الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصحراء والسمات البدائية، أولاً: الصحراء والعقل الجمعي

فارس تركي محمود

2021 / 1 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ليست كل بقاع الارض وأصقاعها وبلدانها تحمل ذات الصفات والمزايا الجغرافية المتوافرة في القارة الأوربية فهناك مناطق تشبهها أو تقترب منها أو تحمل بعض صفاتها الجغرافية، بينما هناك مناطق أخرى تتناقض صفاتها وشروطها الجغرافية مع الشروط الجغرافية الأوربية ونقصد بها المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية ومناطق البادية فهذه المناطق - حالها حال الجغرافيا الأوربية - تمتلك فعلاً وتأثيراً يمكن تسميته بالفعل الجغرافي الصحراوي المناقض للفعل الجغرافي الأوربي بكل تفاصيله وتأثيراته وما تتمخض عنه من نتائج وما تترتب عليه من أحداث وتطورات وتغييرات. إن الظروف الجغرافية للصحراء والبادية لا تتصادم أبداً مع سمات المجتمع البدائي بل تتناغم وتنسجم معها انسجاماً تاماً وتعمل على إدامتها وتقويتها وتجذيرها في بنية المجتمع وفي نفسية وعقلية وسلوكيات وأفكار وعادات وتقاليد أفراد وأبناء ذلك المجتمع، وذلك لأن تلك السمات تصبح سمات مربحة في الجغرافيا الصحراوية والاصطدام بها أو محاولة تغييرها واستبدالها بسمات أخرى يسبب الخسارة .
لقد ذكرنا سابقاً أن المجتمعات البشرية كلها كانت في سالف الأيام مجتمعات بدائية تتسم بما يتسم به المجتمع البدائي من صفات وأفكار وسلوكيات من ديكتاتورية وعقل جمعي وعقلية وعظية وبدائية وغياب لحقوق الإنسان، وقد تناولنا المجتمعات البدائية التي تتصادم ظروفها الجغرافية مع تلك السمات وما ترتب على ذلك من نتائج وتغييرات وإنتاج لسمات جديدة. إلا أن هناك مجتمعات أخرى لا تتصادم ظروفها الجغرافية مع سمات المجتمع البدائي بل تنسجم وتتناغم معها تماماً مما جعلها تقع بين سندان سماتها البدائية ومطرقة ظروفها الجغرافية، حيث أصبحت تلك الظروف أكبر داعم ومعزز وغارس للسمات البدائية في بنية تلك المجتمعات وفي نفسية وعقلية وسلوكيات أبنائها. وسنحاول في الصفحات التالية أن نبين كيف تم هذا التفاعل والانسجام وكيف ساهم في تعزيز سمات المجتمع البدائي.
1 – العقل الجمعي : إن العقل الجمعي وكما ذكرنا يعد من أهم سمات المجتمع البدائي، وإذا ما كانت الظروف الجغرافية لذلك المجتمع تنسجم مع تلك السمة يصبح بقاءها واستمرارها وتجذرها أمراً محتماً ولا مفر منه، ولا توجد ظروف جغرافية تنسجم مع سمة العقل الجمعي أكثر من ظروف البادية والصحراء. فالصحراء هي العدو اللدود للتعددية والفردية وتنوع الأفكار وهي الحليف الاستراتيجي للعقل الجمعي، والإنسان الذي يعيش فيها أو في ظل ظروف مشابهة لظروفها لن يكون له أي خيار آخر سوى أن يعتنق فلسفة العقل الجمعي ويخضع خضوعاً تاماً لما تتطلبه وتفرضه تلك الفلسفة. والسبب في ذلك يعود إلى أن البيئة الصحراوية وشبه الصحراوية بيئة غير محفزة للفعل البشري الإيجابي ولا تشجع على الإبداع والتفكير المنطقي ولا تدفع باتجاه الابتكار وتعدد الرؤى والأفكار، ولا تستثير العقل البشري ولا تستحثه ولا تضعه في مواجهة مشاكل وصعوبات يمكن معالجتها وإيجاد حلول لها مما يصيبه بالكسل والخمول والتكلس ويفقده القدرة على الإبداع ويحوله إلى جهاز للتلقي. فالتحديات التي تطرحها الصحراء تحديات صعبة جداً بحيث لا يمكن تكوين استجابات تناسبها أو إيجاد وإبداع حلول لها مهما حاول العقل البشري ومهما بذل من جهود ، لذلك فإن الإنسان الذي يعيش في الظروف الصحراوية لا يحاول أبداً تغيير أحواله ولا يسعى لتحسين ظروفه وطريقة معيشته لأنه يعلم أن لا فائدة من ذلك، لذلك يركن إلى التكاسل واللامبالاة والرضى بما هو موجود لأن تحديات الصحراء لا يمكن مواجهتها أي أنها لا تقع ضمن الوسط الذهبي الذي تكلم عنه المؤرخ الإنكليزي أرنولد توينبي في نظريته حول قيام وتكوين الحضارات والمعروفة بنظرية التحدي والاستجابة.
إن نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ والفيلسوف الانكليزي الكبير ارنولد توينبي تؤكد على أن نشوء الحضارة يعود إلى التفاعل المستمر بين الإنسان وبين ما يواجهه من تحديات على أن لا تكون هذه التحديات بسيطة وسهلة لا تستفز الإنسان ولا تدفعه إلى العمل والابتكار من جهة، ولا تكون قاسية وصعبة جدا بحيث يصبح من المستحيل مجابهتها والتغلب عليها فيصاب الإنسان باليأس والقنوط ولا يبذل أي مجهود لمواجهتها لعلمه المسبق باستحالة ذلك من جهة أخرى، بل يجب أن تكون التحديات بين بين أو ما يسميه توينبي بالوسط الذهبي فلا هي بالسهلة المثبِّطة ولا هي بالصعبة المحبطة.
إذاً فإن المجتمع البدائي الذي يعيش في ظل ظروف البادية والصحراء واجه تحدياً جغرافياً لا يمكن التغلب عليه، فمهما فعل الإنسان ومهما بذل من جهد عقلي وعضلي فلا يمكنه في النهاية أن يحدث فرقاً يذكر، فظروف الصحراء القاسية لا يمكن تغييرها ولا يمكن ابتداع طريقة لزيادة مواردها الشحيحة أو تنويعها ولا يمكن ابتكار ما يساعد على زراعتها أو ستثمارها أو إيصال المياه إليها أو التقليل من جفافها أو تغيير درجة حرارتها أو خلق طرق مواصلات تسهل عملية التنقل فيها أو أي شيء آخر قد يغير من شكل وطبيعة الحياة فيها. إن هذه البيئة هي البيئة المثالية لإجهاض أي نشاط عقلي والقضاء عليه، وهي البيئة المقصية لأي تنوع فكري، والمعادية لأي سلوك فردي إبداعي، مما يجعل العقل البشري يعمل ضمن حدوده الدنيا أو بالحد الأدنى من طاقته وهذا كله سيخلق عقلية جامدة متحجرة لا تفكر بأي جديد أو تجديد ولا تعرف إلا ما عرفه الآباء والأجداد وتنظر إلى كل إبداع بعين الشك والريبة والعداء، وتكون المحصلة النهائية لهذا كله تدعيم وتعزيز العقل الجمعي وزيادة سيطرته واستحواذه على كل أبناء المجتمع بحيث يصبحون وكأنهم شخص واحد فتراهم يفكرون بالطريقة ذاتها ويعيشون بالطريقة ذاتها ويؤمنون بنفس الأفكار ويحملون نفس الرؤى والتصورات، سلوكياتهم وأفعالهم وردود أفعالهم وحياتهم بكل تفاصيلها واحدة لا تكاد تلمس فيها أي اختلاف أو تغيير.
يضاف إلى ذلك أن الصحراء بما تتميز به من امتدادات رملية تبدو وكأن لا نهاية لها، وبافتقارها لأي تنوع في التضاريس، وبالتشابه الكبير بين معالمها الجغرافية وظروفها المناخية لا تعوِّد العين البشرية على التنوع والتعدد مما يشكل عاملاً إضافياً من عوامل تعزيز وتجذير فلسفة العقل الجمعي. والحياة القاسية في الصحراء والبادية تتطلب درجة عالية جداً من الترابط والتكاتف بين أبناء المجتمع الواحد مما يساعد على اندماجهم وانصهارهم في كتلة واحدة وتقليل الاختلافات الفكرية بينهم الأمر الذي يقدم مزيد من القوة والتغذية للعقل الجمعي. هذا فضلاً عن أن تعدد الرؤى والأفكار داخل المجتمع أو القبيلة التي تعيش في الصحراء يعد أمراً خطيراً جداً وقد يتسبب بفناء القبيلة وهلاكها، لأن مثل هذا التعدد سيؤدي بدون شك إلى تشظيها وتفرقها إلى أحزاب وفرق وشيع متناحرة ومتصارعة فتكون النتيجة النهائية إضعافها وتحويلها إلى لقمة سائغة للقبائل الأخرى المستعدة دوماً للانقضاض على الضعفاء، وبالتأكيد لم يوجد ولن يوجد من يسلك مسلكاً يودي به إلى التهلكة. كما إن الصحراء تعد منطقة مغلقة منعزلة، قليلة أو معدومة الاحتكاك بالعالم الخارجي وبالحضارات الأخرى، لا تصل إليها ولا تؤثر بها أية أفكار أو رؤى وفلسفات جديدة ، مما يزيد من مثاليتها وملائمتها لنمو وتغول العقل الجمعي. وبذلك تكون سمة العقل الجمعي المميزة للمجتمعات البدائية قد وجدت جنتها – إن صح التعبير – في ظروف البادية والصحراء لتتجذر وتزداد رسوخاً ولتصبح أية محاولة لتغييرها أو اجتثاثها في حكم المستحيلات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا