الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلميّة الحراك الشّعبي في تونس، وشروط استرجاع الثورة المغدورة.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2021 / 1 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


العنجهية المقيتة، والثقة اللامحدودة في نفوذ حركة النهضة وقوتها وقدرتها على إخماد التمرّد الشعبي المتعاظم، لا يُفسّر ذُعر قادة هذه الحركة وحسب، بل أيضًا يُشير إلى جهل هؤلاء بحقيقة الموجة الثانية للثورية ودوافعها الموضوعية. أوّلا عندهم سوء فهم للحظة 14 جانفي الفارقة، باعتبارها نقطة تحوّل تاريخي عميق في وعي التّوانسة لأنفسهم وتمثلهم للدّولة وتعريفهم الجديد للحقّ والحرية. وثانيٍا، يبدو أنّهم لم يفهموا بعد منسوب المياه التي جرت منذ 2011، وطبيعة هذا الجيل القُصْووي الذي وُلِد وسط الاحتجاج والتشظّي والتشبّث بمطالب الثورة وافتكاك نصيبه من الوطن.

بناءً على هذا، من الواضح أنّ حركة النهضة بسياسة الإنكار والهروب إلى الأمام، مُضاف إليها عجز الدولة التام على الاستجابة لمطالب الناس الحياتية الدنيا والأساسية المتعلقة أحيانا بالماء الصالح للشراب والكهرباء والغاز والخبز، هذا سيؤدّي بشكل تصاعدي إلى تزايد سخط الشباب. ومن المرجح أن الأحداث تتّجه إلى منعطف العصيان الشامل. مما سيؤدي في النهاية إلى سقوط المنظومة.

طبعا حركة النهضة، بصفتها جماعة شبيهة بالطّائفة المنفصلة على الجسم الوطني، من ناحية أخفقت في التّصالح مع الدولة، ومن ناحية أخرى لم تتمكن منها بشكل مُطلق. وقادتها تقودهم أوهام يقينيّة، لا يعرفون بأنّ الإدارة ذات التقاليد والمواريث الرّاسخة، إنّما خضعت لهم تحت الضغط والإكراه طيلة السّنوات الماضية، وهي تنتظر لحظة التحرّر من قبضتهم. وانتظارها متوقّف بتطوّر حركة التغيّر التدريجي الحاصل في الشارع.

هنا يجب الانتباه إلى تلك الأنظمة السياسية العريقة، التي سقطت رغم امتلاكها للإدارة، وامتلاكها لمئات الآلاف من رجال الأمن والعسكر، ومئات آلاف الضباط والمخبرين والعملاء السرّيين، الذين كانوا جميعهم يُمارسون الوشاية والاعتقال والتعذيب والاختطاف والاغتصاب والقتل، وخلق مناخ من الخوف المستمر. فما بالك بحركة النهضة التي اندمجت بالفساد والكنطرة ما أن وصلت للحكم. وقبل حتى التعرّف على الدولة ومواطن ضعفها وقوتها. وقبل التعرف على الشعب وإمكانياته الكامنة ومزاجه العام. ولم تجني بسبب سياسة الغنيمة والانتفاع السريع، سوى نقمة المواطنين والمثقفين ورجال الإدارة، وراس المال.

من جهة الحراك الشعبي، واضح أن الشّباب التونسي، ولأسباب تاريخية وثقافية، ولعوامل محيطية عديدة، في كافة ساحات الجمهورية، يؤمنون إيماناً راسخاً لا يمكنه أن يتزعزع أن ثورتهم سلميّة. وقد أثبتت لهم الأحداث الوطنية والإقليمية أنّ السّلمية والصّدور العارية وحدها قادرة على هزيمة همجية أيّ نظام مهما كان عاتيا. وكون الشباب يشددون على مبدأ استقلالية الثورة عن الأحزاب، فهذا عامل على غاية الأهمية، ذلك أنّ فشل الطبقة الحاكمة بعد 14 جانفي 2011، هزّ ثقة الشارع في كلّ الوجوه السّياسية المألوفة بشكل فادح، حتى تلك التي لم تحكم ولو يومًا واحدا. وهذا سيتطلّب ولادة حركة سياسية مواطنية من رحم الحراك، وفي خضمّ الصّراع. وهو ما يدعو المعارضة إلى الانتباه إلى هذه الحقيقة، حتى تنجح في مُسايرة حركة الاحتجاج والمحافظة عليها، وإلى تفادى محاولات "تدبير الرّاس" الضّئيلة بعنوان الاستثمار الحزبي و"التّعبئة"، وغيرها من ضروب الوثْب الانتهازي والرّكوب على الأحداث...

كيف يمكن لهذا الحراك الشعبي أن يستردّ الثورة المغدورة؟

قوة اللاعنف:
السّلمية هي درع الحراك الشعبي. وليس ثمّة عدوّ للثورة اليوم، وفي المستقبل، أكثر من التجائها للعنف. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، قوّة الثورة في تونس بالذات تكمن في طابعها السلمي الجماهيري عالي التنظيم، لأن مصدر القوة ينبع من قوّة مطالب المجتمع وشرعيتها. وتقوم "قوّة اللا عُنف" على عنصرين أساسيين:

• أولا: استثمار قمع البوليس.
من المعلوم أنّ التهديد والقمع هو ردّة الفعل الطبيعية للحساسية التي تتميّز بها الأنظمة الفاسدة، ضد أي عمل قد يُعرّيها ويضعف سلطانها وقوتها. ولكن الاستعمال المفرط للعنف ضدّ المتظاهرين في واقع حال تونس، لن ينتج آليا استسلام الشارع وتأمين استمرار التحالف الحاكم في السلطة. بل أن القمع سيؤدّي إلى خلق وضع صراع غير متناسق أخلاقيا بين القمع والنضال السلمي. بحيث يستطيع المحتجون، كلما حافظوا على سلمية الاحتجاج، استخدام هذا اللاتناسق من أجل وضع خصمهم في موقف سياسي ضعيف أمام الرّأي العام الوطني، وأمام العالم. بمعنى أن التّناقض الذي يولِّدُه اللّا عُنف في مواجهة العنف، سيضع حركة النهضة في وضع سياسي صعب وغير متوازن د، يُضعف من قوتها ويزيد من قوة المحتجّين. ويُفاقِمُ عزلتها ويُفقدها إمكانيات السيطرة والتحكم، سواء بظهور معارضة داخلية، أو باعتراض أحد أطراف الائتلاف الحاكم على القمع، خشية التورّط في تحمّل مسؤلية نتائجه. أو بفقدان الولاء المتبقى، ودفع أغلبية المواطنين للخروج من دائرة الصّمت والحياد إلى صفّ الاحتجاج الصّريح.

• ثانيا: تقويض قوة الخصم

من المعلوم أنّ كلّ سلطة تحتاج على الدّوام إلى ولاء جزء من الشّعب، ولا يمكنها أن تحكم بدونه. فإلى جانب احتكار العنف، والشرعية، تتمتّع السلطة بالرّصيد البشري كمصدر قوتها السياسية.، والمتمثل في الأشخاص والمجموعات المُنصاعة لأوامر الحكام، والمتعاونة معهم. والمهارات المعرفية المُسيّرة لدواليب المرفق العام، والإعلام. والعوامل غير الملموسة، مثل الإطمئنان العام ومجالات الرياضة والإبداع ... والعوامل المادية كالثروات الطبيعية والمقدرات الاقتصادية ووسائل الاتصال والمواصلات، وكل ما يتطلب بشرًا طيّعين يُساعدون الحكام على الاستمرار في مواقعهم المتعالية. وأخيراً، هنالك العقويات، التي يهدد الحُكّام باستخدامها لضمان خضوع النّاس وتعاونهم مع النظام العام الذي هو جلّادهم وقاطع أرزاقهم في كثير من الأحيان.

في هذا الباب، إذا استمرّت الثورة الشبابية سلمية، وجلبت أعدادًا غفيرة من المواطنين من مختلف الأعمار والقطاعات، قد تشهد السّاحة تغيّرات جوهريّة، بحيث قد تبدأ بِتَتَالى الاستقالات في صفوف الأحزاب. ونحن نلاحظ من الآن، سندًا ملموسًا للاحتجاجات في البرلمان الذي هو أهم مؤسسات الحكم. هذا فضلًا عن تعاطف رئيس الجمهورية العلنيّ الصّريح مع كلّ التحرّكات الاجتماعية. ومع الوقت، وكلّما ازداد القمع والأساليب الخسيسة كالبلطجة والايقافات العشوائية، ونحو ذلك ... تُجبرُ شرائح عديدة في المجتمع للالتحاق بالحراك الشعبي، بما في ذلك رجال أعمال، ورجال إدارة وشخصيات وطنية وازنة واعتبارية. ذلك أن للثّورات عواملها ودوافعها الموضوعية، ومنطقها الداخلي الخاصّ الذي يتحكم في مساراتها.

يمكننا بغاية الإيجاز، تلخيص حالة انفجار الوضع في تونس، في ثلاثة عوامل رئيسية مترابطة:
أ/ الجوع الذي دفع الناس للشارع مستمر في التفاقم.
ب/ عجز الحكومة على إسكات الجياع سيستمرّ. وستستمرّ معه الوُعود الزّائفة وسياسات الإنكار والبحث عن تعلّات وأكاذيب وشمّاعات لتعليق العجز.
ج/ استمرار الاحتجاج في التوسّع، وبالتالي استمرار المعالجة الأمنية والإمعان في العنف.

هذا الوضع سيُولّدُ مزيدًا من تصميم المحتجين على إسقاط الائتلاف الحاكم. وفي لحظة معيّنة ستصل الأوضاع إلى نقطة اللّاعودة. بحيث إذا ازداد القمع، إزداد عناد المحتجين، وازدادت أعدادهم. وإذا تراجع السّلطة، ستزداد شجاعة المحتجين وإحساسهم باقتراب ساعة النصر. وفي كلّ الثورات، تمثّل تلك اللحظة بداية سقوط النظام. وانطلاقًا منها، تطفو مظاهر فقدانه لمرتكزاته التي أشرنا إليها. فتبدأ مظاهر التعاون مع النظام في الاختفاء، لتحلّ محلّها مظاهر تحدِّيه وإسقاط هيبتهِ. ثم يتوالى مع الوقت انهيار مصادر قوته. فمثلاً ترفض الجماهير شرعية الحكام المنتخبين. ترفض بعض الأجهزة الأمنية تطبيق تعليمات استخدام البطش. يستقيل قادة كبار في الدولة. تُقرّر بعض الكُتل النيابية الاستقالة الجماعية من البرلمان لضرب شرعيته وإسقاطه سياسيا وأخلاقيا. تتوالى الإضرابات ذات الخلفية السياسية. تنخرط بعض القطاعات المهمة في الاحتجاجات، مثل القضاة والمحامين والأطباء والأجهزة الأمنية. أو المسنّين المتقاعدين. أو ذوي الاحتياجات الخصوصية. وتنجم على كلّ هذه الانهيارات النّاعمة، مشاكل كبيرة تشُلّ الاقتصاد، وتخلق جوًّا من عدم التّعاون الإداريّ، ممّا يعيق الوظائف الحكومية. وفي حال تمرّد أجهزة الشرطة والجيش احتجاجا على السياسات العشوائية الجائرة والفاقدة للأُفق، فإن ذلك سيُفْقِدُ الائتلاف الحاكم القدرة على ممارسة القمع ضدّ المحتجّين والمحافظة على النّظام.

في القلب من كلّ هذا، لابدّ من ولادة حركة مواطنية منظمة ولها برنامج واضح ومعقول ومكتوب. وتعرف أين تقف. وماذا تُريد. وإلى أين تسير. لأنّه في لحظة معيّنة، سيُجبَر قادة الحراك على مفاوضة الائتلاف الحاكم ومساومته والتفاهم معه على المستقبل. ولا شكّ أن هذا موضوع سابق لآوانه. ولكن لا يمكن الاستمرار في الاحتجاج بلا أهداف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نيويورك تايمز: صور غزة أبلغ من الكلمات في إقناع الآخرين بضرو


.. فريق العربية في غزة.. مراسلون أمام الكاميرا.. آباء وأمهات خل




.. تركيا تقرر وقف التجارة بشكل نهائي مع إسرائيل


.. عمدة لندن صادق خان يفوز بولاية ثالثة




.. لماذا أثارت نتائج الانتخابات البريطانية قلق بايدن؟