الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بليغ النَّغم: قراءة جديدة في تجربة بليغ حمدي الفنيَّة والانسانيَّة(5)

سيمون عيلوطي

2021 / 1 / 21
الادب والفن


(الحلم الضَّائع بين بليغ حمدي وفيروز)

الملِّحن العبقريّ ابن الثَّلاثة والثَّلاثين عامًا، بليغ حمدي، لم يزر بيروت سنة 1964، وهو خاوي الوِفاض، بل كان يتمتَّع برصيد فنيٍّ وضعه في مصاف كبار الملحِّنين، جذب إليه الكثير من المريدين والعشَّاق، لا سيَّما حين وصلت ألحانه إلى قمَّة هرم الغناء العربيّ، أم كلثوم، ما أهَّله أن يجلس متألّقًا على عرش سيِّد درويش الذي بقيَ منذ رحيله شاغرًا، لم يجد من الملحِّنين والموسيقيّين من يجرؤ على خوض المغامرة في التَّجريب والتَّجديد، كما فعل "درويش"، سوى بليغ حمدي، فاستحقَّ أن يجلس على عرشه بكل تقدير.
في تلك الفترة كان نجم الرَّحابنة وفيروز قد سطع في سماء الأغنية اللبنانيَّة -العربيَّة منذ ثمانِ سنوات، رأينا تلك التجربة الفنيَّة تشقُّ طريقها غير المفروشة بالورد، فتتألقُّ يومًا بعد يوم وسط دائرة جماهيريَّة أخذت تتَّسع من حولها لتشمل معظم الأقطار العربيَّة التي استقبلها باسم الآتي إبداعًا.
بليغ، بموهبته المتدفِّقة ألحانًا، رصد تألُّق تلك التَّجربة الفنيَّة الفذَّة، حالمًا أن يساهم هو أيضًا في انطلاقها، لا سيَّما أنَّ المسرح الغنائيّ عند الرَّحابنة أدهشه وسحر قلبه، وقد تزامن عند زيارته لبيروت آنذاك، عرض مسرحيَّة بياع الخواتم.
حلم بليغ بالتَّعاون مع فيروز في هذه الزِّيارة قد تبدَّد، وذهب أدراج الرِّياح قبل أن يبدأ. لكن ذلك لم يأثِّر على اعجاب فنَّاننا الكبير بصوت فيروز الذي ظلَّ يصدح في خياله لما يحمله من طاقات تعبيريَّة جديدة، لم يشهد مثيلًا لها في فنِّ البوح والغناء العربيين على حد سواء.
لا شكَّ أنَّ صوت السَّيدة فيروز مثَّل له حلمًا جميلًا ظلَّ يراوده، وجعله يُحفِّز الطاقات على انشاء مسرح غنائيّ في القاهرة، يكون بمثابة الامتداد الطَّبيعيّ لمسرح سيِّد درويش.
الملاحظ أنَّه إذا كانت تجربة الرَّحابنة وفيروز تنطلق من منابع الفولكلور الشَّعبيّ لتعانق بفنيَّة تصل إلى حد ما يشبه إعجاز الإنشاد الأوبرالي، بما في ذلك التَّأثُّر بالتَّراتيل الكنسيَّة، السِّريانيَّة خاصة، فإنَّ بليغ حمدي يستند على الإيقاعات الشعبيَّة المصريَّة التي سحرته وانغمست في وجدانه، ما ساعده على إعادة صياغتها وبلورتها بألحان موسيقيّة جديدة تُحاكي روح العصر، سحرت الجُّمهور عند بثِّها، لذلك كانت وما زالت بمثابة الابنة الشَّرعيَّة لمجتمعها وبيئتها، فأطلق على مبدعها: وبحق، "موزارت الشَّرق".
أميل إلى الاعتقاد أنَّ التَّعاون الذي أراده بليغ مع فيروز خلال زيارته لبيروت لو تحقَّق، لكان أضاف إلى تجربتها من ألحانه أعمالًا غنائيَّة خالدة يحفظها التّاريخ، وتستقرُّ في الوجدان، تمامًا كما أضاف من قبلها لتجربة أم كلثوم أعمالًا غنائيَّة جاءت على قدر كبير من الإبداع والجمال والتَّجديد. غير أنَّه كان قد لحَّن لفيروز ثلاث أغنيات، لم تخرج إلى النُّور، بل بيقت حبيسة التَّسجيلات الخاصَّة به، ثمَّ لم نعد نعرف ماذا حلَّ بها، ربَّما الجَّواب نجده عند أيمن الحكيم، صاحب كتاب "موَّال الشَّجن"، الذي خصَّصه عن بليغ حمدي.
السُّؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا المقام هو: هل احتكر الرَّحابنة صوت فيروز، فأقاموا عليها حجرًا فنيًّا حَرَمَها من التَّعاون مع ملحِّنين خارج جدران الأسرة، ثمَّ لماذا أوصدوا الباب أمام بليغ حمدي ومن قبله محمَّد الموجي الذي أعرب لهم عن رغبته في التَّعاون معها، وهل جاء استقبالهم لعبد الوهَّاب ليتعاون مع فيروز من منطلق أن يفتح لهم هو بدوره أبواب مصر ومسارحها؟
يُرجِّح البعض أنَّ سبب ذلك يرجع إلى شخصيَّة فيروز الانطوائية الخجولة، بدليل أنَّها بعد انفصالها عن عاصي وابتعاد منصور لم تتعاون مع أحد من الملحِّنين غير ابنها زياد الرَّحباني. أمَّا البعض الآخر فقد أكَّد انها بعد انفصالها عن عاصي أرادت التَّعاون مع رياض السَّنباطي الذي لحَّن لها ثلاثة أغانٍ، لكنها لم تقم بغنائها، ربَّما لتردّدها من الخوض في تجربة الغناء الطَّربيِّ، وهي المتألِّقة في الغناء الشَّعبيّ والتعبيريّ بلا منازع، وهناك من يدَّعي أنَّ الرَّحابنة لم يُحسنوا التَّعاون مع الفنَّانين على أساس النِّد بالنِّد، بديل أنَّ العملاق وديع الصَّافي تركهم وهو غير آسف على عدم استمرار التَّعاون معهم، وغيره من الفنَّانين الذين حذوا حذوه بمجرد أن اشتدَّ عودهم، ملحم بركات مثلًا.
بليغ لم يتنازل عن حلمه في دخول الأجواء الرَّحبانيَّة-الفيروزيَّة، ولتحقيق حلمه دعا إلى مكتبه صبيَّة في عمر الورود، لم تتجاوز في حينه ربيعها الثامن عشر، تُدعى عفاف راضي، وهي مغنِّية معتمدة في الكونسرفاتوار، ما شجَّعه على أن يواصل معها حلمه الذي تركه في بيروت، لا سيَّما أنَّه وجد في صوتها مساحة تتَّسع للغناء الشَّرقيّ، فسرعان ما أخذ يُبدع لها أغنية "ردو السلام"، هذا اللحن المنطلق من تفاصيل فنيَّة مبتكرة، جعله يُغامر معها في تجربة ترتكز على إيمانه بصوتها الذي رآه بعض الملحّنين أنَّه لا يصلح للغناء الشَّرقيّ مطلقًا، لكن بليغ عرف يكف يبدع لهذه الموهبة الحانًا تجسّد حلمة في أن يخلق منها فيروزًا بنكهة مصريَّة، وبهويَّة فنيَّة جديدة، تُحاكي أذهان الجُّمهور، وتخلد في وجدانهم.
ومن الأغاني التي لحنها بليغ لراضي، أغنية "لمين يا قمر" التي يدور لحنها في المناخ الفيروزي، ولكن بطابع مصريّ نجده على الرَّابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=KqkJ-9gx61k

وفي السّياق نفسه، فقد ورد في مدوَّنة عن بليغ حمدي على "الفيس بوك" ما يلي:
"من المفاجآت الغريبة أنَّه عندما اشتدَّت حالات الغضب بين الرَّحباني والسيَّدة فيروز، لم يجد الرَّحبانية تعويضًا لها إلَّا في الاستعانة بعفاف راضي، وكأنَّ الأقدار ردَّت لبليغ الاعتبار"*.

*الإشارة هنا تُدلّ على اسناد دور فيروز في مسرحيًّة "الشَّخص" إلى عفاف راضي، وهي المسرحيَّة التي قام بتمصيرها بناء على طلب عاصي ومنصور الرَّحباني، الشَّاعر أمل دنقل، وقدمّت في القاهرة سنة عام 1982.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟