الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جذور الفردانية في الولايات المتحدة ودورها في تحديد سياستها الاجتماعية .

الياس خليل نصرالله

2021 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


14.01.2021

ان الفردية والفكر البروتستنتي الكلفني متجذرفي الثقافة الأمريكية". ويرتبط ذلك برفض كلفن الفكر الكنسي الكاثوليكي في العصور الوسطى "بان الله يحب فقط الفقراء" بهدف ليرضى الفقراء بسوء حالهم وعدم ثورتهم ضد النظام. فتبرع الأغنياء الأموال للكنيسة لتغفر لهم جشعهم للمال.. فقام كلفن بتعميم فكرة نقيضة تنطلق من فرضية ان الله يحب العمل والاثرياء ،ويفرح لنجاحهم، ويمنع الدولة التدخل في اعمالهم.
يميل الكثير من المحللين بإلقاء المسؤولية للسياسية الرأسمالية-الفردية المعارضة لتدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع على القيادة السياسة والسلطة الحاكمة في الولايات المتحدة .لكن البروفيسور إليزابيث أندرسون تعتقد أن العامل الأكثر تأثيرا، لمقاومة التدخل والاصلاحات لتحقيق المساواة والتقدم، مصدره المذهب الكلفني. وبرأيها يرتبط ذلك بهيمنة طويلة الأمد وجارفة لتيارات في الفكر البروتستانتي منذ تأسيس الولايات المتحدة، والتي مازال تأثيرها مستمرا حتى يومنا. اعتبر الفكر الكلفني العمل والمبادرة الفردية والتنافس قيما اساسية في المجتمع. ويحمل هذا التوجه في طياته ابعادا ايجابية وسلبية. ولهذا التوجه بعده الإيجابي- احترام القُوى البشرية العاملة، وحرية العمل. بينما تنطوي سلبياته بان الفقير هو كسول، محتال وخداع، ولذا يتوجب على الدولة عدم مساعدته لكي لا تمس بأخلاقيات العمل. وينفي هذا التصور، بأن الفقر ظاهرة بنيوية ،يفرزها نظام رأسمالي ليبرالي استغلالي، يعارض تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع ويتذرع بأنه يعيق نموه.
وبرأي الباحثة أندرسون تعود جذور هذا الموقف الديني المعادي للفقراء للقرن السابع عشر حيث تبناه وطبَّقه، وزراء في بريطانيا آمنوا بالمذهب البيوريتاني (الطهراني، المتأثِرَ بالكلفنية). تبنى هذا المذهب بأن العمل هو واجب أساسي حددته القوة الإلهية لكل فرد وفرد، وإذا قمنا بتقديم أية مساعدة للفقراء فهذا عمل مخالف للقدر الذي ُحدد لهم. ولقد تمادت البيوريتانية في تزمتها لمفهوم الطهارة بانه من العار عدم ستر حتى ارجل الطاولة ومن يخالف ذلك عقوبته السجن.
كما ارتبطت سياسة الرفض لتقديم أية مساعدة للفقراء والمحتاجين بالتوجه الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي(لسيه فير- دعه ينتج ،دعه يمر دعه يبيع) والذي يؤكد فقط الحرية السياسية ويعارض تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع. وترتبط أيضا جذوره بمزج الكثير من السكان البيض في الولايات المتحدة بين الفلسفة الدينية الكلفنية المعادية للفقراء، والفلسفة الاقتصادية، السياسية والاجتماعية للنخب الحاكمة في الولايات المتحدة. فمثلا يحدد بنيامين فرانكلين الاخلاقيات الإيجابية لكل رأسمالي: "حق العمل مقدس والفرد يتحمل لوحده مسؤولية افعاله، والوقت هو المال، والثقة هي المال، والمال بطبيعته يُنتج المال، والدافع الجيد للربح هو كيفية حصولك على أموال الآخرين، بدون ان تخسر ثقتهم وان تبقى في نظرهم الرجل الشريف والورع". وامد الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو ذلك ،في مقولته "بأن الإنجليز أكثر شعوب العالم انتفاعاً من: الدين، والتجارة والحرية".
والمقلق أن الكثير من سكان الولايات المتحدة يتوهم انه قد تحرر من هذا الموروث الفكري- الديني، إلا أن الواقع والابحاث في هذا المضمار، تثبت انهم ما زالوا يتصرفون كأسرى هذه الأنماط والمعايير والقيم والأخلاقيات والفكر الكلفني والمذهب الطُهري. فهي متجذرة في اعماق فكرهم، وُتحدد سلوكياتهم ومواقفهم وقراراتهم في مواضيع كثيرة وخاصة الموقف من محاربة الفقر. فمثلا ربطت العقيدة اللاهوتية الكلفنية - الطهرية، اخلاقيات حب العمل المنضبط كوسيلة لتحقيق الخلاص. وتثبت القراءة المتفحصة والنقدية لهذه النصوص اللاهوتية والايدولوجية الرأسمالية، أن الكثير من المواطنين البيض في الولايات المتحدة، استمدوا فكرهم المقولب من جذور ومواقف كلفنية تجاه الفقراء. مثل الاعتقاد بان الملونين والسكان الإصلانيين في الولايات المتحدة هم كسالى يقدسون العنف. ولقد تأتى عن ذلك تحويلهم المظلوم كبش فداء، لتمويه العوامل والمسببات الفعلية للفقر.
اما عالم الاجتماع ماكس ڤيبر قام بدراسة الدين، ليس من باب التأويل الايديولوجي، بل من باب تأثيراتها على سلوك الأفراد. وانعكس توجهه هذا في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" مفادها أنّ جزءًا من التأويلات في الفكر البروتستانتي أنتجت بعض مولدات النظام الرأسمالي على نقيض الديانات العالمية الكبرى. واستنتج بأنّ الرأسمالية لم تتطور إلا داخل الدول التي تميزت بسيادة الديانة البروتستانتية، وخصوصًا الكالفينية في شكلها الطُهري (البيوريتاني). وطرح فيبر الإشكالية الآتية: "كيف أدت بعض العقائد الدينية الى ظهور عقلية اقتصادية - رأسمالية في دول غربية؟. وتوصل إلى استنتاج بأن المحدِد الجوهري وراء ظهور الاقتصاد الرأسمالي هو القيم الدينية الكلفنية وليس الواقع الاقتصادي. لأن الفرد يحتلّ في الكلفنية الأسبقية على المجتمع، ولقد زودت القوة الإلهية الفرد، عقلاً وارادة وهو يملك حرية العمل والمبادرة. لذا ساهمت القيم البروتستنتية في تشجيع حرية العمل الفردي "اَي الفرد الناجح هو الذي يعمل لخلاصه وجدير بالاحترام بينما الكسول، يتحمل مسؤولية وعواقب كسله". اي ماكس فيبر قام بتأكيد، ان الرأسمالية استمدت حرية المبادرة والتنافس من القيمة الكلفنية بأن "العمل الوسيلة للخلاص". اذا ڤيبر عرض في كتابه هذا تفسيراته وتعليلاته لتفوق الرأسمالية الصناعية والتجارية في البيئات البروتستاتنية. فافترض بأن تنامي المبادرة الفردية، وحرية العمل والتجارة، والقيمة الزائدة في الرساميل ورفض أي تدخل للدولة في الاقتصاد هو نتيجة للتوافق العضوي بين الدين والعقل والاقتصاد. شكلت بعض القيم البروتستانية وخاصة الانسجام بين العقلانية الاقتصادية ومحفزات العمل والانتاج.
لكن برأيي جاءت تفسيراته اللاهوتية هذه بدافع دحضه المادية التاريخية الماركسية. أي هدف بتحليلاته هذه تحويل الأفكار الدينية البروتستنتية لقوى تاريخية محركة بهدف توفير قوة دفع جديدة للرأسمالية، يحركها الدين وليس منظومة ملكية وعلاقات الانتاج. ومن الأدلة لتفسيراته اللاهوتية تأكيده بأن "التحرر الديني الذي تمثّله البروتستانتية يتلوه تحرر اقتصادي تمثّله الرأسمالية، وما دامت البروتستانتية مذهبًا يدعو إلى الحرية والفردية، أذًا تكون الرأسمالية المرتكزة على الحرية والفردية هي الوليد الطبيعي لها." وعليه يكون بذلك قد أعطى الدين تفسيرا رأسماليا وأعطى الرأسمالية تفسيرا دينيا، والقوى اليمينية في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة ما زالت تتبنى هذا التوجه حتى يومنا هذا.
بتأثير ما تقدم، يعتبر الكثيرون ـ خاصة في الولايات المتحدة ـ بان المشاكل الاجتماعية والاخلاقية. الاقتصادية هي فردية، اكثر منها جمعية. لذا لا يفسر تلويث البيئة بانه ناجم عن توسع التصنيع وملحقاته فتكتفي وزارة البيئة بحلول شكلية بتشجيع عملية اعادة تدوير منتجات. أو أنها لا تشجع حلولاً بنوبة للفقر وانعدام العدل بين الطبقات، بتحميل الطبقة العاملة بتقاعسها. ولكن يبقى السؤال ما هو المصدر لهذا الانحراف والتضليل في تفسير ومعالجة مشاكل الاقتصاد والفقر؟
فأحد عوامله تعود لظواهر وأخلاقيات الأمور الغريبة والعجيبة في لاهوت الاخلاقيات الكلفنية - البروتستنتية التي تُقدس العمل كوسيلة لخلاص الفرد وحصرها ذلك في دائرة تحمل كل فرد مسؤولية خلاصه. وبالفعل جرت ترجمتها على ارض الواقع "أنا كفرد يتوجب علي العمل لإنقاذ نفسي." وتطابق هذا التصور مع خدمة مصلحة النزعة الفردية في الرأسمالية.
نلمس اليوم بأن هذا الفكر وممارسته أكثر انتشارا في أمريكا منه في أوروبا. ويعود التفسير لذلك لتأثير تجربة أوروبا حربين عالميتين مدمرتين، وحيث نجم عنهما شعور الكثير من شعوبها، كفى قتلاً ودمارًا ويبابًا. وأدرك الكثير منهم أن الجميع في قارب واحد، فإما العمل والتعاون معا، أو الفناء. بينما لم تواجه الولايات المتحدة التهديد الوجودي لكيانها، لتستمر القيم السائدة وخاصة لدى الكثير من البيض، بدعم المُثُل الفردية والتي تتلخص بشعار "اولاً نحن أفراد وبعدها نجتمع في أمة". فيكون واقع أوروبا هو احد العوامل الذي دفع البعض من دولها لتطبق توجه دولة رفاه اجتماعي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكانت من العوامل لتطبيق سياسة الرفاه الاجتماعي توفير الحلول للازمة الاقتصادية والاجتماعية، النابعة عن نتائج الحرب العالمية الثانية. ودعمت هذه السياسة خطة ماريشال الامريكية لمنع انهيار حليفاتها ومصالحها في الدولة الأوربية تحت غطاء وقف المد السوفيتي.
إن الضرورة للتغلب على النتائج المدمرة للحرب أكدت حتمية تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع، لتحقيق أكبر حد من المساواة، وتعزيز مسؤولية دعم الدولة لسكانها عند الحاجة. وهذا يتطلب بأن تختار الدولة فلسفة وسياسة اقتصادية واجتماعية، تؤمن بتدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع وتأكيدها بأن المساواة الاقتصادية والاجتماعية، أهم من الحرية. فمن وظائف السلطات الحاكمة تذويت وتطبيق قيم المساواة في تكافؤ الفرص، تدعيم وترسيخ العلاقات الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي وتوفير مستوى معيشة لائق. وأن يدأب المجتمع المدني والعائلة وجهاز التربية والتعليم، تربية أفراد المجتمع على التسامح ونبذ ومكافحة كل مظاهر العنف، وتوفير كافة الخدمات لضمان الرفاه والحياة الكريمة. وأن ندأب ونواظب بأن نربي ونغرس في أفراد المجتمع، بأن المال وسيلة لتحسين مستوى حياتنا وليس صنمًا نعبده ويستعبدنا. علينا تركيز اهتمامنا في أنماط تعاملنا وسلوكياتنا مع بعض، وأن ننبذ هوسنا المحموم لتكديس الأموال بكل وسيلة، وأن ندرك الأبعاد والنتائج السلبية والهدامة للذين يتعرضون ويعانون من استغلالنا وسياستنا العدوانية.
كما يتوجب على مؤسسات السلطة والنظام وكل فرد في المجتمع الاهتمام والمثابرة لتحقيق التحسين المستدام لكل ما يرتبط بمتطلبات معيشتنا، وايضًا تطوير الوعي الاستهلاكي والاهتمام بالمحافظة على جودة البيئة، والوعي لمخاطر العنف العالمي والمحلي بكل اشكاله، وضرورة مساهمة السلطات والسكان لاجتثاثه من جذوره. فعندما سننجح في تحقيق كل ذلك سنقهر فكرة واخلاقيات معك "قرش بتساوي قرش"، وأن الناس حيث كان المال والجاه.
وأخيرا تذكر أيها الانسان بأن الأمن والأمان والرفاه، هم الأساس لمجتمع سليم، وأن العنف والفقر والجريمة هما كرة ثلج متدحرجة تهدد الجميع بالدمار، بل بالفناء، وعندها ماذا سينفع الانسان لو ربح العالم وخسر نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد