الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نثرات مناهضة للعولمة ((السوقيّة))

فارس إيغو

2021 / 1 / 25
العولمة وتطورات العالم المعاصر


بالطبع لست من المتفائلين المغتبطين دوماً بالتكنولوجيا، وبالخصوص التكنولوجيا الرقميّة التي تقوم على أساسها أيديولوجيات العولمة؛ ولست أيضاً من الذين قاوموا بشدة إغراء اقتناء الموبيل، أو ضد أي تكنولوجيا جديدة؛ ربما أكون باكراً، ممن راهنوا على قدرة الإنترنيت على زعزعة بعض القلاع العتيقة والمتينة التي ترفض أنظمة الحريّة؛ ولكنني لم أؤمن للحظة بأن ثورات الربيع العربي هي من صنع الفايس بوك؛ هي تراكم سلبي من محطات فشل الأنظمة العربيّة ترافقت مع تراكم إيجابي في الوعي بضرورة التغيير، ساهم فيه جيل حديد من المثقفين العرب النقديين. وما زلت أعتقد بأن التكنولوجيا الشبكيّة ليست مجرد أداة ميديائيّة، بل أكثر من ذلك، هي أداة تغيّيريّة أكثر بكثير من الأدوات الميديائيّة السابقة (الكتاب والجريدة، الراديو والتلفزيون)، لكنني أشكك بقدرة الإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي على توحيد العالم أبعد من تجميعهم متصلين خلف الأجهزة الذكيّة، ومساعدتهم على خلق القبائل الجديدة التي تميّز عصر الحداثة البعديّة.
هذه ملاحظات قصيرة متناثرة كتبت في فترات متباعدة قليلاً تخص ليس ظاهرة العولمة، بل من يريدون أن يستخدموا الظاهرة لكي يفرضوا أجنداتهم الأيديولوجيّة واليوتوبيّة.
ـ1ـ
ماذا بقي من الدولة في عصر العولمة
يعرّف رجال القانون الدولة على أنها ثلاث مكونات:
1) إقليم؛
2) جماعة تاريخيّة (والبعض بدأ يتكلم عن مجرد سكان فقط)؛
3) سيادة، أي حكومة شرعية تسري قوانينها على أراضي الإقليم؛
نشهد في عصرنا الذي يتسم بانتشار أيديولوجيات العولمة وبتقدم النزعة الفردية، هشاشة هذه المكونات الثلاثة، وتطاير بعضها شظايا.
لنبدأ بالمعيار الأول لوجود الدول ـ الأمم، أي الإقليم الذي أصبح لا حدود له. يجري الحديث اليوم عن فضاءات شاسعة تسقط فيها حدود الدول المكونة لها؛ فمثلاً، يمكننا أن نتجول في كل أوروبا تقريباً دون أن يوقفنا شرطي أو عنصر جمركي.
أما فيما يخص الجماعة التاريخيّة، فالعولمة خلطت الاجناس والاعراق والثقافات، وأصبحت الهوية في الغرب هجينة ومركبة، والمجتمعات الغربيّة متعددة الثقافات. عندها فهي تُعاش كـ ((هوية سعيدة)) كما يقول ألان جوبيه رئيس وزراء السابق في فرنسا ووزير الخارجية في عهد ساركوزي، أو تُعاش كـ ((نوستالجيا)) عند الفيلسوف الفرنسي ألان فينكلكروت في عنوان كتابه ((الهوية البائسة)) الصادر عام 2014، أو يُعاش الواقع الجديد عند الصحافي المثير للجدل إيريك زيمور وكأنه ضياع وانحطاط في كتابه ((الانتحار الفرنسي)) الصادر عام 2015.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والتفتت الاجتماعي، وانهيار الدولة ـ الأمة، يصيب الهوية تفككاً من الداخل، فتزداد النزعات الانفصالية للمقاطعات، ففي اسبانيا نجد بالإضافة للشعب الاسباني، الشعب الباسكي والكاتلوني، وفي فرنسا هناك الكورسيكي والبروتوني، ناهيك عن بريطانيا التي نجت مؤقتاً من التفكك.
أما السيادة فهي تتآكل من كافة الأطراف، من فوق: العولمة الاقتصادية والشركات المتعددة الجنسيات والاتحاد الأوروبي، ومن تحت تتفكك السيادة، عن طريق توسع عملية نقل الصلاحيات للمقاطعات والمناطق، وبالإضافة الى تعاظم قوة المجتمع المدني ممثلاً بالمنظمات المدنية اللاحكومية.
ـ2ـ
العولمة واللغات
إن العولمة تقود نحو التخفيض من قيمة وتداول بعض اللغات لصالح لغات أخرى.
لنلقي نظرة على بارومتر اللغات في العالم في عصر العولمة الاقتصادية والتكنولوجيّة.
يدخل في هذا البارومتر كل لغة محكية من قبل خمسة ملايين شخص، ويضم البارومتر بحسب هذا المعيار 137 لغة في العالم، أما ترتيب الخمسة لغات الأوائل، فهي:
1ـ اللغة الإنكليزية.
2ـ اللغة الإسبانية.
3ـ اللغة الفرنسية.
4ـ اللغة الألمانية.
5ـ اللغة الروسية.
بالطبع، لا يأخذ هذا الترتيب فقط المعيار العددي، أي عدد الناطقين بهذه اللغة، بل يعتمد معايير أخرى غير العدد.
المثير للدهشة غياب اللغة الصينيّة من هذا الترتيب الخماسي للغات في عصر العولمة، بالرغم من أن الصين تصبو لأن تكون في العام 2049، أي في الذكرى المئوية الأولى لنشوء الجمهوريّة الشعبيّة، الدولة الأولى المتربعة على السلم الاقتصادي، ومبعدةً الولايات المتحدة إلى المرتبة الثانيّة. تساؤل نتركه مفتوحاً أو مطروحاً أمام التفكير الفلسفي في ظاهرة العولمة وتظاهراتها المتعددة.
لكن، كيف نفهم المقولات التي تتحدث عن بداية انهيار الإمبرياليّة الأمريكيّة، بالرغم من سيادة لغتها في العالم مع هيمنة التكنولوجيا الرقميّة وشركات الغافا التي تتمركز معظمها في وادي السيليكون في كاليفورنيا؟
هنا لا بدّ لنا من التميّيز بين اللغة الأجنبيّة ـ الأداة/ واللغة الأجنبيّة ـ الحياة والثقافة والحضارة، بين تعلم اللغة الأداتي وتعلم اللغة الحضاري. فقد أعيش في لاهور أو الرياض أو نيودلهي وأتقن اللغة الإنكليزيّة كأداة، لكن هذا لن يمنعني من أن أكون هندي الثقافة أو سعودي الهويّة أو باكستاني الانتماء.
وهذه الممارسة للغة الأداة أكثر ما نعي به عندما نزور ضواحي المدن الغربية حيث يكثر أعداد المهاجرين، فنادراً ما نلتقي بمن يتكلم اللغة (الغير الأم) كلغة حياة، وهذا ما لا يسهل مهمة مؤيدي العولمة الشاملة والسعيدة.
العالم الجديد
من يريد البحث عن العالم الجديد، عليه المرور في شارع الوول ستريت في نيويورك (وربما غداً، في شوارع شنغهاي وبيجين) ...
ومن يقول اليوم اقتصاد يعني أرقام، حساب، تكميم، قياس. فقد انتقلت المجتمعات الصناعيّة المتقدمة من مجتمعات حيث كل شيء سياسي إلى مجتمعات حيث كل شيء اقتصادي، والسياسي يعمل في هذا المنحى السائد، أي يبقى السياسي وتغيب السياسة ...
فرنسا التنوير والثقافة والجمهوريّة القائمة على الدولة ـ الأمة، قاومت طويلاً، إلا أنها طأطأت الرأس أخيراً لرأس المال المتعولم مع رئاسة مانويل ماكرون، وهناك العديد من الأشياء الصغيرة في الحياة الفرنسيّة بدأت تدل على الأمركة، لا يمكن تعدداها لكثرتها، مثل الاضطرابات العرقيّة في الضواحي، والابتدائيات الرئاسيّة، وقيام الرئيس مانويل ماكرون في حفل تنصيبه بوضع يده على صدره (جهة القلب)، أثناء عزف النشيد الوطني الفرنسي.
وفرنسا، هي البلد الاخير على قائمة الأمركة في أوروبا. سبقتها الماكينة الالمانية بـ ١٢ عاماً بزعامة المهندسة ميركل. وبدخول فرنسا مملكة المال والاعمال، ينتقل مركز العالم ـ بصورة كاملة ـ من أوروبا الى أقصى أقاصي الغرب. الى الولايات المتحدة الامريكية التي تحتضن وادي السيليكون والشركات الكبرى في عالم اقتصاد المعلوماتية: غوغل، أمازون، فايس بوك، ميكروسوفت (ولكن، ليس إلى أمد بعيد!!).
إنها الثورة المضادة، الحسابيّة الرقميّة الكبرى، التي انتصرت على حضارة المطبعة و ((الحروف)) ...
ـ3ـ
الآلات التكنولوجية التي تفرغنا من آدميتنا
هل يتحول عالمنا الى عالم تقانيات ميت القلب والوجدان؟
يبدو أن تراجع ظاهرة القراءة والنشاط الفكري الابداعي لا يشمل فقط نطاقنا الحضاري العربي، بل هو ظاهرة عالمية. وبعد التوحش النيوـ ليبرالي في مرحلته الاستهلاكية والـ ((السوقية))، قد نلج عصر تغوّل التكنولوجيا، وبالخصوص التكنولوجيا الرقمية.
وعندما يغيب الفكر والثقافة والفن والذوق والجمال، سننتظر حروباً أشد فتكاً وأقسى ضراوة من الحروب الحالية والسابقة، حروب قد لا تكون دوماً أسلحتها ناريّة!!
ـ 4ـ
كيف نعرّف العولمة في عدة كلمات
تشكل العولمة بالنسبة للكثيرين في العالم ظاهرة رهاب التنميط العولمي، والذي يدفعهم إلى العودة الى الخصوصيات الثقافية. الاحتماء بما يسميه فرويد بالفروق الصغيرة، كل فرد يبحث عما يميزه عن الآخر، عن التفاصيل والجزئيات والهوّيات والجماعات الصغيرة أو القبائل ما بعد الحداثية كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي في كتابه الشهير: زمن القبائل (1988).
Le Temps des tribus, 1988 Le Livre de Poche, 1991
ويعطي المفكر الفرنسي ريجيس دوبربيه صاحب الصيغ الفلسفيّة الفريدة، تكثيفاً رائعاً لظاهرة العولمة في عدة كلمات: هي تنميط اقتصادي تكنولوجي وبلقنة سياسية ثقافية ...
ـ5ـ
مسك الختام
يعتبر الفيلسوف السلوفيني (الغريب الأطوار) سلافوي جيجك أن نزعة المجتمعات المتعددة الثقافات هي عنصرية معكوسة (1). يقول في إحدى لقاءاته الصحافيّة: أود أن يكون لي الحرية في ألا أفهم طريقتك في العيش، ولا تفهم طريقتي في المعيشة، ومع ذلك نستطيع أن نتقبّل بعضنا في هذا العالم ...
(1) في المجتمعات المتعددة الثقافات، حيث انهيار العمود الفقري للدولة ـ الأمة، تنخفض العنصرية الكلاسيكية إلى درجاتها الدنيا مع تحول الأغلبيّة الثقافيّة المتوطنة منذ أجيال إلى أقليّة من ضمن الأقليات. لكن، هذا لا ينهي العنصرية الاجتماعية، بل تنشأ مكانها عنصريات ومظلوميات متعددة، وكل واحدة منها تريد أو تروم الهيمنة الثقافية والأيديولوجيّة على الآخرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات