهرة بين الحربيْن الكونيتيْن وبين الثورتيْن..أو ما فعلته روايات إميل زولا في تعبيرها عن صورة باريس عاصمة للقرن التاسع عشر. بَيْدَ أن رواية البُلْط تُعيدنا إلى عالم الحارات والفتوات، كما نطالعه في علاقة "نوار" بـ"غريب"، وما يتسم به من فضائل خلقية عمادها المروءة والجسارة والكرم ونكران الذات وروح التضحية والإيثار وإغاثة الملهوف. وهي، أي ظاهرة الفتوة، قديمة عرفها المجتمع الجاهلي في شعرائه الصعاليك، وفي عصر صدر الإسلام "حيث لا فتًى إلا عليّ". فأصبح لدينا ما يُعرف بالفتوة الدينية والعسكرية التي قُدِّرَ لها أن تنهض بدور فُروسي وديني واجتماعي كبير. وكانت لهم آداب (آداب الفتوة) التي وضعها "أبو الفاتك بن عبد الله الديلمي" الظريف الملقّب بـ (قاضي الفتيان).. إذ الفتى (لا يزني، ولا يكذب، ويحفظ الحرم، ولا يهتك ستر امرأة، ومع ذلك لا يتحاشى الأخذ من أموال الناس).وهو ما نصح به "غريب" "نوارًا" في رواية "البُلْط" لعباس أحمد، قائلًا له : (نحن فتوات، لا نعتدي على ضعيف.. ولا نغدر من الخلف. لا نقاتل إلا القادر.. لا نسرق.. لا نزني.. لا نأكل حرامًا.. لا تضرب امرأة.. لا تشتطْ على طفل.. ولا تحمل على عجوز.. الجميع هنا أهلك..حافظْ على لحمهم.. هذه حارتنا، وأنا رئيسها. وهي أكبر حارة في بورسعيد.. وهي القوة الضاربة فيها.. نحن أقوى من الحكومة.. والإنجليز يعملون لنا حسابًا.. أنتَ خليفتي".ومن ثم؛ فالفتوات شريحة اجتماعية متمرِّدة، دفعها القهر المادي والاجتماعي والسياسي إلى اتخاذ موقف الرفض لواقع عصرهم.ولعل هذا هو سرّ تعاطف العامَّة والفقراء معهم، والتغني ببطولاتهم ضد الدولة والمجتمع.لكن الحارة عند عباس أحمد، كما عند نجيب محفوظ (حارة جبل، وحارة رفاعة، وحارة قاسم في"أولاد حارتنا")، ليست مجرد حارة فحسب، مُحدَّدة بمنطقة جغرافية بعينها، وإنما هي قيمة إنسانية متعددة الدلالات، ذات أفق أشمل، أي أنها وطن للبشرية يتحقق فيه العدل والحرية والكرامة. لذلك أخذ غريب يُلقن نوارًا أول دروس الفتوة : في الحارة..لا تدع الأولاد يركبونك.أنت مُرفّه وتلبس صندلًا في قدمك، وهذا لا يليق.اخلع نعليْك، وقوِّ جسمك. يا ولد أنا أعرف اسمك..هذه شغلتي ومسئوليتي.أنا رئيس الحارة، ولا يدخل أحد الحارة قبل أن أعرف. وأهداه غريب خنجرًا، ونزل إلى جواره ناصحًا إياه : لا تفكِّر في قوة خَصْمِك.بل فكِّر في قوتك أنتَ.لا يغرنك ما يظهر على خَصْمِك.اهتم بما يدور في داخلك.اصمد إلى أقصى حدّ فستجد الخَصم ينهزم.عندما تواجه خَصمك، لا تتوتر، بل كنْ مسترخيًا.اترك لنفسك العنان، ولكن دون تشنج... ادخل المعركة بقوة ومرونة. حذارِ أن تواجه اليد بالعصا، والعصا بالسيف.. هكذا تكون جبانًا حائفًا.. وإنما الشيء بالشيء.. هكذا تكون الفتوة.إلخ. وأوصاه غريب بضرورة أن"يتعلم؛ حتى يصبح محترمًا". مُرسيًا لديه درسًا أساسيًّا مُفادُه"الحارة هي كل شيء، لكن التعليم أساس كل حياة". وعندما أراد نوار أن يعترض مُحتجًّا بأن "المدرسة لا تُعلّم شيئًا". ردَّ عليه غريب بحسم ونفاذ بصيرة قائلًا : ليكنْ، ولكن الذهاب إلى المدرسة ولو بقصد تحصيل حرف كل يوم، أمر عظيم الفائدة. فقال نوار: صدقني لا أتعلم شيئًا. فزجره غريب بقوله : ليكنْ، اذهب إلى المدرسة، ويومًا سوف يتغيَّر المدرس، بل تتغيَّر المدرسة نفسها.اذهب هذا أمر. فانصاع نوار من فوره قائلًا : ليكنْ ما تُريد. وبذلك يُثمِّن غريب دور العلم والمعرفة في حياة الإنسان؛ بوصفهما قوة تحويلية وتحريرية وتجديدية لحياتنا لو أحسن استخدامهما. فالقوة التي يمثلها غريب باعتباره فتوة الحارة وفتوة بورسعيد كلها، ستظلّ قوة غشومًا ما لم يؤنسنها العلم، ويُرشِّد خطواتها باتجاه معطيات وقيم إنسانية تمنح حياتنا معنى ومغزى كبيريْن. وبهذا الفهم، تغدو قضية السُّلطة في رواية البُلْط ذات منحى إنساني..اجتماعي يصون المصالح الحقيقية للمجتمع، ويربطها بالمسئولية التي ترفض تسخير العلم لتعظيم أرباح فئة اجتماعية ضيقة، وتكريس الهيمنة والاستغلال.الأمر الذي جعل غريبًا يتصدى لأباظة موزِّع الحشيش الطامع في رئاسة الحارة، ولفهمي عبد الرحيم البلطجي الساعي إلى فرض إرادة القوة على الجميع؛ بغية إخضاعهم لمشيئته. كما دفعت غريبًا إلى التصدي للتسلط والقمع اللذيْن تُمارسهما الشرطة، وإنزال الهزيمة بضباطها وعساكرها ومخبريها؛ ردعًا لهذا الضابط الجديد "الشرس" والمغرور، والذي يريد أن يصنع لنفسه مكانة في البلد مثل كل ضابط جديد. كما استطاعت الرواية أن تفضح خواء العقلية الأمنية وتفاهتها، حين عمدت إلى القبض على "عم الزغبي" لمجرد أنه يعمل بحَّارًا على باخرة روسية لمدة ثلاث سنوات، واتهمته بالبُلْشُفية، مع أنه لا يعرف معناها، ولا صلة له بأفكارها وفلسفتها. لكن "أباظة" موزِّع الحشيش راح يُشيع أن "البُلْشُفيك يستحمون باللبن، ويتزوَّجون أخواتِهم وأمهاتِهم ولا يعرفون الحرام". فوضع "غريب" يده على فمه ليُسكته، وأزاحه بعيدًا، ومالَ على "نوار" مؤكِّدًا : لا تُصدِّق كلام "ابن الوسخة" هذا. البُلْشُفيك هم الروس، وهم بشر مثلنا.. وهناك مشكلة وسيعود عم الزغبي. وراح يُحدِّث نوارًا عن أنهما باتا "يعيشان في وهم اسمه الفتوة.بينما الفتوة الحقيقية هي ما صنعه الشهيد نبيل منصور الذي أشعل النار في خيام الإنجليز، مُحدثًا حرائق جسيمة؛ فمزقه الإنجليز بالرصاص. مُضيفًا :" أنا أزهو بأني فتوة بورسعيد.. وما قيمة ذلك، بل ما قيمتي أنا بجوار الطفل نبيل منصور؟ هو الأشجع.. هو الأقوى". لهذا رأى "عم أديب" والد مُحب أن الله عدل ومحبة.. وأن الإنجليز أفقرونا؛ لكي يبفوا في بلدنا.. وشغلونا بقضايا فارغة، وحاولوا أن يُوقعوا بين المسلم والمسيحي في فتنة طائفية. لذا أحبَّ نوارٌ صديقه مُحبًّا الذي مازال يحمل بقايا الأسماء الفرعونية من "حور محب". وأن ينبهر بترابط أسرة مُحبّ وبدقتها، وبمقاومتها لفقرها. من هنا؛ غدا مُحبٌّ بالنسبة إلى نوارٍ(الصديق والدرس في آنٍ واحد). وبذلك جاء السرد في رواية البُلط هادفًا إلى ترويض مكائد الزمن، أو مأساوية الزمن العابر، والانفتاح على معنى ما بتأسيسه فعلًا قادرًا على المجابهة والتحدي. مُعزَّزًا ذلك بتعددية صوتية تُكرِّس واقعية الأحداث وزمنيتها الراهنة على المستوييْن النفسي والرمزي؛ لتفرضا ذاكرة، وتفتحا آفاقًا، وتربطا البعد الفردي بالبعد الاجتماعي ربطًا محكمًا.عبر لغة شعرية تمزج الفصحى بالعامية، مُفيدة من موروثها الشعبي البورسعيدي، ومُزاوجةً بين ما هو أسطوري وما هو تاريخي (على نحو ما نلمسه في الصغير نوار الذي شاهد عُرس أمِّه وهو في بطنها، وحملته أمُّه من دون أن يقربها رجل.. والرنين الموقَّع تك تن تك بم تن الذي يُرافقه ويُحاصره. فيهرب من هذه الأحداث بالنوم المميت، ثمَّ يُغمض عينيْه ويسمع الأشياء ويرى عالمًا بأكمله ممزوجًا بالواقع والحلم). فكبر نوار كثيرًا، وعاين أحداثًا جسامًا حطَّت على الحارة فجأة ودون إنذار.فاحترقت صَلِّي، وهاجرت أزهار، وانسخط الأطروش، وضاع أبو المعاطي، واختفت بطة وماتت، واستُشهد غريب؛ لتدخل الحارة التاريخ، بعد أن نقلها من إطار الفتوة التقليدية إلى عمل كبير وعظيم. فقد تعلّم من رجال المقاومة وعلى رأسهم الأستاذ محمد المُدرِّس أن "الفتوة الحقة هي التي يكون لها عائد كبيرعلى الناس". ألم يقلْ له الأستاذ محمد ذات يوم : "يا غريب.. ما فائدة أن تكون فتوة بورسعيد كلّها، وأولاد الكلب يمرحون في بلادنا؟ ما فائدة قوتك كلّها ووطنك مستباح منتهك؟ الفتوة الحقيقية هي أن تُحرِّرَ وطنك أولًا ". وهو الدرس الذي وعاه غريب جيدًا، فأوصى نوارًا قبل أن يختفي : إن الفتوة بحرها واسع، وهي ليست محصورة في الحارات فقط. الفتوة في كل مكان، وكل عمر الفتوة يظلّ معك إلى النهاية، وتتسع دوائره إلى ما لا نهاية له. لقد بلَّغتك ما استطعت". وبذلك يضع غريب القضية الوطنية حلقة مركزية في نضالنا من أجل بناء مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية؛ فالنضال من أجل التحرُّر والاستقلال هو المقدمة الضرورية لإرساء عالم مسئول، تعددي ومتضامن، ضد قوى الهيمنة والاستعمار والعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان. لهذا تُلحُّ رواية البُلْط على أن الفتوة ليست القوة الجسدية والعضلات المفتولة، ولا القبضة الحديدية والعصا والمسدس والمِدفع والدبَّابة، ولا غطرسة حاملات الطائرات والقنبلة الذرية والأشعة الليزرية وحرب النجوم، كما تفعل العولمة الأمريكية ببلطجتها المعروفة، وإنما تعني بجلاء شديد : (العقل والإرادة والمبدأ والتضحية والمستحيل والمبادرة بالرفض والموت بالدم). وأضحى "الرنين الموقَّع" الذي يطنُّ في رأسه ودمه، "صِنْوَه" الذي لم تستطعْ عشرات السنين فصله عنه.. وأمسى كما يقول المخرج السينمائي الروسي العظيم "سيرجي إيزنشتين" تعبيرًا عن (الانفعال النفسي أو الترامز بالشيء). غيرَ أن رواية البُلْط تنجح في تقديم توثيق روائي لمدينة بورسعيد بتاريخها وتراثها الشفوي وثقافتها وأعرافها، وتطورها الاجتماعي والسياسي ومعاركها ضد الاستعمار عاميْ 1956 و1967، وما أفضيا إليه من تهجير لأبنائها لتفادي خطر الموت، وبروزٍ لمشاريع أدبية وفنية جمعت في إهابها عددًا من الفنانين الكبار الذي قُدِّرَ لهم أن يلعبوا دورًا حيويًّا في حياتنا من طراز: السيد طليب ومحمود ياسين وعباس أحمد، وما ران عليها من تحولات اقتصادية واجتماعية في زمن الانفتاح غير السعيد؛ ما أسهم في تجريف بنيتها، وتشويه هياكلها، وتردي منظومتها القيمية، واستنزاف فائضها، واندماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد الرأسمالي العالمي اندماجًا عضويًّا، وهو ما عبَّرت عنه كوثر ابنة الناظر بقولها: إنهم لم يخدموا بورسعيد، بل فشخوها. وأكده نوار بقوله: أنظرُ إلى بورسعيد فأراها خِلقة مشوَّهة.وأنظرُ إلى كوثر وقد ضاع صباها الجميل.أرى بورسعيد وقد اكتهلت، وكوثر وقد انحسر شبابها، وأرى بورسعيد تشيخ، وكوثر بقايا امرأة، وأنا أشيخ والرنين يشيخ معي. وأيقنتُ أنْ لاعيشَ لي في ربوعِكِ يا بورسعيد، وهكذا رحلتُ.
أجل.. إن رواية البُلط سجلٌ حيّ لواقع مصر وروحها الثرية، قدَّمها لنا فناننا الشامل عباس أحمد بفهم دقيق لعالم الرواية وأسراره. فالحياة كما قال ماركيز"ليست ما عاشه المرء حقًّا، بل ما يتذكره منها، وكيف يتذكرُه ليَرويَه".
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس