الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحركة العمالية: في الثورة.. وخارج ذاكرتها

رؤوف عبد السلام

2021 / 1 / 27
الحركة العمالية والنقابية


في عام 2006 كانت آمال التغيير التي انطلقت في مصر قد تبدَّدت بالكامل، فنظام مبارك كان قد تمكَّن من محاصرة حركة التغيير الديمقراطي والسيطرة عليها، وحركة استقلال القضاة كانت تراجعت بشكل ملحوظ بعد معاقبة قادة القضاة، واستكمل النظام بالفعل الإجراءات اللازمة لتوريث الحكم عبر التجديد لمبارك وتعديل الدستور بما يسمح بانتقال السلطة لجمال مبارك، فيما جرت التغييرات والتعينات اللازمة في مؤسسات الدولة لإتمام التوريث عندما يحين موعده. وعلى غير موعدٍ تفجَّرت الحركة العمالية من غزل المحلة وانطلقت إلى أنحاء مصر لتعيد الحياة إلى الشارع المصري وتجدِّد الآمال التي بدا أنها تلاشت. واليوم بعد مرور عشر سنوات على ثورة يناير، تبدو الآمال التي أطلقتها الثورة بمجتمع يتسع للعدل والحرية تتبدَّد في ظلِّ الديكتاتورية العسكرية، ودون موعدٍ مرة أخرى تأتي احتجاجات العمال في شركات الإسكندرية للحاويات، وغزل كفر الدوار، وسماد طلخا، والحديد والصلب، لتشق الصمت وتبعث الأمل مجددًا.

على مدار السنوات العشر السابقة على ثورة يناير، شهدت مصر حراكًا سياسيًا متصلًا جعل تلك الفترة مختلفة كليًا عن كل الفترة التي حكمها مبارك. فمع انفجار الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000 تصاعدت بقوة حركة تضامن واسعة النطاق، أعادت الحياة السياسية في مصر، واستمر هذا الحراك السياسي مع غزو العراق في مارس 2003 على نحو أقوى لتحتل المظاهرات المعارضة للغزو ميدان التحرير، في صدامٍ مباشر مع النظام لم يتكرَّر كثيرًا في عهد مبارك. الصدام مع النظام طرح بدوره قضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي الذي تولَّدت عنه حركة كفاية وغيرها من حركات الإصلاح السياسي، والتي طرحت قضية توريث السلطة للمرة الأولى في حركة احتجاجية امتدت لسنوات.

هذا الحراك الممتد في مصر قبل الثورة ساهم في خلق جيل جديد من المعارضة أكثر جذرية وأكثر تطلعًا للتغيير. ولكن رغم أهمية هذا الحراك السابق على الثورة، لا يمكن بأي حال فهم الثورة وطبيعتها دون النظر لصعود الحركة الاجتماعية والعمالية خاصة الذي سبق الثورة أيضًا بسنوات، وترك بصمته عميقةً على مسارها.

قطار الحركة العمالية ينطلق من المحلة
حقيقة الأمر أن ما شهدته مصر قبل الثورة لم يكن مجرد صعود في الحركة العمالية، أو موجة إضرابات عمالية جديدة كالتي شهدتها في فتراتٍ سابقة، ولكن يمكن اعتبارها حركةً عماليةً جديدة.

بدأ الصعود في الحركة العمالية مبكرًا، في عام 2000، فشهدت العديد من شركات قطاع الأعمال والقطاع الخاص احتجاجات متتالية، ولكن يمكن اعتبار إضراب المحلة في ديسمبر 2006 بداية التحول في الحركة العمالية لعدة أسباب.

كان إضراب غزل المحلة هو أول الإضرابات العمالية في موقع ضخم يضم ما يقرب من 20 ألف عامل منذ إضراب عمال غزل كفر الدوار في 1994، وكان إيذانًا بعودة الإضرابات في المواقع العمالية التقليدية التي حملت خبرات الاحتجاجات العمالية.

بدا الإضراب على درجة عالية من التنظيم، فسبقه امتناعٌ عن صرف الأجور، احتجاجًا على عدم صرف المكافأة السنوية، وحدَّد العمال موعد الإضراب مسبقًا وقاموا به في الوقت المحدَّد، واستمر الإضراب لثلاثة أيام، وصاحبه اعتصامٌ في الشركة، بعدها تمت الاستجابة لمطلب العمال وانتهى الإضراب دون صدام بين الأمن والعمال.

المسار الذي اتخذه الإضراب وانتهاؤه بتنفيذ مطالب العمال حفَّزَ الاحتجاجات العمالية في الكثير من المواقع العمالية لتنطلق موجةٌ قوية من الاحتجاجات التي كان إضراب المحلة محطتها الأولى.

لم يكن إضراب المحلة بداية انطلاق للحركة العمالية فحسب، بل كان أيضًا بداية صدام مع التنظيم النقابي الرسمي الموالي للدولة، فالإضراب الذي حدث بعد أسبوعين فقط من نهاية الانتخابات النقابية، التي سيطرت عليها أجهزة الأمن والدولة بالكامل وفرضت رجالها في كل مستويات النقابة، كان من أهم فعالياته جمع استمارات لسحب الثقة من اللجنة النقابية بالشركة وتوجُّه وفد كبير من عمال الشركة في فبراير 2007 للنقابة العامة للغزل والنسيج في القاهرة لتسليم الاستمارات، وهو ما خلق استمرارًا لمعركة عمال غزل المحلة من جهة، ومن جهة أخرى كان هذا بداية صدام مع التنظيم النقابي الرسمي والذي سيبلغ ذروته بتأسيس النقابات المستقلة.

يوضِّح الجدول التالي (1) التصاعد في الحركة العمالية من عام 2000 حتى 2010، ويشير بوضوح إلى أن الحركة العمالية قبل الثورة كانت أصبحت بالفعل رقمًا مهمًا في معادلة الحراك الذي كانت تشهده مصر في ذلك الوقت.

الجدول 1 - عمال

ربما يُظهِر الجدول تغيراتٍ كمية مهم في الحركة العمالية من حيث عدد الاحتجاجات وتنوُّعها، ولكن هناك تغيراتٍ نوعية مهمة أيضًا لا يكفي الحصر الكمي لتوضيحها.

فالجدول يبيِّن تضاعف معدلات الاحتجاجات العمالية في السنوات السابقة على الثورة. ولكن عدد الاحتجاجات لا يعبر وحده عن حجم الحركة العمالية في تلك الفترة. فقد يكون هناك إضرابٌ عمالي واحد يضم عشرات الآلاف من العمال ويمثل تحولًا في الحركة العمالية بينما عدد من الإضرابات في منشآت صغيرة لا تضم سوى المئات من العمال، ومثال ذلك إضراب عمال شركة غزل المحلة في ديسمبر 2006 والذي ضم ما يقرب من 20 ألف عامل وشكَّل بداية لانفجار الإضرابات العمالية. وقد شهدت تلك السنوات دخول التجمُّعات العمالية الضخمة في احتجاجاتٍ ممتدة. فمثلًا عام 2008، الذي يبدو الأقل في الاحتجاجات العمالية في السنوات الأربعة السابقة على الثورة، إلا أنه العام الذي شهد انتفاضة المحلة التي شارك فيها مئات الآلاف من عمال وأهالي المحلة. وشهدت تلك السنوات انتقال آليات الاحتجاج العمالي لقطاعاتٍ لم يكن الكثيرون يحسبونها ضمن الحركة العمالية، مثل موظفي الحكومة والمعلمين والأطباء وغيرهم.

مطالب أشمل وحركة عمالية أوسع
الزيادة الكمية الهائلة للاحتجاجات العمالية، وامتداد الفترات الزمنية لتلك الاحتجاجات، والتي امتدت لأسابيع وشهور في بعض الحالات، خلقت بيئةً مناسبة لتطور آليات العمل العمالي، وجعلت الحركة أكثر جذرية سواء على مستوى الآليات التي اتبعها العمال أو على مستوى المطالب التي رفعوها. وبالإضافة لانتفاضة المحلة في أبريل 2008 والتي تعد بروفة مبكرة لثورة يناير، تميَّزت الحركة العمالية بالمواقف الجريئة، مثل حصار عشرات الآلاف من موظفي الضرائب العقارية لمجلس الوزراء في ديسمبر 2007، وحصار مجلس الشعب من قبل عمال عدد من الشركات، ثم محاولة اقتحامه في مايو 2010. لقد أكَّدت الحركة العمالية عشية الثورة أنها قادرةٌ على المبادرة والمواجهة والتعبئة بما أثَّر بشدة على الحراك السياسي في مصر في ذلك الوقت. وعلى جانب آخر شهدت المطالب العمالية تطورًا مهمًا في تلك الفترة. فعادةً ما كانت مطالب العمال في احتجاجاتهم تنصبُّ على المطالب المصنعية المباشرة، والمطالب الجزئية التي تخص مؤسسة بعينها أو حتى جزء من المؤسسة. لذا كانت المطالب العمالية الأكثر شيوعًا ترتبط ببدل الوجبة والحوافز والأرباح وغيرها من المطالب المصنعية. ولكن مع تصاعد الحركة العمالية بدأت المطالب العمالية تغدو أعمق. لقد مثَّلَت مظاهرةٌ لعشرة آلاف عامل من شركة غزل المحلة في 17 فبراير 2008 نقطة تحوُّلٍ في المطالب العمالية. فقد تظاهر العمال وقتذاك للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه، ليس لعمال غزل المحلة بل لكلِّ عمال مصر. كانت تلك هي المرة الأولى التي يُنظَّم فيها احتجاجٌ لرفع مطلب عمالي على المستوى القومي، وبعدها أصبح مطلب الحد الأدنى للأجور على قائمة أغلب الاحتجاجات العمالية. بدأت كذلك المطالب الأعمق والأشمل لعلاقات العمل تفرض نفسها على احتجاجات العمال، مثل حق التثبيت في العمل، والحق في التنظيم، ورفض الخصخصة.

التطور في أسلوب الاحتجاج والمطالب صاحبه تطوُّرٌ أهم على مستوى التنظيم. فمع اتساع نطاق الإضرابات العمالية في مصر ظهرت الحاجة للتنسيق والتنظيم. وقد تمكَّنت الحركة العمالية من تطوير آليات التنسيق والاتصال ظهر تأثيرها قويًا في احتجاجات منظمة على مستوى الجمهورية، مثل إضراب الضرائب العقارية وإضراب البريد واحتجاجات المعلمين. أما تطوُّر القدرة التنظيمية للحركة العمالية، فقد كشف الفراغ النقابي الذي عانى منه العمال، مع تبعية التنظيم النقابي الرسمي للحكومة وهيمنة الحزب الوطني الحاكم عليه، ما دفع العمال لكسر هذه الهيمنة بتأسيس موظفي الضرائب العقارية لأول نقابة مستقلة في ربيع 2009 وإنهاء نصف قرن من احتكار الدولة للعمل النقابي، مفتتحين بذلك حركة استقلال النقابات. كان ذلك أكبر إنجاز أحرزته الحركة العمالية في مصر ليس فقط لكونه مكسبًا عماليًا يتمثَّل في انتزاع الحق في التنظيم، ولكن أيضًا على المستوى السياسي. فالتنظيم النقابي الرسمي كان أحد أهم أدوات السيطرة لدى النظام الحاكم في مصر في ذلك الوقت، وبناء حركة نقابية مستقلة كان بمثابة هزةٍ قوية لإحدى مؤسسات النظام القوية.

ولَّدَ انتشار الاحتجاجات العمالية في مصر في السنوات السابقة على الثورة، دون شك، تأثيرًا عميقًا في الشارع المصري، وحجز مكانه في الذاكرة الجماعية، وهو ما بدا واضحًا خلال الثورة.

الحركة العمالية كتمهيدٍ للثورة
كان من أهم نتائج الحركة العمالية في مصر ورفعها للمطالب الخاصة بالأجور ومستويات المعيشة والفساد في الشركات التابعة للدولة والفشل الإداري هو الدور المهم في بلورة الأزمة الاجتماعية والتي برزت بقوة في شعارات الثورة، كما فتحت الحشود العمالية في الإضرابات والاعتصامات والتي وصلت لعشرات الآلاف في بعض الاحتجاجات آفاق الحركة الجماهيرية وجعلت حشد الجماهير الضخمة أمرًا ممكنًا.

إضافة إلى تلك التأثيرات لا يمكن التغافل عن الأثر الواضح للحركة العمالية على آليات الثورة ومظاهرها. لقد شهدت ثورة يناير آلية احتلال الميادين ومحاصرة مؤسسات الدولة، وبناء المتاريس لمواجهة قوات الأمن، وتشكيل لجان الإعاشة وفرق الحراسة، والمشاركة الواسعة للنساء في الثورة، والحقيقة أن تلك الآليات والمظاهر التي شهدتها الثورة ومارسها الثوار كانت تقوم بها الحركة العمالية في احتجاجتها وإن على نحوٍ أصغر، كما لو كانت بمثابة تجارب للثورة. لقد احتلَّ عمال المحلة ميدان طلعت حرب داخل الشركة في اعتصاماتهم المتتالية، وتصادموا مع قوات الأمن من خلف المتاريس في أبريل 2008 واحتل موظفو الضرائب العقارية مبنى مجلس الوزراء، واحتلوا شارع حسين حجازي لأسبوع كامل في ديسمبر 2007، واعتصم عمال عدد من الشركات أمام مبنى البرلمان في مايو 2010، وشكَّل العمال في احتجاجاتهم لجان الإعاشة وفرق لحراسة المنشآت وحماية الاعتصامات، وشهدت احتجاجات العمال مشاركة نسائية كبيرة في المواقع التي كانت بها عاملات وحتى في المستويات القيادية للحركة لعبت العاملات دورًا ملحوظًا. كانت بصمات الحركة العمالية واضحةً وبارزةً على ثورة يناير بحيث يصعب تجاهلها.

لم يقتصر دور الحركة العمالية في ثورة يناير على هذا التأثير، ولكن مشاركة العمال في الثورة كانت أحد أهم ملامحها. ورغم التغافل المعتاد عن دور الحركة العمالية في الثورة، والنزوع الدائم لاختصار الثورة في ميدان التحرير، تؤكِّد الوقائع والأحداث غير ذلك.

العمال في طوفان الثورة
في المرحلة الأولى للثورة ومع تطبيق حظر التجول لساعات طويلة كانت هناك صعوبة في تجمع العمال في المنشآت وأماكن العمل التي أغلق أغلبها ومنح العمال بها إجازات، ولكن مع تقليص ساعات الحظر بدأت الحركة العمالية تبرز في الثورة.

ففي السويس مثلًا، دعا إلى الاعتصام عمال أكثر من عشر شركات، منها أربع شركات تابعة لهيئة قناة السويس، وإن لم تكن متصلة بالعمل في الممر الملاحي، بالإضافة إلى شركة لافارج للأسمنت والزجاج المسطح وغيرها. كذلك أعلن عمال الشركة المصرية للاتصالات الاعتصام. وبدأ عمال النظافة والتجميل بالجيزة الاعتصام والإضراب وقطعوا أحد الشوارع الرئيسية في المنطقة، وهو ما فعله عمال شركة أبو السباع للغزل والنسيج بالمحلة.

تلت الموجة الأولى من الاحتجاجات العمالية موجةٌ أقوى، نظَّمَ فيها عمال الاتصالات تظاهراتٍ أمام العديد من السنترالات بالقاهرة والمحافظات أسوةً بزملائهم في شركة الاتصالات. وأضرب عمال ورش السكة الحديد، ودخل عمال هيئة النقل العام على خط الاحتجاجات، إذ بدأ موظفو ثلاثة فروع بالإضراب، ثم بدأت باقي الفروع تنضم لهم. ولم يتأخر عمال البريد الذين بدأوا بالتظاهر أمام مقر الهيئة الرئيسي بالعتبة، ثم توالت حركتهم بالمحافظات. ولم تخلُ منشآتٌ حيوية مثل المطار وشركات الإنتاج الحربي من التحركات، سواء بالإضراب عن العمل أو التظاهر والاعتصام. كذلك وصلت الاحتجاجات إلى بعض شركات البترول والنسيج في حلوان وكفر الدوار. ولم تستثن التحركات القطاع الصحي، فأعلنت قطاعات التمريض الاعتصام في مستشفيات أسيوط وكفر الزيات والقصر العيني ومعهد القلب وغيرها. والحدث اللافت كان انتفاضة عمال المطابع والإدارة في مؤسسة روز اليوسف الصحفية ومنعهم رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة، المقرَّبين من سلطة مبارك، من الدخول إلى المؤسسة. وكان عمال الجامعة العمالية قد سبقوهم إلى الاعتصام واحتجاز رئيس الجامعة، وهو نفسه نائب رئيس اتحاد العمال الموالي للدولة وعضو الحزب الوطني.

هذه مجرد أمثلة على التحركات العمالية خلال الثورة، وللأسف لا يوجد حصر كامل لهذه التحركات، ولكن قبل أيام من سقوط مبارك كان هناك ما يشبه الإضراب العام في مصر ولكن دون إدارة مركزية. وبطبيعة الحال لم تنطلق الحركة العمالية كلها بالطبع لمساندة الثورة مباشرةً، فبعضها قد رُفِعَت فيها بالفعل شعارات تأييد للثورة، وردَّد العمال الهتافات ضد النظام ومع الثورة، وفي المقابل، اكتفى البعض برفع المطالب العمالية، سواء الاقتصادية أو النقابية. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال التأثير المتبادل بين الثورة والحركة العمالية.

والملاحظ أن المناطق ذات الطابع العمالي والتي كانت الحركة العمالية مشتعلة بها قبل الثورة، مثل السويس والمحلة والإسكندرية، فضلًا عن القاهرة، كانت الأكثر انتفاضًا وفاعلية خلال أيام الثورة.

وقد يكون عدد من قدمتهم الطبقة العاملة كشهداء ومصابين خلال الثورة أكبر دليل على دور الطبقة العاملة وحركتها ليس فقط في التمهيد للثورة، بل أيضًا في حسم انتصار الثورة على نظام مبارك. يصعب الحصول على بياناتٍ كاملة لشهداء الثورة، ولكن البيانات المتوافرة تحمل إشارةً هامة. فبحسب كتاب “ضوء في درب الحرية” الصادر عن الشبكة العربية لحقوق الإنسان، فإن عدد الشهداء 841 شهيد، ولكن للأسف لا تتوافر بيانات أغلبهم الخاصة بالعمل. وفي حصر آخر للجنة نقابة الصحفيين، تم إحصاء 279 شهيد كان لـ120 منهم فقط بيانات متعلقة بالمهنة ومن هؤلاء الـ120 كان 74 عمال والباقي طلاب ومهنيين. ورغم غياب حصر دقيق لبيانات شهداء الثورة، تشير البيانات المتوفرة إلى أن نسبةً كبيرة من الشهداء كانوا من العمال فضلًا عن أن بيانات محل السكن تشير إلى أن أغلبهم من المناطق الفقيرة. وتؤكِّد بيانات مصابي الثورة، وهي الأسهل في الحصول عليها، هذه النتيجة. فبحسب بيانات “جمعية أبطال ومصابي الثورة”، التي ضمت 4500 مصاب في الثورة، كان 70% من المصابين عمالًا بدون مؤهلات، و12% عمالًا بمؤهلات متوسطة، أي أن 82% من المصابين من العمال، و11% طلاب مدارس، و7% مؤهلات عليا. يوضح هذا الإحصاء بحسم، بالإضافة للإحصاءات والبيانات المتوفرة عن شهداء الثورة، أن العمال والفقراء هم أكثر من دفعوا ضريبة الدم في الثورة المصرية وأن تضحياتهم العظيمة هي ما مكَّنت الثورة من الإطاحة بمبارك.

إن الدور الذي لعبته الطبقة العاملة في الثورة يعني بكل تأكيد أن لها استحقاقات وأن من حقها أن تجني بعضًا مما حققته، وأن المطالب التي رفعها العمال في وجه نظام مبارك قد آن أوان تلبيتها، وأن تحسنًا في أوضاع العمال قد يكون أقل ما يجب أن يجنيه العمال بعد الثورة. ولكن متابعة تطور أوضاع العمال عقب الثورة التي شاركوا فيها يُظهِر أن الأمور لم تسر على هذا النحو.

مطالب عمالية وحملات معادية
كانت النتيجة المباشرة لذلك صعود الاحتجاجات العمالية في الفترة الأخيرة من حكم مبارك كما ذكرنا. وقد كان امتداد موجة الاحتجاجات العمالية الضخمة لفترة زمنية طويلة، من ديسمبر 2006 وحتى انفجار الثورة، دورًا مهمًا في بلورة المطالب الجماعية للعمال بالإضافة إلى المطالب الجزئية المتعلقة بكل منشأة أو قطاع عمالي. لقد تبلورت بوضوح خلال تلك الفترة المطالب الرئيسية لجموع العمال والتي انصبت على الحق في التثبيت في العمل، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه شهريًا آنذاك، وربط الحد الأدنى للأجور بمعدلات التضخم، ووضع حد أقصى للأجور، والحق في التنظيم وبناء النقابات الممثلة للعمال بعيدًا عن سيطرة الدولة. والحقيقة أن الحركة العمالية حتى قبل الثورة قد قطعت شوطًا غير قليل في انتزاع هذه المطالب. فعلى صعيد الأجور فرضت إضرابات العمال على مؤسسات الدولة مناقشة الحد الأدنى للأجور وتقديم عدة اقتراحات لم ترق ساعتها لمطالب العمال. وعلى صعيد الحق في التثبيت في العمل، انتزعت أيضًا احتجاجات العمال اعتراف الدولة بهذا الحق، وكانت أشهر تلك التحركات اعتصامات عمال مراكز المعلومات التي انتزعت من الدولة قرار بالتثبيت. وعلى صعيد الحق في التنظيم، تمكَّن العمال من البدء في تأسيس نقابات مستقلة وإجبار الدولة على الاعتراف بها والدخول معها في مفاوضات قبل الثورة. وكان عدد النقابات المستقلة التي تأسست قبل الثورة أربع نقابات، هي نقابة الضرائب العقارية، واتحاد المعاشات، ونقابة المعلمين، ونقابة الفنيين الصحيين. المثير أن النقابات الأربع قد نظمت مؤتمرًا تأسيسيًا للاتحاد المصري للنقابات المستقلة في قلب ميدان التحرير في 30 يناير 2011 أي أثناء الثورة نفسها. إن تصدُّر العدالة الاجتماعية شعارات الثورة كان له وثيق الصلة بتطور الحركة العمالية. وتقدُّم الحركة العمالية في تحقيق مطالبها قبيل الثورة كان يعني أن المطالب لن تجد صعوبة في تحقيقها. ولكن رغم اقتراب الحركة العمالية من تحقيق مطالبها قبل الثورة، فإن المطالب نفسها بدت أبعد عقب الثورة التي كان العمال بعضا من وقودها.

في أعقاب الإطاحة بمبارك تزايدت معدلات الاحتجاج العمالي وانتشرت الاعتصامات والإضرابات في كل مكان للمطالبة بحقوق العمال في الأجور العادلة، والتثبيت في العمل، والتنظيم النقابي المستقل، وتحسين شروط العمل، وأيضًا للمطالبة بتطهير المؤسسات من رجال النظام السابق، وتشغيل الشركات المتوقفة. وفي الوقت نفسه، بدأت حملة معادية للحركة العمالية على المستوى الإعلامي والسياسي والتشريعي. فإعلاميًا، ظهر مصطلح “الاحتجاجات الفئوية” لوصف التحركات العمالية واعتبارها حركةً منفصلة عن الثورة وليست جزءًا منها. وبدأ اتهامها صراحةً في وسائل الإعلام المختلفة بـ”الأنانية” وتفضيل المطالب الجزئية الخاصة بالعمال على المطالب الكلية للثورة. وعلى المستوى السياسي، لم تعر القوى السياسية الحركة العمالية اهتمامًا يُذكَر، ولم تقدم لها أي دعم، ولم تخلُ مواقف بعض القوى من الإدانة للحركة العمالية ولو بالتلميح. أما على المستوى التشريعي، فكان أول تشريع يصدر بعد الثورة هو المرسوم بقانون رقم 34 لسنة 2011 الصادر المجلس العسكرى في أبريل 2011، والذي عُرِفَ بقانون “تجريم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت”، وكان يتيح فض الاحتجاجات العمالية بالقوة وإحالة العمال للمحاكم العسكرية. وبالفعل جرى فض احتجاجات عمالية بالقوة أمام مجلس الوزراء، وأحيل العشرات من العمال للمحاكمات العسكرية، وصدر حكمٌ ضد 11 موظفًا بحي غرب الإسكندرية بالحبس 6 أشهر بسبب التظاهر للمطالبة بتطهير الأحياء والمحليات وإبعاد العسكريين عن تولى مناصب قيادية بها. ولكن هل يمكن بأي حال فصل مطالب الحركة العمالية عن مطالب وشعارات الثورة؟

يوضِّح الجدول التالي (2) أهم المطالب التي رفعها العمال في الاحتجاجات في الشهور التالية على الثورة.

الجدول 2 - عمال

تُظهِر بيانات الجدول أن مطالب الحركة العمالية عقب الثورة كانت امتدادًا للحركة ومطالبها قبل الثورة، فكما يتضح شغلت الأجور النسبة الأكبر من مطالب العمال عقب الثورة ثم التثبيت في العمل. ولكن المطالبة بتطهير المؤسسات من الفساد وبقايا نظام مبارك شَغَلَ نسبةً مهمة من المطالب العمالية. لقد مثَّلَت الحركة العمالية عقب الثورة استمرارًا للثورة ودفعًا لها إلى داخل مواقع العمل لتحقيق أهداف المتمثلة في العدالة الاجتماعية واستئصال الفساد من جذوره في المؤسسات.

ورغم ذلك جرت محاولة حصار وعزل الحركة العمالية عقب الثورة، وأُعيدَ استخدام نفس وسائل نظام مبارك في القمع والاضطهاد للحركة العمالية، بل وأسوأ منها أيضًا. فقد تمكَّنَت الحركة العمالية قبيل الثورة من فرض حق الإضراب، وأجبرت الحكومة على التفاوض مع الإضرابات بدلًا من قمعها، واستطاعت كما أسلفنا فرض النقابات المستقلة كأمر واقع. أما عقب الثورة التي شارك وضحى فيها العمال، فقد تم فض احتجاجات عمالية بالقوة، وجرى التشهير المنظم بالإضرابات العمالية، وتم إحالة العمال للمحاكم العسكرية بتهمة الإضراب.

ويبقى المؤشر الأساسي على أوضاع العمال عقب الثورة هو مدى التقدم في تنفيذ المطالب التي رفعوها قبل وأثناء الثورة والتي بلورها العمال في احتجاجاتهم الممتدة لسنوات قبل الإطاحة بمبارك والتي لم تجد طريقها للتحقق في الفترة التالية على الثورة. لقد كان الحد الأدنى للأجور والكافي لحياة كريمة، والحق في التنظيم واستقلال النقابات عن الدولة، هما أهم مطلبين بلورتهما الحركة العمالية وأصبحا عنوان احتجاجات العمال عشية الثورة.

وبالنسبة لمطلب الحد الأدنى للأجور الذي رفعه العمال في احتجاجاتهم منذ فبراير 2008 مطالبين بـ1200 كحد أدنى للأجر الشهري، وعلى الرغم من انخفاض تلك القيمة بفعل معدلات التضخم المتراكمة منذ ذلك الوقت، فقد قُدِّمَت العديد من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤكِّد إمكانية وضرورة تنفيذ ذلك المطلب. كما ارتبط مطلب الحد الأدنى للأجور دائمًا بمطلب وضع حد أقصى للأجور بهدف تقليل التفاوت الضخم في الدخول وأيضًا توفير الموارد الكافية لرفع الحد الأدنى للأجور، وكان وضع حد أقصى للأجور مرتبط بالحد الأدنى ليجعل من مصلحة أصحاب الشرائح العليا من الأجور رفع الحد الأدنى للأجر. ولكن ما تم في قضية الحد الأدنى والأقصى للأجور كان الهدف منه تسكين مطالب العمال وليس تلبيتها. فكل ما تم تحقيقه عقب الثورة هو زيادة الحد الأدنى للأجر الشامل وليس الأساسي للعاملين بالدولة إلى 700 جنيه، وذلك عن طريق رفع الأجر المتغير وليس الأساسي. ورغم صدور المرسوم المرسوم بقانون رقم 242 لسنة 2011 بشأن الحد الأقصى للدخول وربطه بالحد الأدنى، لم تصدر اللائحة التنفيذية للقانون إلا بالقرار 322 الذي أصدره رئيس الوزراء كمال الجنزوري عام 2012. وحتى بعد صدور اللائحة التنفيذية لتنظيم العلاقة بين الحدين الأدنى والأقصى للأجور، لم تُنفَّذ حتى خريف عام 2013. والملاحظ أن الحد الأدنى الذي تقرَّر كان أقل بكثير مما طالب به العمال، واقتصر تطبيقه اقتصر على رفع الأجر المتغير فقط على العاملين بالدولة، أي أن أكثر من ثلاثة أرباع العاملين بأجر لم يستفدوا منه. والواقع أن المطلب الذي رفعته الحركة العمالية منذ عام 2008 برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 لكافة العاملين بأجر كان من المفترض أن يرتفع نظرًا لمعدلات التضخم التي تراكمت منذ رفع المطلب حتى عام 2011 لا أن ينخفض.

أما الحق في التنظيم، الذي يحمل طابعًا ديمقراطيًا واضحًا، ويصعب اعتباره “فئويًا” والذي انتزعته بالفعل الحركة العمالية قبل الثورة بتأسيس النقابات المستقلة وفرضها، ولم يبق عقب الثورة سوى إقراره تشريعيًا، فقد جرت معه نفس المماطلة. فرغم إعلان الحريات النقابية الذي يراعي المعايير الدولية عقب الثورة بمشاركة وزير القوى العاملة ومدير منظمة العمل الدولية، كتمهيدٍ لإصدار قانون جديد للنقابات العمالية، يتيح الحق في التنظيم واستقلال العمل النقابي عن الدولة بدلًا من القانون 35 لسنة 1976، ظلَّ ذلك التشريع في جولات حوار بين أطراف علاقة العمل وفي لجان البرلمان ولم يجد طريقه قط للصدور، وصدر بدلًا منه قانون النقابات الجديد في 2017 ليؤكِّد هيمنة التنظيم النقابي الرسمي التابع للدولة على الحركة النقابية، والإجهاز على حركة النقابات المستقلة.

خاتمة
مثلما كانت الحركة العمالية ضرورة لانتصار الثورة، كان إبعاد الحركة العمالية عن المشهد وعزل المطالب الاجتماعية عن المطالب السياسية واعتبارها دخيلة على الثورة خطوة مؤثرة على طريق ضياع الثورة. فإهمال المطالب الاجتماعية وقمع الحركة العمالية أفقدا الثورة أهم ظهير لها.

من الصعب فهم مسار ثورة يناير بداية من إرهاصاتها وحتى تراجعها دون فهم تطور مكان الحركة العمالية فيها، هذا الفهم هو ما يمكن أن يجنِّب ثورة قادمة مصير ثورة يناير.

هوامش:
(1) تقرير “الاحتجاجات العمالية في مصر عام 2012” – المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
(2) تقارير مركز أولاد الأرض لحقوق الإنسان عن الاحتجاجات العمالية في الشهور الواردة بالجدول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر محمد جبران خلال احت


.. كلمة الرئيس السيسي خلال احتفالية عيد العمال من مجمع هاير الص




.. حسن شحاتة وزير العمل: في مجال خفض معدلات البطالة كان لوزارة


.. وقفة احتجاجية لطلاب جامعة إدلب دعما للشعب الفلسطيني




.. محتجون يحاصرون وزارة العمال والنقابيين البريطانيين للضغط على