الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لحظة شجاعة نادرة … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 28
الادب والفن


المكان ينضح بنور الفجر ، وهدوءه .. ينتزع علاوي نفسه من غفوته .. دونما رغبة منه .. تحت الحاح ممل من أمه ، ينزلق من تحت الغطاء ، وجسده لا يزال يحمل نعاس الفراش .. رغم ازعاجها له كل صباح ، وهي تناديه ليستيقظ قبل ان يسرقه الوقت .. لكنه يحب صوتها ، ويتفائل به ، يذهب الى الحمام ليغتسل ، يتناول على عجل ، وهو واقف لقيمات من خبز ، وبيض مسلوق .. تسرع أمه في اعداد وجبة غداء بسيطة تضعها في حافظة صغيرة ، ليأخذها معه الى الورشة كعادته كل يوم .. يُقبّل يدها ، ويخف مسرعاً مغادراً الحجرة وسط دعواتها النابعة من القلب .
لا تستطيع ان تغالب دموعها ، وهي ترى ابنها يستيقظ فجراً منتزعا نفسه من احلى نومة .. في وقت يغط فيه اقرانه من نفس العمر في نومهم اللذيذة ، فعندهم من يقوم بمسؤولياتهم .. يذهبون الى المدارس في وقت يذهب علاوي الى الورشة صبي نجارة في ورشة لصناعة الاثاث الجاهز !
رحل عنهم ابوه في حروب غبية لا معنى لها ، وتركهم اطفالا ، وهو اكبرهم ، طفلاً يخطو فوق سنواته الخمسة عشر ، رغم تظاهره بانه رجل يستطيع ان يعيل اسرته ، ويهتم بأمه واخوته الاربعة ، ويحميهم .. كان يشعر على صغره بوجع أمه .. وجع فراق ابيه الذي ليس له سلوى !
وهو في طريقه الى الخارج .. يرى العصافير ، وطيور الفاخت ، وهي تتحرك بروح مرحة وثابه ، ويسمع حفيف اجنحتها ، وهي تتنقل بخفة من مكان لآخر ، تبدء بالتفرق دفعةً واحدة عندما يقترب منها ، يرمى ما كان في يده من بقايا خبز ، تتجمع حوله ، وهي تتقافز متحفزةً .. يقف منتظراً حتى تُكمل اكلها ، تمزق صمت المكان بزقزقتها الفرحة ، وتملئه بنوع من البهجة والسرور !
يغمض عينيه الناعستين من شدة الضوء ، وهو يواجه الشارع في مشيته المتثائبة .. مستقبلاً وشوشة اليقظة الاولى .. في فجر أول يوم من أيام الاسبوع بعد عطلة الجمعة التي قضاها في ترميم سقف كوخهم المتهالك .. استعداداً لشتاء يقولون بأنه سيكون بارداً ، وممطراً .. سرعان ما تحولت الوشوشة الى ضجيج الحياة الصاخب ، يتبادل تحيات الصباح مع القلة من اصحاب المحلات الفاتحة في هذا الوقت المبكر ، ترتسم على وجهه ابتسامة ودودة لا تقيم حاجزاً بينه ، وبين الاخرين .. كانوا يردون عليه التحايا ملقبينه بالاسطى علي .. اعتزازا به ، وبروح الرجولة المبكرة الظاهرة في شدة بنيانه ، وتصرفاته .. ينفرد بنفسه في المتبقي من مسافة ، وهو يتمتم بصلوات كانت امه قد لقنته اياها ، حتى تطرد الشر ، وتجلب الرزق ، وتحبب الناس فيه !
يتنقل بين شوارع متشابكة ، تتفتت الى دروب ضيقة .. متجنبا حركة السيارات ، والتكاتك ، والدراجات ، ويسلم على هذا ، ويصافح ذاك من زملائه الشغيلة الكادحين ، وهو سعيد ، ومسرور بانه يحظى بالكثير من اهتمامهم ، ومحبتهم ، فقد ألف المكان واهله ، ويعرف الى اين يمضي .. حتى لو اغمضوا عينيه كما يقول دائماً لاخوته الصغار وأمه .. كان سعيداً بعودته الى الحياة .. الى العمل الذي يحبه ، والذي بدء يتعلم اولى مبادئه ، وكان الاسطى صاحب الورشة يحبه ، ويعطف عليه ، وكثيرا ما كان يقضي معه بعض الوقت ، ليعلمه اصول ، واسرار المهنة حتى بدء يتقن اشياء كثيرة عنها .
يأخذ المفتاح من الحارس ، ويدخل الورشة ليقوم بعمله اليومي الذي اعتاده ، واتقنه .. بتنظيف الورشة من الزيادات والبقايا ، يجمعها ويلقي بها في حاوية القمامة ، يرش المكان بالماء ، ثم يدخل غرفة الاسطى الذي اعطاه نسخة من مفتاحها لثقته العالية به ، ينظفها ، ويرتب الاوراق والسجلات ، وهو لا يفهم منها شيئاً ، ولا يستطيع ان يقرء منها حرفاً ، فقد حرمته الظروف من التعليم ، يمسح ارضيتها ، ويرتب السرير الصغير الذي يستعمله الاسطى للقيلولة .. يقفلها ، ويخرج الى واجهة الورشة يكنسها ، ويرشها بالماء ، ثم ينزوي في ركن صغير بانتظار الاسطى ، وبقية العمال ، وهو يرد تحايا جيرانه الشغيلة من الورش الاخرى ، كأن هناك قوة آسرة في هذا الصبي تجذبه اليهم .. يجلس يداعب احلامه الصغيرة ، وخيالاته او يدندن بلحن ريفي حزين ، حتى تأتي اللحظة التي يحضر فيها الاسطى ، والعمال ، ليبدء يوم عمل جديد … !
وفي يوم .. يرسله الاسطى الى السوق ليشتري حاجيات اوصته عليها زوجته ، يكمل شراء ما اوصاه به ، يعود محملاً باثقال اكبر من طاقته ، لكنه سعيد بمدى الثقة التي يحظى بها من رب عمله ، وعند وصوله الى بداية الشارع .. يشاهد الناس تتدافع ، وبعضهم يصرخ طلباً للنجدة ، يهرع احد العمال للاتصال بالاطفاء ، يترك علاوي ما بيدة ، ويجرى الى الورشة ليرى النيران وقد نشبت فيها ، الجميع يصرخ بصوت واحد : الاسطى في غرفته محاصراً بالنيران ، لا احد يجروء على الدخول .. تبخرت لحظات الشجاعة من الجميع .. لم يستطع علاوي ان يمسك نفسه ، فهو يحب الاسطى ، ويعتبره مثل والده الذي التهمه التراب ، يفاجئ الجميع ، ويدخل هذا الجحيم الارضي وسط صراخ الكل متهمينه بالجنون ، والاستهانة بحياته ، لم يبالي .. انه يعرف كل اسرار الورشة ، يجد له منفذا يتسلل منه ، وكأن الاقدار قد هيأته له لتصنع منه بطلاً .. كانت السنة النيران تتراقص فرحاً ، كأنها قد وجدت ضالتها في اكداس الخشب ، والنشارة التي تكاد تملأ المكان .. يجد الباب مغلقا ، يدفعه بكتفه بقوة ، وهو يكاد يختنق من أثر الدخان الكثيف ، يأخذ بالسعال زافراً الدخان المحشور في رئتيه ، والذي يكاد يخنقه ، يدفعه بقوة اكبر .. يطيعه ، وينفتح ، يدخل ويسحب الاسطى ، الذي يجده فاقداً للوعي ، يستجمع كل طاقة الحياة الباقية في جسده ، ويحمله بين ذراعيه ، يجري رغم ألم الحروق التي اصابته .. يصرخ فجأةً فقد سقط على احدى رجليه عمود مشتعل ، لم يبالي ، كان مصراً على انقاذ الرجل او الموت معه .. صاح احد العمال : علاوي علاوي ، وكأنه يحلم بهذا الصبي ، يسرع البقية ، ويسحبوا الاثنين الى الخارج وسط تعالي همهمات الاعجاب .. !
تأتي سيارة الاسعاف ، والاطفاء متأخرتين كعادتهما دائماً ، ينقلوا الاثنين الى المستشفى ، الاسطى الى العناية المركزة ، فحالته خطرة ، وعلاوي الى قسم الحروق ، يبقي الاسطى الأيام الثلاثة الاخطر ، قال الاطباء اذا تجاوزها فقد كُتبت له حياة .. اما علاوي فقد ظل يعانى من حروق متفرقة في جسده ، وخاصة في قدمه اليسرى .. يقضى اياماً كأنها الجحيم من الألم ، والعذاب .. يستعيد الاسطى صحته ، ويعاد ترميم الورشة ، وتبقى التشوهات التي احدثتها الحروق في جسد علاوي وساماً ، وشاهداً على تلك اللحظة النادرة من الشجاعة … !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح