الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألارتماء في أحضان ألموت … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 11
الادب والفن


أخيراً وبعد طول انتظار .. يسمع صراخ لحظات الولادة الاولى لابنه … لم يستطع ان يتمالك نفسه … اقتحم الغرفة جذِلا .. فرِحاً بمجئ من طال انتظاره كثيراً ، وقلِقا يملأه الخوف على حبيبته ، وزوجته التي كابدت الكثير من ساعات النفاس الطويلة … بعد ان اطمئن على سلامة الام الغالية ، القى نظرته الاولى على فلذة الكبد ، وهو يُطلق أولى صرخاته في وجه الدنيا العابسة … قطعة من اللحم الوردي الجميل ترتجف بين يدي الممرضة ، وتملأ الغرفة صراخاً كأنه يعلن احتجاجه على من أخرجه من عالمه الآمن الهادئ … ما اجمله !
قبّل زوجته على جبينها ، وتحمد لها السلامة ، ثم ودعهم بنظرة تفيض حزناً ، والماً … نصب قامته واعتدل ، ثم غادر على عجل …الرائد حسام … متزوج منذ سبع سنوات ، وعنده وردتين بل اجمل … هدى ، وأنسام ، واليوم تحقق الرجاء ، وجاء اخيراً الحبيب رامي ، وهو الاسم الذي اتفق عليه مع زوجته … !
كانت في انتظاره سيارة الجيب ، لتعود به الى وحدته في الجبهة … فتح له السائق الباب … عليه العودة مباشرة الى الوحدة ، فاجازته كانت لسويعات فقط ، من اجل الاطمئنان على زوجته ، ورؤية ابنه ، استهلك معظمها في صالة الانتظار حتى تحين اللحظة التي يطل منها ابنه على هذه الدنيا المضطربة !
غابت الشمس وراء السحب السوداء … تنذر بيوم ممطر ، والهجوم متوقع في أية لحظة … شعر بان يداً تمتد الى قلبه ، فتقبض عليه ، وتعصره … كم كان بوده ان يبقى ، ولو لمزيد من الساعات مع زوجته التي اشتاق اليها ، والى مداعباتها ، وكم كان بوده ان يطفيء لضى قلبه ، ويشبع عينيه من النظر الى القادم الجديد ، ويلعب ولو قليلا مع بناته الجميلات لكن ما العمل … هذا هو الجيش ، وهذه هي الحياة التي عليه ان ينصاع لها ، والتي يا للاسف قد يخسرها في اية لحظة … ما ذنب الذين ارتبط مصيرهم بمصيره يُحرمون من عطف الاب ، وحنان الزوج !
منذ التحاقه بالجيش لم يشعر يوماً انه كائن حر ، يمتلك ارادته كباقي البشر ، فهو ليس سوى بيدقاً أجوفاً خالي من الاحاسيس ، والمشاعر يحركونه حيثما ، واينما يشاؤون ، وعليه ان ينفذ فقط دون نقاش ، او تردد … !
اختفت الشمس تماماً ، وتجهم وجه السماء … سقطت قطرات خفيفة من المطر سرعان ما زادت من حدتها ، فانهالت كالسهام الناعمة … تمنى من قلبه ان لا يقع هذا الهجوم الملعون .. على الاقل في هذا الجو … لم يستطع ان يتخيل كيف ستكون المعركة وسط هذا الجو البارد الممطر ، وكأنك تحارب عدوين الجو ، وجحافل الجيوش المقابلة … اي بلاء هذا … ؟ تذكر كيف رفض والده باصرار التحاقه بالكلية العسكرية ، وقال له ستبقى رهينة لهذه البدلة ، ومسؤولياتها طوال حياتك ، وتبقى حاملا كفنك على راحتك … !
صفع الهواء البارد فجأةً وجهه من خلال ثقب في السيارة … ثم هجم عليه احساس غريب بان شيئاً جنونيا على وشك ان يحدث الليلة … حرب مجنونة تحركها الكراهية ، والاحقاد البدائية المريضة ، أخذت سنوات ثمينة من العمر ، ولم تنتهي … تلتهم الجنود ، والضباط بلا ندم ، ولا شبع … كلما جمعنا قوتنا نهاجمهم ، وكلما استعادوا قوتهم يهاجموننا ، وهكذا نبقى ندور في حلقة مفرغة … والحروب ولود ، لا تنتهي .. الواحدة تلد الاخرى ، ويبقى الانسان المغفل وقودها … لقد شارك في جنونها ، وهو لا يزال ملازم اول ، واليوم ، وهو رائد لا يزال يخوط في وحولها حتى سئم ، وقد نجا من الموت ، والاسر اكثر من مرة ، حدثت فيها فضائع تزكم الانوف لم يسجل التاريخ لها مثيلا … !
اشتد المطر ، واظلمت الدنيا … وتواصلت لحظات البرد ، والظلام …
- سيدي نتوجه الى الوحدة ام عندك مشوار آخر ؟
ينتبه … وقد سحبته كلمات السائق المذعِنة من عالمه ، وآثار الذكرى من ذلك الزمن البعيد … ينظر الى ساعته ، ويقول بصوت قاطع :
-الى الوحدة مباشرةً …
كم ندم على اختياره العسكرية كطريق لحياته ، وكم تمنى الحياة المدنية ، وحرية الحركة فيها كما فعل بقية اصدقائه الذين التحقوا بكليات انسانية ، وهم اليوم مع عوائلهم بامن وامان … اما هو فتحول الى مشروع موت دائم لاصحاب القرار المغامرين ، والاغبياء ، والمعبئين بشتى العقد … فحركته ، ومستقبله مقيدة بقائد غبي أعلى منه رتبةً ، او حتى اقدم منه خدمةً ، ولو بيوم واحد … يأتي بالامر ، ويذهب بالامر … ومصيره ، وحياته رهينة بيد اطلاقة او شظية قد تفلت من حركة زناد جندي معتوه ، فتنهي حياته ، وتيتم اطفاله ، وترمل زوجته … !
الخرافات التي تُنسج حول شجاعة ، واقدام العسكري الاسطورية .. وهمية ، وان قلبه ميت لا حياة فيه ليست صحيحة … فالعسكري اولاً ، واخيراً انسان .. يخاف ، ويقلق ، ويحن الى الدفء العاطفي ، ويتمنى ان يعيشه .. كأي انسان آخر لا صلة له بالحياة العسكرية … وتعتريه لحظات من الحيرة ، والتردد … ففيهم الشجاع كما فيهم الجبان كما المقدام ، والمتخاذل ، والمتهور … كل نزعات البشر العادية موجودة عندهم فهم ايضا بشر …
كم اشتاق الى لحظات الدفء مع زوجته ، وهي تستكين لمداعباتة مع جسدها الجميل ، الذي كان يختلج بين ذراعيه .. وسط تأوهات الرغبة من الطرفين ، وفحيح صوتها المتكسر كالامواج … تلك اللحظات الخالدة العبقة بالاشتهاء ، واللذة … تبرز امامه وجوه بناته المشرقة الباسمة كأنها شموس صغيرة … لا يدري لماذا خطر ابنه رامي في تلك اللحظة على مخيلته ، واخذ يفكر فيه ، وفيما ينتظره من مستقبل مجهول … كاد أن يبكي … من يتصور أن الضابط قوة خرافية في التحمل ، ولا قلب له ، فهو مخطئ …طغت المرارة في اعماقه زادها أكثر احساسة بانه ذاهب الى المجهول !
يسمع دوي المدافع المتبادل بين الطرفين ، وهي تهيئة لبدء الهجوم … يبدو انهم اقتربوا أكثر من محيط الوحدة ، ودخلوا مجالها الخطر … اللعنة على الذي اخترع الحروب … الا يمكن للبشر ان يعيشوا بسلام ، وهدوء ، وبدون حروب … النتيجة واحدة ايها الاغبياء الحمقى المرضى انها خسارة للطرفين ، ولا منتصر … الانتصار الذي يطبلون له في الاناشيد السخيفة ، والكتب الغبية ، والنياشين التنك الصدءة.. وغيرها ليست سوى ادخنة الوهم التي تتسرب من ثقوب خيالاتهم .. المريضة بجنون العظمة ! كل هذه الحرب اللعينة ، ومغانمها الوهمية ، لا تساوي قلامة اظفر لجندي تزهق روحه الغالية … عبثاً !
كان نهاراً ممطراً ، وطويلاً … خيم بعده ليل بارد رطب .. لا يخفف حدة ظلمته الا ضوء الحمم الاحمر كالدم ، وهي تتساقط عشوائيا .. اشتد الصوت ، وبدءت بعض القذائف الضالة تسقط بالقرب منهم ، فيسمع صوت عواءها ، وتكسرها على الارض ، ومن ثم تشظيها فتحدث فرقعات مرعبة كأنها أصوات وحوش متقاتلة استبد بها الجوع … يشم رائحة الموت التي لا يمكن اخفائها رغم تعوده عليها … الا انه اليوم يبدو ، وكأنه تنكر لهذه العادة ، فشعر بالغثيان … !
- سيدي القصف شديد … نستمر ام نحتمي حتى ينتهي ؟
يدرك ان وقت الاجازة قد انتهى ، وهو لا يملك رفاهية التمتع بالوقت حسب رغبته ، فالاوامر أوامر … تقتضي وجوده الان في الوحدة ، وتحت إمرة قائدها مهما تكن الظروف … لاول مرة يشعر بعجزه عن اعطاء امر عسكري قاطع … كان مترددا ، ولا يدري ما هو الصح ، وما هو الذي سيسوقه الى حتفه ، وهذا الجندي المسكين … لا احد يعرف … انها لحظة مفصلية رهيبة يقف أمامها الكون صامتاً حائراً …!
لبث برهه يجمع كل أشتاته … ودونما ارادة منه بدأت ذرات المرارة تتكاثف داخله … توقظ الحزن الباهت في أعماقه ، والذكريات المطموسة كأنها قد بُعثت من جديد … مقتطفات منوعة من شذرات الطفولة البريئة ، والشباب النزق ، والحب … آه … ما اجمله ، واعذبه ، والحياة العائلية اللذيذة ، والساحرة … تجسدت امامه وجوه يعرفها ، ويحبها … أراد أن يبكي ، ولكنه لم يفعل … صمتٌ رمادي بارد مريب يسكن اعماقه … وكأنه شهقة ما قبل الموت ! جذب نفسا عميقا ، ولمعت عيناه ، ثم هتف بصعوبة ، وبصوت فقد زهوه … كأنه يخرج من جسد غير جسده :
- نستمر … !
وكان هذا آخر أمر عسكري اصدره في حياته … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل الامتحانات.. خلاصة مادة اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية


.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي




.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال


.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما




.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم