الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اميركا: الوحش الامبريالي العالمي المهزوم

جورج حداد

2021 / 1 / 18
العولمة وتطورات العالم المعاصر


في 1853، وبعد اربعمائة سنة من الغزو العثماني للقسطنطينية، وارتكاب مجزرة كبرى ضد سكانها الاصليين المسيحيين الشرقيين، وعثمنتها وتحويلها الى: الاستانة ـ عاصمةً للامبراطورية العثمانية، التي اناخت بهمجيتها لمئات السنين على شعوب منطقة واسعة تمتد في ثلاث قارات، ـ في تلك السنة اطلق القيصر الروسي نيقولاي الاول على تلك الامبراطورية الباغية، السائرة نحو نهايتها، توصيف "رجل اوروبا المريض".
ومنذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة انهيار الامبراطورية العثمانية، التي اكتملت فصولها في الحرب العالمية الاولى، وذلك بالرغم من ان تركيا الاتاتوركية أتيح لها الاحتفاظ بالقسطنطينية (اسطمبول) بدعم من الدول الاستعمارية الغربية، حتى لا تتم اعادتها الى سكانها الاصليين، او تسليمها لروسيا.
واليوم يدخل العالم في مرحلة انهيار الامبراطورية الامبريالية الاميركية.
ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الاميركية المستفيد الاكبر من الحرب، وخرجت منها بوصفها اغنى واقوى دولة في العالم. وكانت اول من امتلك السلاح النووي. وسيطرت كليا على استخراج وامدادات وتسويق النفط ثم الغاز، عالميا. كما سيطرت على شبكة المواصلات التجارية، البحرية والجوية والبرية في جميع القارات (باستثناء العلاقات البينية للاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين، والصين). ونشرت اميركا اكثر من 800 قاعدة عسكرية معروفة في الخارج، لاجل فرض هيمنتها العالمية، بذريعة "حماية الامن القومي الاميركي" (وهذا عدا القواعد السرية، ومراكز وقواعد المخابرات والسجون الاميركية السرية، المنتشرة في كافة ارجاء "العالم الغربي").
وتشير الاحصاءات الرسمية ان قيمة المنشآت العسكرية الاميركية المعروفة في الخارج تبلغ 749 مليار دولار. وبلغ عدد القوات الاميركية الفعالة المنتشرة خارج الولايات المتحدة 215 الفا و249 مقاتلاً (احصاء 2017).
والاحتفاظ بالقواعد والقوات الأميركية في الخارج يكلف ميزانية الولايات المتحدة ما بين 85 و100 مليار دولار سنويًا. وبإضافة العمليات العسكرية التي تقوم بها هذه القوات، تقفز التكلفة السنوية إلى ما بين 160 و200 مليار دولار سنويًا.
ويبلغ عدد القواعد العسكرية الاميركية في الشرق الاوسط وحده العشرات، وعديد القوات في هذه القواعد هو اكثر من 60 الف مقاتل. وهي تنتشر اليوم بشكل خاص حول ايران، التي تفرض عليها اميركا طوقا عسكريا كاملا، بجميع انواع الاسلحة.
وخلال، وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية، انهار النظام الاستعماري القديم (colonialism)، الذي كان يتمثل بالدرجة الاولى في الاحتلال العسكري المباشر وفقدان الدول المستعمرة للاستقلال السياسي. ولكنه حل محل الاستعمار القديم (colonialism) ما سمي الاستعمار الجديد (neo-colonialism)، الذي يقوم على تفريغ الاستقلال السياسي الشكلي من اي محتوى حقيقي، وعلى ربط الدول "المستقلة" بـاتفاقيات "الصداقة" و"الدفاع المشترك" و"الاحلاف العسكرية" و"الاتفاقات الامنية" و"القروض" و"المساعدات". وقد حلت اميركا محل الدول الاستعمارية القديمة في السيادة على الدول "المستقلة" الجديدة، بواسطة "الاستعمار الجديد" (neo-colonialism). وذلك اما بالتراضي و"الاتفاقات الدولية"، واما بتحقيق "الانقلابات العسكرية" وانشاء ودعم الدكتاتوريات والانظمة الرجعية العميلة في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة.
وقد شكلت السيطرة الاميركية الكاملة (عسكريا وسياسيا واقتصايا) على اوروبا الغربية والوسطى وعلى اليابان وبلدان الشرق الاقصى غير الشيوعية، من جهة، و"الاستعمار الجديد" (neo-colonialism)، من جهة ثانية، القاعدة المزدوجة للهيمنة الاميركية الكاملة وشبه الكاملة على ما سمي "العالم الحر" او "العالم الدمقراطي"، بمواجهة "العالم الشيوعي" او "المعسكر الاشتراكي"، بدعامتيه الرئيسيتين: روسيا والصين الشعبية.
وطوال مرحلة "الحرب الباردة" تركزت كل السياسة الدولية للامبريالية الاميركية على محاصرة وتقويض "المعسكر الاشتراكي"، ولا سيما روسيا والصين، بكل الوسائل والامكانيات العسكرية والامنية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والاعلامية، ولا سيما عن طريق "سباق التسلح" النووي، الذي كان يهدف الى الاستنزاف الاقتصادي لروسيا والصين، لاستجرار الاضطرابات الاجتماعية فيهما تمهيدا لاسقاطهما من الداخل، من جهة، ولمحاولة اصطياد الفرصة للتفوق عليهما ومهاجمتهما وسحقهما عسكريا، من جهة ثانية.
وخلال الـ40-50 سنة في اعقاب الحرب الكورية (1950 ـ 1953)، وبالرغم من الهزيمة الاميركية المدوية في الحرب الفيتنامية (التي انتهت في 1975)، فإن الولايات المتحدة الاميركية تحولت الى دولة ـ وحش تتحكم بمصير جميع شعوب العالم، في كل مناحي الحياة، بما في ذلك بمصير وحياة شعوب روسيا والصين والدول "الاشتراكية" الاخرى، التي اصبحت محكومة بالحصار الخانق، العسكري والسياسي والامني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والاعلامي والسياحي الخ، ومحكومة بآليات ومقتضيات سباق التسلح (ومن المعبر ان اذكر هنا ما رواه لي احد الشيوعيين البلغار القدماء، وأمه روسية، انه بسبب التدمير الهائل لروسيا في الحرب العالمية الثانية نشأت ازمة سكنية فظيعة. ولكن الدولة كانت مضطرة لتوجيه جل الامكانيات الاقتصادية لصناعة الاسلحة للدفاع عن البلاد. وحتى اواسط الثمانينات من القرن الماضي، كان الملايين من الناس في الارياف لا يزالون يضطرون للنوم في زرائب المواشي، على القش المخصص لعلف المواشي. كما روى احد كبار العلماء ومهندسي الصواريخ في روسيا، انه في بداية عمله في صناعة الصواريخ كانت والدته تشتغل في احد المعامل، ولكن راتبه كعالم ومهندس صواريخ وراتب والدته كعاملة مصنع محترفة لم يكونا يكفيان دائما لتوفير حاجياتهما الضرورية، وكانت امه احيانا تعود من العمل فلا تجد في البيت طعاما تأكله، فتقوم بفرم بصلة وترش عليها قليلا من الزيت والملح وتأكلها مع الخبز الاسود). هذا هو الشعب الروسي العظيم الذي تحمل تدمير بلده وقدم عشرات ملايين الشهداء، خلال الحرب العالمية الثانية، لانقاذ الانسانية من الوحش النازي.
ولكن بالرغم من جميع الصعوبات والتقلبات السياسية فإن الشعبين العظيمين، الروسي والصيني، صمدا بمواجهة الحصار الخانق الذي فرضه عليهما "الوحش" الامبريالي الاميركي.
وفي اوج "الفترة الذهبية" لهيمنته العالمية، في اخر العقد الثامن من القرن الماضي، تلقى الوحش الامبريالي الاميركي طعنة لم يشفَ منها، تمثلت في انتصار الثورة الاسلامية الايرانية، المعادية للامبريالية والصهيونية، بكل ما تمثله ايران من اهمية اقتصادية وستراتيجية وجيوسياسية، في موازين القوى العالمية. وقد فشلت كل الحروب، المباشرة وغير المباشرة، والمؤامرات والحصار والعقوبات في كسر شوكة الثورة الاسلامية الايرانية المظفرة.
وفي الربع الاخير من القرن الماضي انهار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين، بفعل خيانة الاكثرية الساحقة من البيروقراطية "السوفياتية" الحاكمة، الستالينية والنيوستالينية (الخروشوفية). ولكن بالرغم من ذلك، فإن الوحش الامبريالي الاميركي خسر، في الحساب الاخير، المعارك الثلاث الكبرى على المستوى الدولي:
ـ1ـ معركة سباق التسلح: فبالرغم من ان الاقتصاد الاميركي هو اضخم بما لا يقاس من الاقتصاد الروسي، والميزانية الحربية الاميركية تزيد اكثر من عشرة اضعاف عن الميزانية الحربية الروسية، فإن الصناعة الحربية الروسية استطاعت انتاج اسلحة صاروخية وجوية وبحرية وميدانية، نووية، تتفوق نوعيا، وتتقدم عشرات السنين، على الاسلحة الاميركية. ويعترف الخبراء العسكريون والستراتيجيون الاميركيون انفسهم انه في حال قيام مواجهة حربية شاملة، فإن المصير المحتوم لاميركا سيتقرر في الساعة الاولى من الحرب. وهذا ما يدفع القيادة الاميركية، الترامبية وماقبلها و"مابعدها" الى "التعقل!" وصرف النظر عن احتمال المواجهة الحربية الشاملة مع روسيا، بالرغم من كل اشكال العداء الشديد الذي تكنه اميركا لروسيا دولة وشعبا.
ـ2ـ المزاحمة الاقتصادية: بالرغم من ان الصين خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة ومدمرة وشبه جائعة؛ وان اميركا خرجت من الحرب كأغنى دولة في العالم؛ وبالرغم من ان الدولة الاميركية تنهب جميع دول وشعوب العالم بواسطة النظام المالي العالمي الدولاري والهيمنة الاميركية على الشبكات العالمية للتجارة والمواصلات؛ فإن الاقتصاد الصيني استطاع في العقود الاخيرة ان يتقدم بخطى حثيثة لاحتلال مركز: اضخم اقتصاد عالمي، وقد اصبح قادرا على منافسة الاقتصاد الاميركي، لا سيما وان الصين تقدم نموذجا تعاونيا مع الشركاء يهدف الى افادة الجميع، في حين ان الاقتصاد الاميركي يقدم نموذجا وحيد الجانب، يضر بجميع "الشركاء" ويقوم على نهبهم وابتزازهم.
ـ3ـ المعركة الجيوسياسية مع ايران: بعد ان عجزت القيادة الاميركية عن هزيمة الثورة الايرانية، فإنها ألقت بكل وزنها وامكانياتها لاجل فرض عزل تام للدولة الايرانية عن منطقة الشرق الاوسط ذات الاهمية الاستثنائية عالميا، على جميع الاصعدة. ولكن الذي حدث على ارض الواقع هو العكس تماما. وفي غضون الاربعين سنة الماضية، تحولت ايران الى قوة جيوستراتيجية اقليمية ودولية جبارة، وقاعدة رئيسية كبرى للمقاومة ضد الامبريالية والصهيونية العالمية، بالتعاون مع روسيا والصين. والمسألة المطروحة على جدول البحث الان ليست مسألة "عزل ايران عن منطقة الشرق الاوسط"، بل مسألة "اخراج اميركا من منطقة غربي اسيا كلها". والقيادة الاميركية اليوم تستجدي التفاوض مع ايران، لاجل تنظيم "خروج اميركي مشروط ومتفق عليه" من المنطقة. ولكن القيادة الثورية الايرانية، الحكيمة والصادقة، ترفض اعطاء القيادة الامبريالية الاميركية هذا "الامتياز". وكل الاحداث الجارية تشير الى ان اميركا ستضطر مرغمة للخروج من المنطقة، تاركة الانظمة العربية العميلة واسرائيل لمصيرها المحتوم بمواجهة الشعبين الفلسطيني واللبناني وجميع شعوب المنطقة التي تتوق الى التحرر النهائي من الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية.
ان هذه الهزائم الكبرى الثلاث للامبريالية الاميركية، على الساحة الدولية، تدفع الوحش الامبريالي الاميركي، بيهوده ودولاراته وجيوشه ومخابراته وابواقه الاعلامية الديماغوجية ومافياته، لأن ينكفئ مرغما الى الداخل الاميركي، ويعض نفسه بنفسه، وينفجر من داخله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطائرات من دون طيار الفاعل الرئيسي الجديد في الحروب


.. سيول جارفة ضرب ولاية قريات في سلطنة عُمان




.. دمار مربع سكني بمخيم المغازي جراء القصف على غزة


.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: سنرد على إيران وقاعدة نيفاتيم




.. بايدن ينشغل بساعته الذكية أثناء حديث السوداني عن العلاقة بين