الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملك التنشين.. أزمة مجتمع يعيش حالة استقطاب سياسي واقتصادي

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2021 / 1 / 21
الادب والفن


ينطلق د.أحمد جمال الدين موسى الكاتب الكبير وأستاذ القانون المالي والاقتصادي والتَّشريع الضَّريبي والمالية العامَّة بكلية الحقوق- جامعة المنصورة، ووزير التربية والتعليم الأسبق، في روايته الثالثة "ملك التنشين" الصادرة عن "الهيئة المصرية العامَّة للكتاب"، بعد روايتيْه : فتاة هايدلبرج الأمريكية (2012)، ولقاء في واحة الحنين (2014)، ينطلق من مشروع حداثي قوامه الدفاع عن العقل والحرية والتجدُّد والتجديد، وتقديم رؤية إبداعية تستمدّ نسغها الحي من تحوُّلات عصرها، ومجابهة أسئلة الواقع، وإرساء انخراط فاعل في زمنه ومجتمعه. لذلك تُشكِّل الكتابة الروائية لديه امتدادًا حيًّا لأدواره الأكاديمية الرامية إلى النقد والتحليل وطرح الأسئلة وإنتاج المفاهيم. من هنا؛ تُقدِّم لنا رواية "ملك التنشين" أنموذجًا لشابٍّ ريفيٍّ بسيط يُدعى "غريبًا" ينتمي إلى إحدى قرى شمال الدلتا، ذي أصول اجتماعية متواضعة أفضت إلى تهميشه وتقزيمه. فوجد في التعليم والتفوق الدراسي خشبة خلاصه، وطريقه إلى الصعود والترقي. وظلَّت منظومته القيمية وثقافته انتقائيتيْن محافظتيْن، تمتحان من بنية اجتماعية اقتصادية متخلفة، تشكو الاستلاب الإيديولوجي بشكليْه السلفي والاغترابي، وتُعيدان إنتاج الاستبداد والتسلُّط. كما يتبدَّى لنا في علاقته بشقيقه الأكبر "عباس"، وخضوعه الشديد له، ولآرائه المتشدِّدة، ومراقبته له طَوال سني حياته لا سيما خلال سنوات الطلب الجامعي، على الرغم من تفوُّقه ونجاحه الدائميْن، وخوفه من ضبطه له مع صديقته "سلوى" في شقته المستأجَرة. أو ما تجلَّى لنا في اضطرابه وحَنَقِه مما "حاقَ به من رجس" على حدِّ تعبيره، إثر ما طالعه مع زملاء الدراسة في "ملهى الشَّرق" من مشاهد الرقص والمجون. أو فيما اعتراه من قلقٍ بعد حديثه في منتصف الليل مع "عبد العال السَّلامي" شريكه في حجرة المدينة الجامعية والرَّقيب المُعيَّن من قِبل أخيه "عباس"؛ لإبلاغه بما يندُّ عنه من سلوك منحرف في مدينة الإسكندرية؛ ليُبلغه بدوره لأبيه، عن اضطلاعه بالتدخين ومصادقة البنات ورفاق السوء وهجر الصَّلاة. وهنا تبرع الرِّواية في تصوير غربة "غريب" في مدينة كبيرة كالإسكندرية، وصراعه النفسي الضاري مع إغراءاتها، حتى استحالت المدينة أمام عينيْه إلى محض إغواءات شيطانية باتت تتلبسه، وتُطارد أحلامه الضائعة بين فتيات الكلية والشارع والبلاج، وفتيات الشِّلة اللائي لا يتوقفن عن ممارسة دلالهن الأنثوي على فتيانها. ومن ثمَّ؛ أتت غربة "غريب" هنا مُضارِعة لغربته السسيولوجية والوجودية، ومن تلكم العلاقة الملتبسة بين الذات والآخر؛ ما جعل كليْهما يولد وينشأ بمعزلٍ عن الآخر، ليلتقيا بعد ذلك كجوهريْن سالبيْن. وهي قضية تتقاطع فيها عوامل عدَّة متشابكة : تاريخية وثقافية وسياسية. لهذا عمدت رواية "ملك التنشين" إلى الكشف عن الإنسان، لا كتوكيدٍ إيجابيٍّ، ولا كوحدةٍ، ولا ككتلةٍ متراصَّةٍ، وإنما كعمقٍ وانكسار.. أي بلورة صراع الإنسان ضد القوى الخارجية عنه، وتسليط الأضواء السَّاطعة على الذات المقموعة والمستلبة بحثًا عن حرية مفتقدة. لذا عاش "غريب" صراعًا بين نازعيْن متناقضيْن : الرغبة في خوض تجرِبة الجنس التي باتت تُلحُّ عليه بحكم السِّن واحتياجاتها البيولوجية وغرائزها الأولية. والخوف من ارتكاب المعصية والانزلاق إلى مستنقع الرَّذيلة ومهاوي الانحدار الأخلاقي. وإن كان يتخفَّف في بعض الأحايين من قيوده الرِّيفية ونوازعه الإيمانية وحرجه الأخلاقي، كما حدث في علاقته مع سلوى ونادين، مُبرِّرًا ذلك لنفسه بأننا كلنا خطاءون، وأن الله توَّاب رحيم. غير أنه التمسَ في الدين حلًّا، وفي الصَّلاة منجاة، وفي زيارة مسجد المرسي أبي العبَّاس راحة وسكينة؛ فالإيمان كما خَبَرَه وعاشه قرين الحريَّة، وليس وليد القهر أو الخوف أو الاعتياد أو التقليد. الأمر الذي دفعه إلى رفض الاقتران بجماعة "مدحت الرِّكابي الإسلامية" التي بادلها نفورًا بنفور، وارتيابًا بارتياب، رافضًا على حدِّ تعبير الرَّاوي العليم : "الانضواء المستكين لمجموعته، والتقيُّد بالأمور الشَّكلية التي يتمسكون بها، أو لعلَّه كان يتوقع طاعة وتبعية، وليس حوار النِّدِّ للندّ". في إشارة إلى أزمة الجماعات الجهادية التَّكفيرية ولغتها الأحادية الشُّمولية المتعالية، التي تتعامل مع الكُليِّ والمطلق، وتخشى الحوار والتفاعل، ورفض كل شيء من الآخر؛ ما أدَّى بها إلى الغلو والتشدُّد وتقسيم العالم إلى فسطاطيْن يُراوحان بين : كفر وإيمان.. خير وشرّ.. حقّ وباطل؛ فتعاظمت حُمَّى الصراع الديني والطائفي، وتصاعدت موجات الكراهية والتعصُّب والعنصريَّة. فانصرفَ عنها "غريب" مبكِّرًا. عندئذٍ ذهبَ إلى زميله وأول دفعته "صادق عمر" يرجوه النَّصيحة المخلصة، فأنهى إليه أن "الحياة اختيار"، وأن عليه أن يختارَ بين أن يكون معيدًا بالكلية أو وكيل نيابة من جهة، أو أن يكون محبوب الفتيات والغنيَّ بأيِّ ثمن والباحث عن إرواء رغباته الحسيَّة في أول مناسبة تُتاحُ له من جهةٍ أخرى. لكن غريبًا يفتقر إلى الصِّدق مع النَّفس، وتُحرِّكه دوافع أنانية ضيقة الأفق؛ فأمسى يحلم بالجمع بين المنصب والشّهرة والحياة الرَّغدة والنِّساء الجميلات، منتقمًا لماضيه وسني حرمانه، وتعطُّشه لحرق المراحل لتعويض ما فاته، مضحيًا بأيِّ قيمة أو مبدأ. ألم يعترفْ لنفسه في لحظة صدق نادرة بعد أن هجرته سلوى هاربة من تردُّدِه وبروده، متعلقة بناجي مدرب كلاب البحر والدَّلافين في سيرك مائي : "لم أكنْ في يومٍ من الأيام صادقًا ولا مخلصًا، بل كنتُ أنموذج الإنسان الذي تحكمه أنانيته ويقوده طموحه الوحشي". ثمَّ أضاف مُشدِّدًا على كلامه : "هذه هي حقيقتي وهذا هو حالي، وكلّ ما عليَّ فعله هو التعامل بحكمةٍ مع مشاكلي وعقدي النفسيَّة؛ للإبقاء على قدرٍ من التَّوازن يُمكنني من الصُّمود، وربما النَّجاح في الصُّعود تدريجيًّا لتحقيق أحلامي الطَّموحة غير المحدودة". وفي موضعٍ آخرَ يقول : "في قلبي متسعٌ للألوان جميعًا، وأنا راغب في تجرِيبها كلّها، حتى لو أصابني قدرٌ من الاتِّساخ"؟ لذلك فهم غريبٌ الحياة بوصفها ضربًا من المغامرة والمقامرة؛ فامتلك ناصية التنشين والتَّهديف، مستعينًا بذكائه العملي وقدرته على التَّلخيص وإعادة الشَّرح؛ فانتصر على معظم أساطين المذاكرة والحفظ. لكنه افتقد الثَّراء المعرفي والثقافة الواسعة والتَّأسيس النَّظري الرَّصين الذي يُمكنه من الانفتاح على حقولٍ معرفيَّةٍ وفلسفيَّةٍ عدَّة؛ وهو ما بدا لنا بجلاء حين سأل "نيكول" الفرنسيَّة صديقة "نادر مختار" عمَّا إذا كان الفيلسوف الفرنسي الأشهر "جان بول سارتر" ما زال يتردَّد على مقهييْه المفضَّليْن "دو فلور ولي دو ماجو" بين الحين والآخر. فأجابته والدَّهشة تملأ وجهَها بأن سارتر ورفيقة دربه سيمون دو بوفوار ماتا منذ سنوات بعيدة. يقول ذلك على الرغم من أن جيلًا عربيًّا كاملًا تربَّى على الفلسفة الوجودية، ونهلَ من الرِّوايات والمسرحيات والأبحاث التي دخلت المكتبة العربيَّة بقوَّةٍ بدءًا من الأربعينيات عبر أطروحة عبد الرَّحمن بدوي عن الزَّمان الوجودي، وشهدت ذُروتها في نهاية السِّتينيات من خلال دار الآداب اللبنانيَّة ومجلتها الآداب ترجمة ونشرًا، مركزتيْن على مفهوم الالتزام، رابطة إياه برسالة المثقف القوميَّة. حينئذٍ أدركَ أن "موهبة التَّنشين لن تُجديَه نفعًا، ولن تُرشدَه دائمًا إلى الاتِّجاه السَّليم"، على نحو ما أفضى إليه "صادق عمر" وهو يستعدُّ للسفر إلى ليون، متمنيًا عليه "ألَّا يُعوِّلَ طول الوقت على موهبة التنشين التي وهبها الله له". وهنا تُعالج الرِّواية قضية خطيرة تتعلَّق بالنظام التعليمي في مصر؛ ألا وهي قضية "الكتاب الجامعي" التي تُعدُّ أحد الأسباب المسئولة عن هبوط المستوى الجامعي للطلاب، وإقبالهم على الحفظ والتَّلقين بدلًا من إعمال عقولهم والتردُّدِ على المكتبة، والانشغال بالبحث العلمي. ولعلنا نتذكر "ثورة مايو عام 1968"، أو ما يُعرف بـ "ثورة الطلبة" التي بدأت باحتجاج طلاب السوربون على نظم التَّدريس، وعدم مشاركة مجالس الطلبة في توجيه العملية التَّعليمية والإشراف عليها، بل ذهب الطلاب إلى حدِّ المطالبة بالمشاركة في تقويم أداء أعضاء هيئة التَّدريس. بينما لم تترك الهزائم العربية المتتالية أيَّ أثر مهمٍّ أو مباشر أو فاعل أو واعٍ في مؤسسات التعليم والعلم العربيَّة ومناهجها، فضلًا عن الحَجْرِ على حرية التَّفكير والبحث والتَّعبير عن الرَّأي من قِبل أنظمة التبعية والخيانة الوطنية. كذلك تطرَّقت رواية "ملك التَّنشين" للدكتور أحمد جمال الدين موسى إلى ظاهرة الطموح السياسي لأساتذة الجامعة الذين آثروا التخلي عن محراب العلم، وعن تجرُّدهم الكامل وحيادهم البارد ليلتحقوا بتنظيمات الدولة وأجهزتها السياسية والأمنية. وقد عرفنا هذه الظاهرة في مصر في وزارة الوفد الأخيرة؛ حين اختار مصطفى باشا النَّحَّاس وزيريْن من الأساتذة في حكومته عام 1952هما : د. حامد زكي ود. زكي عبد المتعال، ثمَّ كرَّت السبحة في العهد الناصري فرأينا أستاذًا جامعيًّا مساعدًا هو د. لبيب شقير أصبح نائبًا لوزير التخطيط، ثمَّ وزيرًا، ورئيسًا لمجلس الشعب، وغيره كثير فيما تلا ذلك من عقود وحكومات مثل د. رفعت المحجوب ود. عائشة راتب ود. صوفي أبو طالب ود. آمال عثمان وسواهم من الأكاديميين التقنيين المتهاونين في أخلاق العلم، والعاملين على تفريغ أنبل القيم كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان من مضامينها الحقيقية ومغزاها الكبير حسب مقتضيات المصلحة السياسية والاقتصادية. وفي رواية "ملك التَّنشين" نلتقي بأحد هذه النماذج؛ وهو أنموذج د. حافظ شكري أستاذ القانون الدولي الشابّ الذي كان يحظى بنجوميَّةٍ لافتةٍ للنظر داخل الجامعة ووسائل الإعلام، من خلال رعايته لأسرة "النجوم الشامخة" التي كانت تضمُّ الطلاب والطالبات الناشطين والناشطات من ذوي الميول الثقافية والفنية والاجتماعية، وبفضل علاقاته الواسعة برئيس الجامعة والمحافظ وأمين الحزب الحاكم في الثغر وغيرهم. وقد وجد حافظ شكري في تطلعات غريب بُغيته التي تتجاوب مع شخصيته وتكوينه الانتهازي؛ فأضحى ساعده الأيمن في الإشراف على أسرته الطلابية، وتجهيز بعض المقالات التي ينشرها في الصحف اليومية، وتأسَّى بآرائه عن اتفاقية الاستسلام والعار مع العدو الصهيوني العنصري الاستيطاني، وعن الرئيس السادات وسياساته المفروضة علينا من صندوق النقد والبنك الدولييْن، وأصبح رفيقه الدائم في الندوات الثقافية والمؤتمرات الجماهيرية وبعض اجتماعات الحزب الوطني الديمقراطي السابق. ما يسَّرَ لحافظ شكري نسجَ شبكة علاقات واسعة مع العديد من المتنفِّذين وذوي الحول والطول سياسيًّا واقتصاديًّا؛ فأصابَ شهرة عريضة تجاوزت زملاءه الأكاديميين، حتى باتَ معروفًا لدى الأوساط كافَّة، وأتاحت له خدمة ذوي الحاجات والمطالب السياسية ودوائر سلطاتها المحلية. وهنا تُميط الرواية اللثام عن طبيعة الأزمة العامَّة التي تعيشها الجامعة المصرية، وماهيَّة المأزِق الذي شهده التطور الاجتماعي المصري في العقود الأخيرة؛ فانعكس بحمولته على سيرورته السياسية وهياكلها الرَّثة، وأفضى إلى تجريف بنيته الداخلية، وقيمه الحاكمة. فلم يعد التنافس العلمي والإنتاج العلمي هما الفيصل في التعيين والترقيات وشغل الدرجات الشاغرة، بل الدَّسّ والتزلف لذوي النفوذ داخل الجامعة وخارجها، والعمل لدى الجهات الأمنية. وبذلك استطاع د. حافظ شكري الحصول من إدارة البعثات في وزارة التعليم العالي على بَعْثةٍ لجامعة الإسكندرية في القانون الدولي؛ فرُشِحَ لها غريب فورًا، وسافرَ إلى باريس. وبفضل توصيةٍ خاصَّةٍ منه للمستشار الثقافي المصري في باريس، جرى استثناؤه من حظر تسجيل المبعوثين الجُدد في جامعة العاصمة، وساعده على تسجيل رسالته للدكتوراه في كلية القانون بجامعة باريس الثانية؛ أعرق كليات القانون في فرنسا؛ ليكون قريبًا منه، وعونًا له على مواجهة "صفوت رجب" المعارض المصري ورفاقه اليساريين، وتحجيم تأثيرهم تُجاه الدولة ورئيسها. ولخَطْبِ وُدِّهِ؛ وفَّر لغريب رحلاتٍ سياحيةً سريعةً زار فيها سويسرا وبلجيكا وهولندا، ومكَّنه من الحصول على بعض الصحف والمطبوعات المصرية، وحضور احتفالات السفارة في مختلف المناسبات الوطنية والفعاليات الفنية والثقافية. وهو ما يعكس طبيعة الدولة التوتاليتارية ونهجها الاستبدادي الذي يُعادي الحريات، وينفي المبادرات الفردية والجماعية، ويُعلي الوظائف القمعية لسلطة الدولة. ولعل مَنْ اطّلعَ على مذكرات د. يحيى الجمل الصادرة في سلسلة كتاب الهلال في يناير 2004 باسم "قصة حياة عادية.. حركة الثقافة والمجتمع" يُدرك ما ألمعتُ إليه، حين روى واقعة مُعارٍ من وزارة الثقافة ملحقٍ بالمكتب الثقافي بباريس الذي كان يتولاه د. يحيى الجمل، طالبًا ذات يومٍ مقابلته على انفراد لحديثٍ هامٍّ، مُفضيًا إليه بأن له مهمَّة خاصَّة أكثر من كونه ملحقًا مُعارًا من وزارة الثقافة، وأنه حضرَ دورة في الاستخبارات العامَّة قبل مجيئه إلى باريس، وأن إحدى مهامِّه أن يرصد تحركات الطلبة وأن يكتب تقارير لمصر. ثمَّ كوفئ على جهوده الأمنية وعُيِّن وزيرًا للثقافة لعقديْن ونيِّفٍ. لهذا لم يدخرْ غريب وسعًا في إبداء ولائه وإخلاصه لأستاذه حافظ شكري وللمستشار الثقافي عندما زار نائب الرئيس السادات باريس زيارة رسمية، وذهبَ مع زميليْن آخريْن إلى النادي الثقافي المصري بناءً على طلب المستشار الثقافي؛ لاستطلاع التدابير المُعدَّة من قِبل المناوئين للسادات وسياساته، وإبلاغها له لاتِّخاذ ما يراه مناسبًا لإحباطها وإجهاضها. كما حرَصَ غريبٌ على التصدي لما أثاره أحد المبعوثين الذين يدرسون الهندسة في جرونوبل "محمود" من انتقادات طالت الحكم وفشله في إدارة أزمات البلاد والعبور بها إلى برِّ الأمان، مستخدمًا مهاراته اللغوية وما ثقِفَه من دراسته القانونية. فنالَ ثناءً عاطرًا من نائب الرئيس وطاقم السفارة المصرية؛ ما أحيا لديه الآمال في الصعود والنجاح، وتصحيح وضعه الطبقي والاجتماعي المتردي، والانتساب إلى شريحةٍ اجتماعيةٍ أعلى. وبذلك نُمسي حيالَ روايةٍ تتكئ على معرفةٍ كثيفةٍ بالشرط الذي تكتب عنه. فواقعية رواية "ملك التنشين"، والواقعية تملّك معرفيٌّ للواقع، لا تصدر عن شعارٍ إيديولوجيٍّ، أو أحكام مسبقة، بل تأتي من توثيقٍ دقيقٍ ومعايشةٍ فعليةٍ للموضوع الروائي، حتى تكاد أن تكون وثائق نقرأ فيها جزءًا فعليًّا من أحوالنا المصرية. غير أن مزاوجة التسجيلي بالتخييلي في الرواية؛ أتاح لنا أن نرى الظواهر في تناقضاتها، والوقائع في مفارقاتها، عبر لغة تقول الحدث بما هو حركة ومشاهد ومناخات وحوارات وهواجس داخلية. فنأت الرواية عن العاطفية الغنائية، وعن التمسُّح بالكلمات الكبيرة لإخفاء ضحالة المعاناة، هادفة إلى إقلاق الروح، والدفع بها إلى معاناة إنسانية أرفع تُعمِّق الوعي، وتُفجِّر الينابيع المحبوسة في أعماق النفس. بَيْدَ أن رواية "ملك التنشين" تؤكِّد أن الأدب يخدم المعرفة الإنسانية بشكلٍ عامٍّ، ويمدُّنا بمنظورٍ شاملٍ للعالم، مثلما طالعناه في حديث "نيكول" و"نادين" عن الحضارتيْن المصرية والفرنسية. وفي برنامجهما التثقيقي لغريب، وما حمله من زادٍ فكريٍّ ينطوي على نسقٍ جديد من القيم والمعايير والمعارف. وفي سرد غريب لأسماء المكتبات التي كان يتردد عليها بحثًا عن المراجع والدوريات المتخصصة التي تُشكِّل المادة العلمية لأطروحته للدكتوراه مثل (مكتبة المدينة الجامعية، ومكتبة كوجاس، والمكتبة الجامعية في نانتير المتميِّزة بوفرة مراجعها باللغة الإنجليزية، ومكتبة مركز جورج بومبيدو الثقافي، ومكتبة معهد العلوم السياسية) وسواها. كذلك جاء أنموذج "صفوت رجب" الدارس المتعثّر في إنجاز رسالته للدكتوراه بباريس منذ ما ينوف على السنوات العشر، والناشط السياسي، والمهووس باقتناء الكتب بصرف النظر عن قدرته على قراءتها، جاء مُعبِّرًا عن أزمة قطاعٍ من النخبة المثقفة، دعته الأحزاب الطليعية بـ "الكادر" أو "الإطار الحزبي" الذي يُحوِّل أيَّ ملمحٍ أو مُكوِّنٍ ثقافيٍّ إلى حيِّزٍ إيديولوجيٍّ في منظومةٍ مغلقة. ولعلنا نتذكر ما كتبه يومًا الأستاذ ميشيل عفلق في جريدة "الدهور" السورية قائلًا : "إن الكتابة ليست غايتي العميقة، بل أنظر إليها دائمًا كأنها شاهدٌ على عجزي عن العمل، ودليل نقصي"! وكأن هناك تناقضًا بين التأمل والفعل، أو بين العمل العام والإبداع.
إن رواية "ملك التنشين" للدكتور أحمد جمال الدين موسى سجلٌ حيٌّ لواقع مصر وما رانَ عليها طَوالَ العقود الماضية من تردٍّ وانهيار على مختلف الأصعدة، من خلال صعود "غريب" السريع وأحلامه في الثراء والنفوذ، ورغبته في اكتساح الآخرين خاصَّة عباسًا ومنى وعريسها؛ ليُعيدَ الاعتبار لذاته المنسحقة، ووضعه الاجتماعي والطبقي البائس؛ ليُصبح مساعد وزير التجارة الخارجية، وعضو اللجنة الاقتصادية للحزب الوطني الديمقراطي السابق، ورئيس مجلس إدارة شركة التَّصدير، وعضو مجلس الشورى، وأستاذ القانون اللامع. وسقوطه في براثن الفساد والعلاقات المشبوهة برجال الأعمال المتعاملين مع الوزارة، مستثمرًا قدرته على تفسير النصوص على نحوٍ مرن، عبر ملعبه الأثير "المِنْطقة الرَّمادية". لتقودَه الرَّقابة الإدارية إلى السجن بتهمة تلقي رشوة بمائتي ألف دولار من أحد رجال الأعمال الذي مهَّدَ له الطريق إلى دولة من دول وسط آسيا؛ عقابًا له على تعليقه على إلقاء القبض على أحد المسئولين في وزارة التَّموين بتهمة الرشوة قائلًا : "لماذا يقبضون عليه وهو لم يفعل غير ما يفعله الجميع من أكبر رأس في البلد إلى أصغرها؟". ليعي الدرس، ويستخلص العبرة بأنه مجرد تُرْس في آلةٍ هناك مَنْ يُديرونها، في إطار قوانين مجتمعٍ ريعيٍّ طفيلي استهلاكي يعيش حالة استقطاب سياسي واقتصادي، ويفتقر إلى الحسِّ الاجتماعي والوطني، والثقافة الجادة، والإخلاص للحقيقة العلمية المتجردة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس