الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن سبيل للتحرر من الاستبداد

راتب شعبو

2021 / 1 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


تحكي قصة صينية إن رجلاً مر بقرية فوجد سكانها ملتزمين بيوتهم ولا يجرؤون على الخروج منها. لم تنجح كل محاولاته في جعلهم يخرجون. ثم علم أن السبب هو خوفهم من تنين يسيطر على القرية. ولكي يطمئن الناس الخائفين، توجه الرجل الشجاع إلى التنين واشتبك معه وقتله. غير أن الناس بقوا في بيوتهم مع ذلك، ولم يجرؤوا على الخروج. وعندما استفسر جاءه الجواب: كنا نخاف التنين، واليوم نخافك أنت أكثر، لأنك أقوى من التنين.
لا يكفي قتل التنين لتحرير الناس، ولا بد من ضمان عدم بروز تنين جديد. على هذا، تقول القصة التي نبتت في بيئة استبداد شرقي مزمن، إن الخلاص من الاستبداد يتطلب إنجاز مهمتين معاً، الأولى هي إسقاط الطغمة المستبدة الحاكمة (قتل التنين)، والثانية هي ضمان عدم ولادة طغمة استبداد جديد.
في التجارب العربية منذ الاستقلال إلى اليوم كان التنين حاضراً، يموت ليحيا، سوى من لحظات مضطربة عابرة، تبدو للمتأمل مجرد خروج مؤقت عن المألوف و"الطبيعي". ونظراً إلى الانفصال المزمن في بلداننا بين الناس والشأن السياسي، الانفصال الذي تكرس في الوعي العام على شكل اعتبار السياسة شأناً عالياً مغلفاً بالسحر، أو شأناً نخبوياً، كانت الانقلابات العسكرية هي الوسيلة الغالبة في إنجاز المهمة الأولى (إسقاط السلطة) التي لم تكن سوى ولادة لتنين أكثر بأساً. ولكن حتى حين تمكنت ثورات شعبية من إسقاط الطغمة المستبدة، لم تقد هذه الخطوة إلى حماية المجتمع من سطوة استبداد (تنين) جديد.
مشاركة الناس في قتل التنين بضربة قاضية، كما في الثورات، لم تكن، إذن، ضماناً من ولادة تنين آخر يجعل الناس من جديد موضوعاً لبطشه، وإن كان تحت "شعارات" جديدة، أبسطها "حماية الثورة"، ومنع عودة الطغمة السابقة أو التنين السابق. يتعين على الناس الخضوع لتنين جديد كي لا يعود التنين القديم، وهكذا.
لا الانقلابات العسكرية على الطغمة الحاكمة، ولا الثورات الشعبية التي تسقط الطغمة الحاكمة، انتهت بالبلاد إلى نتائج سياسية أو اقتصادية أفضل، بل تشير الأرقام إلى تراجع في مستوى المعيشة وفي مستوى الحريات، وفي مستوى الاجتماع الوطني مع عودة المجتمع الأهلي (العائلة، العشيرة، الطائفة، جماعات القرابة) للتغلب على المجتمع المدني الذي يقوم على فكرة المواطنة. ما هي العلة التي تحيل تاريخ مجتمعاتنا إلى مسار من الهزائم الوطنية والاستبدادت المتناسلة؟
الجواب الأولي الذي يمكن تقديمه هو شلل الفاعلية الاجتماعية المدنية. على خلاف ما يمكن أن نتوقعه من سيطرة وعي عام يعتبر السياسة سحراً وشأناً نخبوياً، لم ينشغل أصحاب هذا الوعي (التيار العريض في المجتمع) بأمورهم المعاشية والحياتية المباشرة، بل تناوب حالهم تناوباً طرفياً، بين النوم على شروط حياتهم البائسة، والثورة القصوى على السلطة السياسية. "سحر" السلطة السياسية في الوعي العام ينتهي إلى أنها مصدر العلل ومصدر الشفاء، وعليه يتم الهرب من العمل الثقيل التراكمي اليومي، لصالح عمل حاسم ورنان و"بطولي" هو إسقاط الطغمة الحاكمة.
الانتقال من الركود إلى الفعل الأقصى المتركز على السلطة السياسية، لا يولد التحرر المنتظر أو الموهوم. يولد بالأحرى الفشل على شكل فوضى دموية أو استبداد جديد. تكرار الفشل والخيبة يولد، بطبيعة الحال، الشعور باللاجدوى وبالتسليم، وهو الوسط الملائم لكل أشكال الاستبداد.
ليس من الطبيعي أن يخشى الإنسان الاحتجاج على بؤس شؤونه الحياتية، من غلاء أو نقص مواد أو انتهاك حقوق بكل أنواعها، ولا يخشى النضال الحزبي أو السياسي. يمكن القول إن مصدر هذه المفارقة هو الوعي النخبوي الذي يهمش الفاعلية الاجتماعية المدنية لصالح الفعل السياسي أو الحزبي، أي السعي إلى السلطة السياسية بوصفها المنطلق الأول للفاعلية، وبوصفها الشرط اللازم لتحسين رغيف الخبز ولمراقبة الفساد وخفض الأسعار ..الخ.
بعض النخب الحزبية التي تحمل هذا التصور "المفرط التسييس"، تسمح لها إمكانياتها القيام بأنشطة "مدنية" مثل دعم المحتاجين وتلبية احتياجات معينة. والغرض هو تحقيق كسب سياسي من خلال ذلك. أي إنهم يلحقون النشاط "المدني" بالنشاط السياسي. والحق إن هذا النشاط لا علاقة له بالنشاط المدني، إنما هو أقرب إلى أنشطة الدعم الإنساني. ينطبق هذا بدرجة كبيرة على الإسلاميين الذين يستخدمون شبكاتهم وإمكاناتهم لسد حاجات الناس بغرض كسبهم سياسياً. أما النشاط المدني أو الفعالية الاجتماعية المدنية (المفتقدة في مجتمعاتنا) فإنه يهدف إلى شد الناس إلى شؤوهم المباشرة وتحريرهم من وهم السلطة السياسية بوصفها منطلق الإنقاذ والخلاص. ينبغي القول إن أعمال الإغاثة والدعم، وإن كانت تسعف الكثير من الفقراء والمحتاجين، لا علاقة لها بفكرة الفاعلية الاجتماعية المدنية التي هي بالتعريف فعل نضالي، بمبادرة من الناس المعنيين، لاسترداد حق أو لكسب حق، وليس فعل إحسان ومساعدة يقدم إلى الناس كي يهدئ آلام ضياع الحقوق.
النشاط الآخر الذي ينسب نفسه إلى المجتمع المدني، هو المنظمات غير الحكومية (NGOs)، وهي عندنا، في الغالب، منظمات ذات تمويل خارجي تقوم على أداء مهام معينة أكانت تعليمية أو إغاثية أو صحية أو خدمية ..الخ. أي إنها تملأ الفجوات الخدمية التي تخلفها الدولة المنشغلة بالهم الأمني. هذه المنظمات تعمل في كنف الدولة الأمنية أو في كنف سلطة الأمر الواقع وحسب شروطها، دون أن تصطدم بها. يختلف هذا النشاط عن النشاط السابق (المدني الملحق بالسياسي)، بأنه لا يرتبط بأحزاب أو برامج حزبية محددة، وقد شكل، بحسب التجربة السورية، بيئة مناسبة للميول الفاسدة عند بعض المشتغلين فيه، وأساء بذلك لفكرة "المجتمع المدني" الذي صار في تصور الناس مكافئاً لهذه المنظمات. ولكن عمل هذه المنظمات يبقى نشاطاً مختلفاً عن الفاعلية الاجتماعية المدنية التي تناضل لإبعاد يد الاستبداد عن التحكم بالشؤون الحياتية المباشرة للناس، وخلق مجال أوسع للمبادرات المحلية والعامة (أو المدنية) دون أن تشكل هذه المبادرات تحدياً حيوياً للسلطة السياسية القائمة.
التركيز على الفاعلية الاجتماعية المدنية يعيد قضية الناس إلى الناس، ويخلق لدى الناس الفكرة الأكيدة في أنهم المسؤولون أولاً وأخيراً عن شؤونهم وأنه ما من سلطة سياسية، مهما تكن، يمكن أن تهتم بهم ما لم يهتموا بأنفسهم. هذا العمل "اللاسياسي" هو الذي ينسف الأساس الذي يقوم عليه الاستبداد، حين ينسف الاعتقاد بأن الخلاص هو في وصول نخبة معينة إلى السلطة السياسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل