الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدن الملح ،، الأخدود،، تحليل

حاتم بن رجيبة

2021 / 1 / 29
الادب والفن


تبدأ الرواية الثانية من خماسية ،، مدن الملح،، بموت السلطان خريبط وتطفو شخصيتان محوريتان: خزعل ولي العهد سابقا والسلطان الجديد في سلطنة موران والطبيب المحملجي.

جاء الدكتور المحملجي من لبنان إلى الجزيرة العربية مدعيا الرغبة في المساعدة لأن المنطقة كانت خارج الحضارة، كانت في عالم التيه والنسيان وهي الآن في أشد الحاجة إلى الأدمغة و الطاقات. لكن دوافع المحملجي كانت في الحقيقة للبحث عن ممتلكات عائلية ضائعة، ثم هو يرغب في الإثراء السريع في مكان جديد بكر،، ولأن هذه البلاد (السعودية)لها مستقبل ويمكن للإنسان أن يصبح غنيا بين يوم وليلة، إذا كان فهيما وشاطرا،، والشطارة لديه هي في جزء كبير مكر واحتيال وتملق. فبعد أن يدرس مخططات المدينة يشرع في شراء الأراضي بثمن بخس ليبيعها فيما بعد بأثمان خيالية،،لا يتردد في استدعاء مهندسي البلدية...حتى إذا حفظ،، المخططات،، أرسل رجاله ،،لمساعدة الرجال المعوزين من أطراف المدينة، عارضا أن يشتري الأراضي البور التي يملكونها،،.

وثالثا وهذا جوهري في الخماسية: للمحملجي رغبة في ترك أثر: في التغيير الجذري لمجتمع ما، مجتمع كان يعيش على الفطرة،كالمجتمعات البدائية في الأدغال أو قبائل الهنود في أمريكا. يذكرنا المحملجي أيضا بهتلر وموسولوني اللذان حاولا خلق مجتمعات هجينة وغريبة ولا إنسانية،،قال له وهو يكز على أسنانه: اسمع يا ابني و اتعلم(المحملجي يخاطب مساعده محمد العيد): الحكيم جاء إلى هنا ليغير كل شيء، العقول و الناس...و حتى الأسماء ، ومن يعش ير!،،كما قال،، الرجال هم الذين يخلقون الأماكن ، و هم الذين يتركون بصماتهم عليها،،.

هو كذلك نسخة متكاملة للبورجوازي الرأسمالي: همه تركيم الأموال بدون سقف أو حد و بكل الوسائل: حلال و حرام، و لم يتورع في الإسراع بموت السلطان خريبط حينما قدم له أدوية لاتنفع حتى يتسلم ولي نعمته الأمير خزعل مقاليد الحكم... فأبرز ملامح الدكتور صبحي المحملجي هي الوصولية(الغاية تبرر الوسيلة: حتى يصبح ثريا ونافذا كل الأساليب محللة كالإحتيال والمكر والنفاق والكذب أو بيع بنته القاصر الطفلة إلى سلطان في عمر جدها) ثم الهذيان وهلوسة العظمة(نظرية الأربعة..).أما رأي الصحفي المصري سمير فيه فهو معبر،،مغرور وتافه، يتصور نفسه قادر وقوي، لكن في ،، الحقيقة،، مهنته أوصلته لقلب السلطان(يعطيه المقويات الجنسية)فتوهم القوة، مثل البالون، ويمكن أن ينتهي في لحظة...أما أوهام الفلسفة والقضايا الكبرى فهي أكاذيب،،.

صورة معبرة للمحملجي المتملق هي حينما رجع من حران إلى موران اثر وفاة السلطان خريبط يلبس اللباس المحلي العربي بعد أن كان يلبس البدلة الإفرنجية وكيف أصبحت له لحية مثل لحى المحليين. هو يذكرنا بصورة الجاسوس الإنجليزي لورانس ببدلته العربية ونظرته الماكرة الخبيثة، بدا المحملجي مضحكا و مدعاة للسخرية وكأنه في حفلة تنكرية،،بل وبدا مثل دمية في الملابس العربية التي غرق فيها، وبدت فضفاضة واسعة، ولايحسن كيف يألفها ويتعود عليها...أما اللحية التي تركها تكبر وتنمو خلال الأيام الفارطة...كانت تشبه لحية رجل هارب،،.

يدفع الحكيم ثمن شغفه بالمال والعظمة ثمنا باهضا. فيترك زوجته وعائلته و ينشغل عند الزيارة بالصفقات، فنسيه أولاده وشرعت زوجته في خيانته. ليخسر عائلته وسنده،،لكن الحكيم يغرق أكثر و أكثر(في الصفقات و الأعمال)، ثم يسافر ويغيب فترات طويلة، فإن هذا الجسد(جسد زوجته)...كان يتمرد عليها، يصرخ ويطالب ...الرجل الأول الذي عرفته جاء به زوجها(قبل أن يسافر إلى حران بثلاثة أيام). كان طبيبا مثله،،.

المحملجي جلب معه أقاربه ومعارفه من لبنان وغيرها لتقاسم الغنيمة: أموال السلطنة، مزاحمين أبناء البلد. فكأن السلطنة جيفة تنهشها الوحوش من كل جانب ،الأجانب العرب والأمريكان والأوروبيين و الأمراء والسلطان ...كل ذلك سببه النفط. ألهب الأطماع وجلب الوصوليين والمتملقين والماكرين من كل حدب و صوب. ولكن يبقى السلطان رأس الداء لأنه الآمر النافذ، يبذر الأموال في الهدايا والحروب. همه الوحيد الحفاظ على السلطة.

مدينة موران اختارها الكاتب لوصف التحولات العميقة بين الراعي والرعية، بين السلطان وأهل القرار وبين الشعب جراء اكتشاف النفط وقدوم الثروة. هنا نشأ أخدود كان في البداية حاجزا رقيقا ثم أصبح بمرور الوقت شرخا هائلا بين الحاكم والمحكوم،،حتى قصر الغدير، قصر ولي العهد، رغم اتساعه لم يكن أكثر من بيت من بيوت مروان لبساطته و انخفاضه ،،.

عاشت موران لآلاف السنين في نفس الوتيرة ككل بلدان الجزيرة العربية في الفقر والنسيان،، أما حين وصلها الحكيم أول مرة فقد وجدها مجموعة من البيوت الطينية المتلاصقة،،.ترتع في أزقتها الإبل وتنتشر خيام الشعر جانب البيوت الطينية البدائية، لأن أصل أهلها بدو،،أحياء موران متعرجة ومتداخلة. الشوارع ضيقة وتعج بالأتربة والأطفال والذباب،، ،، فإن موران كانت تقبض النفس وتولد في القلب حزنا مبهما، لأنها لا تزال تغرق في عتمة القرون، ولأنها متوارية لا تذكر،، حتى بعد أن بدأ النفط يتدفق فلم يبدأ التغيير إلا بطيئا وسطحيا،،إذ ظلت دائما تنتظر مطرا لا يأتي وقوافل كثيرا ما ضلت طريقها، كما استمرت تبعث بأبنائهاء مع كل قافلة ورعية ابل،،.

موران وكل البلدان الإسلامية يحكمها فرد: السلطان، يحكمها حكما مطلقا: أنا الدولة، كما قال لويس الرابع عشر ملك فرنسا. يحكمها على هواه بلا رقيب أو حسيب ولم يفعل النفط إلى أن ضاعف من غطرسته ونفوذه، فكثر المتملقون، إذ لا يمر طامع إلا من بين يديه، كي يغرف من الجرة،،ولذلك ركز كل جهده(المحملجي)على الصخرة القوية، كما كان يقول لنفسه. على السلطان بالذات...كل وقته من أجل السلطان، وكل خبرته و ذكائه في خدمة صاحب الجلالة المفدى. فقد كان واثقا إن كسب قلب السلطان كسب كل شيء،،.

ثم بدأ المحملجي، بعد أن نال رضا السلطان، في تنفيذ مشروعه: الإثراء الفاحش وتغيير السلطنة إلى مملكة تسيطر على كل الجزيرة العربية: المملكة السعودية أو الهديبية كما جاءت في الرواية، ثم إنشاء ثورة معمارية بناطحات السحاب والقصور الخرافية كما في أحاديث ألف ليلة وليلة. بهرج ومظاهر ، ذهب ولآلئ، مجوهرات وخيول، سيارات وجواري وغلمان. لا مصانع ولا تعليم ولا بنية تحتية، لا جسور ولا طرقات سيارة، لا مراكز علمية باحثة... الاستهلاك ثم الإستهلاك ثم الحروب والتسليح وضياع الثروة،،يا صاحب الجلالة يمكن أن تحولو مران إلى جنة على الأرض(طفرة عمرانية)، ويمكن أن تحكمو القريب والبعيد(تشنوا الحروب على القبائل المجاورة وتبدد ثروة النفط في السلاح والدمار)،،.

الشخصية المحورية الثانية هي السلطان خزعل. من أهم صفاته هو كرمه أو بالأحرى تبذيره للمال ثم حبه للنساء،، ورث السلطان خزعل عن أبيه صفتين:طول القامة و حب النساء،، ،،هذا الكرم(الذي عرف به)ما لبث أن فاض بدون حدود ودون موانع أو حجج، بعد أن أخذت أموال كبيرة تتدفق إلى الخزينة، نتيجة زيادة تصدير النفط،، فكانت أموال النفط أحب وسيلة لديه للإحتفاظ بالسلطة، حتى يسكت الأمراء الآخرين، فيهتمون بالإستهلاك والترف ولا يطمعون في افتكاك الحكم،،فإن الإخوة الذين فكروا أن يكونوا شركاء في السلطة، بدأوا يغرقون في المال، ووجدوا فيه لذة وقوة لم يكتشفوها من قبل،،.

بالمال المتدفق وبعوز من الحكيم بدأت المسافة بين السلطان خزعل وبين الشعب تزداد، بدأ التكبر والغرور، والمحملجي كان في حيه مثالا للغرور والتكبر فلم يختلط بأهل حيه ومنع أهله من ذلك،،(المحملجي يخاطب السلطان)العظيمات للعظام، أما الأشياء الصغيرة فلحثالات البشر،،.

ثبت الحكيم جهاز الإستخبارات،،ياصاحب الجلالة يجب أن تسمع حتى دبيب النملة، و إن الأفكار الهدامة والحركات المتطرفة حولنا تنتشر مثل انتشار النار في الهشيم ،، هو يقصد الحركات الشيوعية واليسارية الإشتراكية التي تدعو إلى العدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروة،،صحيح أن الفقر وعدم الرضا وسوء الحكام هي الأسباب الرئيسية في انتشار هذه الحركات،،.

حضر محمد عيد مساعد الحكيم قطع رأسي بدويين في ساحة عمومية، مشهد قيمة في الوحشية، يرمز إلى مجتمع مازال يعيش في غياهب القرون الوسطى، مشهد يرمز إلى وحشية الحاكم،،فطار الرأس، تدحرج. ابتعد ثلاث أمتار عن الجسد وبتدحرجه انقلب .كانت(العينان)ترتجف، تتحرك، تتحرك، وكان الجسد يتلوى، يستطيل، يتقلص، يعلو، يهبط، يتحرك، يتلوى مرة أخرى ...أما الدماء نفرت كينبوع، كنافورة،، أريد من الوحشية أن ينتشر الخوف، سياسة الترهيب و الترغيب، الأمراء يسبحون في الأموال والعطايا وسيف الجلاد يلوح فوق رقاب المواطنين،،يجب أن يقتلا، اعترفا أو لم يعترفا. لأن ابن هذال نفسه سوف يخاف، وأن رجاله سوف يخافون...وكما طلب منه السلطان خزعل، لا فرق بين مذنب ومن يريد أن يكون مذنبا،،.

أما الناس فقد اعتادوا الظلم، اعتادوا الخنوع، منذ آلاف السنين، إلا قلة،،لكن الناس مثل الغنم، يركضون و يصرخون وآخرتها يجي كم من ابن حرام ويغفون الأول والتاني،،. بعد أن ثبت الحكيم جهاز المخابرت للتجسس على الرعية وحماية السلطان، ثبت جهاز الدعاية والبروباغاندا و غسيل الأدمغة: الصحافة. لا دستور ولا مجتمع مدني ولا مدارس عصرية أو جامعات ولا دور ثقافة ... فقط المؤسسات التي تحفظ السلطان وتحميه،،وفي هذه الفترة تقرر إصدار صحف من نمط جديد في موران،، كما،،يريد(المحملجي)أن يكون دور الصحافة كاملا...أن يعيد تشكيل عقل البشر وعواطفهم ونظراتهم، وأخيرا مواقفهم، بحيث لا يفكر الإنسان ولا يتصرف إلا على ضوء هذه النظرة، تماما كما كانت الأديان تفعل،، فكما هو غسيل الأدمغة من الواعضين والأئمة في الكتاتيب وخطب الجمعة ، فالصحافة تدمغج القراء لمصلحة الحاكم، تخدرهم كما يفعل الدين تماما. هنا يبرز الحكيم المحملجي كرجل سياسي خطير، فهو عراب السلطان يعلمه كل الوسائل لإحكام السيطرة على العباد و لإرساء حكم شمولي يسيطر على الفرد كليا: أفكاره وتصرفاته ولباسه و ثقافته ويرى في الدين مثلا يحتذى به لتحقيق الشمولية،،الأديان، أية أديان، السماوية أم غير السماوية كانت من التأثير والقوة إلى درجة أنها طبعت أتباعها بطابع واحد، حتى لكأنهم من صلب رجل واحد: الأخلاق، الأفكار، طريقة التصرف، النظرة ...بكلمة واحدة:كل شيء،، والصحافة هي البديل العصري للدين،،المطلوب من الصحافة أن تعيد تشكيل أي عقل، حتى عقل السلطان،،.

ونجح المحملجي في مسعاه، فالناس انغمسوا في الإستهلاك ونسوا قيم الحرية والمساهمة في صنع القرار والتفكير في المستقبل وتركيز اقتصاد قوي يرتكز على التصنيع والإستقلال في توفير الموارد والحاجيات والحد من التبعية للخارج،،لأن الناس بعد أن تدفقت الثورة اصبحوا أقل ميلا لأن يهدروا قواهم في القيل والقال...حتى الأمراء ما لبثوا أن هم أنفسهم غرقوا في جمع الثروة ومراكمة المال...وانشغل الأمراء بالمال والنساء والقصور،،.

لكن هذا النجاح و الإنفراد بصنع الدولة حسب هواه واقتناعاته جعل المحملجي يغتر إلى حد الهوس واللخبطة، اعتراه جنون العظمة، وبدأ يهذي بنظريات مضحكة على مثال هتلر،،نظرية المربع، التي يفكر فيها بالليل والنهار، تتلخص باعتماد القوى الأساسية المهيمنة على الإنسان... وهذه القوى هي أربعة... فالعقل هو المركز الأول أو الأعلى... والمركز الثاني هو القلب... أما المركز الثالث فهو المعدة...أما المركز الرابع فهو الطاقة الجنسية،، وكانت تسمية الصحفي سمير للكتاب المزمع تأليفه حول النظرية مضحكة ومدعاة للسخرية،،الناموس الأساسي في الفكر السياسي لأبي غزوان الحكيم النطاسي: صبحي المحملجي الطرابلسي،، والنظريات من هذا النموذج المضحك عديدة: منها كل الأديان، النازية، الفاشية، النظام الإقطاعي، الملكية، فلسفة الخمير الحمر... فسخافة نظرية لا تمنعها من أن تنفذ ولآلاف السنين على المليارات من البشر...يكفي الترويج لها بمكر.

ثم تأتي فقرة محورية في الرواية تلخص وضع موران و شعب الجزيرة العربية ككل وخاصة المملكة العربية السعودية أكبر دول المنطقة، تشرح حالة الإغتراب وذلك الأخدود العميق الذي فصل الناس عن تاريخهم العريق وعن حياتهم الطبيعية والمتصفة بالكثير من الإنسانية والحميمية والدفء البشري. هدم في رمشة عين ما بني في مئات السنين، فأصبحت موران موحشة وغريبة وخانقة للأنفاس. جاء النفط ومعه الأمريكان و الإنجليز وعرابو المستبدين مثل هاملتن وصبحي المحملجي وغرباء أخر من المستثمرين والمغامرين و،،اللقامين،، الطامعين في الثروة السريعة كالجراد يلتهمون الأخضر واليابس، لا يشبعون ولا يستحون،، تذكر الرجلان، وتذكر معهم آخرون، مران منذ سنين، كانت وادعة، راضية،وكان الناس، رغم صعوبة الحياة...يجدون الوقت لأن يتحدثوا، لأن يسمعوا القصيد، وفي بعض الليالي لأن يغنوا ويرقصوا...أما منذ أن جاء الأمريكان، ومنذ أن وجد النفط، فقد تغيرت الحياة والبشر، انقلبت رأسا على عقب ...أما الغرباء الذين اصبحوا أكثر من أهل موران ...فكان ممكن احتمالهم لو كانوا بشرا حقيقيون ...إنهم جاؤو ليسرقوا، ليستبدوا بالآخرين، ليسخروهم، ولا يشبعون أيضا. كانوا يتحدثون هكذا وصورة الحكيم لا تفارق مخيلة أي منهم،،.

انتهى الجزء الثاني من الخماسية بزواج السلطان من ابنة الحكيم: الطفلة، ابنة الخامسة عشر من شيخ. باع الحكيم فلذة كبدته، كأنه يبيع جمادا. بعد رحيل السلطان إلى ألمانيا في شهر العسل انقلب الأمراء بقيادة فنر على خزعل، ليستمر التعسف والحكم الفردي المطلق وتبدأ الإعتقالات لكبح الأصوات المعارضة من المهد. ذهب مستبد وقدم آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم