الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع ارنستو ساباتوفي حواره بين الحرف والدم /الرادار النفسي للإرهاب

كاظم الواسطي

2006 / 7 / 24
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


ما الذي ننتظر من " طفل كبير وحيد ينتظر قطارا لا يصل أبدا " ، طفل علمته الوحدة أن يذهب إلى حدود الجنون ، ليعود منها روائيا كبيرا يحاكم عقل عصره على ما ارتكبه من خطايا بحق الإنسان المصنوع من لحم ودم وأحلام تسعده على هذه الأرض ؟ يبدو أن صوت القطار الذي لايصل ، يسمعه لوحده ، هناك .. في محطة طفولته النائية ، متوحدا بخيالاته ، وأحلامه ، وتمرده على عالمٍ يهتم كثيرا ببناء الحواجز ، والحدود الصارمة بين البشر . ولأنه متمرد ، وصاخب ، بحسب قول زوجته ماتيلدي كوسمنسكي ريختر ، كان إرنستو ساباتو يبحث عن منفذ التعبير الوحيد الذي يساعده على " تقيؤ عذابه الداخلي " ، فكان عالم الرواية منفذه الذي لم تستطع اهتماماته ، وانشغالاته بالفيزياء ، والرياضيات أن توفرانه له . ولأنه كان يتوق للحنو والعطف ، مثل طفل متشرّد ، فقد قبل أن يكون رئيس " اللجنة الوطنية للمفقودين " التي كانت تحقق في جرائم الدكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين يومذاك ، وشرّدت الكثير من أبنائها .
لقد كان لولادة " أرنسستو ساباتو " بعد موت أخيه " أرنستو " ، وتسميته بنفس الأسم ، وقعا سيئا في حياته . فقد ظل يعاني من مرارة الحادث ، وشؤم ما قد يقع له بنفس الأسم . كما أن قدرة أمه التي لا حدود لها على الحب ، قد أسرته بتمسكها اليائس به مقارنة باستقلال أخوته في الحركة ، واللعب ، مما جعل منه انطوائيا ، وخجولا . وقد انعكس كل ذلك على علاقته اللاحقة بكتبه ، التي أراد لها أن تكون دفاعا عن وجوده هو ، ولم ينصح أحدا بقرائتها " حرصت على أن لا يقرأها أولادي " .
وفي شبابه ، تضخمت ميوله بالأفكار الماركسية ، ثمّ انتمى إلى الحركة الشيوعية ، التي قطع صلته بها بسبب جرائم ستالين ، ليتابع دراسة الرياضيات التي " لا يطالها فساد " . وظل ساباتو يعاني من أزمة روحية حادة . فهو يعرف أن العلوم التي ولدت من شيءٍ رائع كالرياضيات ، قد سببت " جنون الإنسان التقني " ، وجردته من إنسانيته ، حين حرمّت التفكير السحري وأبقت على ما هو منطقي فقط . ولأن الإنسان بلحمه وعظمه ، هو ما كان يعنيه ، فقد عاد إلى موهبتيه المبكرتين الأدب والرسم. وقد استهوته فكرة أن هناك تقدما أو تغيرا مستمرا في الفكر الخالص ، وفي العلوم ، وهذا ما لا يحصل في الفن . فرياضيات " أنشتاين " تتفوق على رياضيات " أرخميدس " ، ولكن عوليس " جويس " ليس أسمى من عوليس " هوميروس" . ولهذا نرى ، بتأكيد ساباتو ، أن جزءا من فن عصرنا هو عودة إلى فن الشعوب التي يدعونها " بدائية " ، مثلما هو حال رسوم طفل لم تشوهه المدرسة الابتدائية بمناهجها الحالية التي تحد من ذكاء الأطفال ، حيث نجد في تلك الرسوم شبها للوحات " جان ميرو" و " مارك شاغال" . وكما تشعر العصافير ، والكلاب ، والقطط ، التي تملك حواسا أرهف من حواسنا ، بالهزات الأرضية ، كذا هو حال الفنانين ، والمفكرين الحساسين الذين يشعرون بالهزات الروحية الكبرى . لكن ما يميز أدب وفن عصرنا هو أنه أخذ منحى الغوص في الأنا ، وخدرّه الحنين ، والكآبة ، وروح الكوابيس ، والبحث اليائس من فان كوخ إلى فرانسيس بيكون ، ومن كيركغارد إلى سارتر ، ودستويفسكي ، وكافكا . وهم جميعا ينتمون إلى الحقبة الروحية ذاتها . وإن الجمهور قد جرّد من إنسانيته نتيجة للترويض ، والصحافة ، وأجهزة الإعلام ، التي حولت الإنسان إلى " آلة مبرمجة " . ويؤكد ساباتو على أن الفنانين الكبار هم غرباء الأطوار، لأنهم يحتفظون في نفوسهم بتلك " السذاجة القدسية " ، سذاجة الطفولة ، وسذاجة البدائيين أيضا ، وهم بذلك يثيرون ضحك الأغبياء . ويحمل أرنست ساباتو على منظري " الواقعية الاشتراكية " الذين يعتبرون أعمال بيكاسو ، وجويس ، وبروست ، وبراك ، تعبرعن " البرجوازية العفنة " ، وهو يشيد بتلك الأعمال لأنها تعبر بأصالة وعمق عن روح عصرنا . كما أنه لا يفترض أبدا أن يغير الفن العلاقات الاجتماعية في مجتمع ما ، فهذا الأمر مهمة تقوم بها أدوات أخرى : " الساسة والمنظرون " . ويذكّر الشابات والشباب ممن تقلقهم " القضية الاجتماعية " أن ثوريا معروفا ككارل ماركس ، كان معجبا بشكسبير ويردد غيبا مقاطع من أعماله ، كما كان مطلعا على الشعر الغنائي الأنكليزي والألماني، ويحترم ويقدر غوته ، الذي كان مستشارا للبلاط المتطرف في رجعيته ، ويعتبرالملكي بلزاك مثالا للروائي . ويستنكر ساباتو ما يجري في عصرنا من تحويل للإنسان ، الذي أتى بكل هذا التقدم العلمي ، إلى مجرد مادة . وإن هذا الأمر سيقود إلى أشد الأزمات البشرية مدعاة للقنوط ، والكآبة ، والتي لا يمكن الخروج منها إلا بانقاذ هذا الإنسان " المكون من لحم وعظم " من بين صرير مسننات هذه الآلة الضخمة ، التي تقوم بإفناء أرواحنا ، وتدمير الطبيعة من حولنا . وفي الوقت الذي يعتبر ساباتو موت طفل واحد من الجوع ، يضع الأله ذاته موضع الشك ، إلا أنه يحذرّ من القاء اللوم على الفنانين الذين يقومون ، في وقت يموت فيه الأطفال من الجوع ، بتشييد أعمالهم التي تساهم في إعلاء ،وتكريم روح البشرية بأسرها . ولا أدري ما الذي سيقوله ساباتو ،لو كان موجودا الآن ، وهو يطلع بالصورة على أشلاء أطفالنا المتناثرة على الأرصفة ، وفي الأسواق العامة ، بمتفجرات من يدعّون أنتماءهم لجنة الاله،وحقهم بقتل كل من لا ينتمي لفردوسهم ! المزدحم بالرؤوس البشرية المقطوعة. وفي سياق حديثه عن اللغة يشير إلى أن خشية النحويين من الاختلال اللغوي تشبه خشية الشرطة من مظاهرة سياسية . ويؤكد أن المبدع الحقيقي يعبر دائما بالكلمات التي عجنت بآمال حياته وحياة أمته وبأحزانها ، وبالأغاني التي احتضنت طفولته ، وبالأحرف التي سمع فيها بواكير حبه . ويذكر بأنه رغم كل سنوات تعليم قواعد اللغة ، فأن الناس لا يزالون يخرقون قواعدها الصارمة ، لأن اللغة تولد من الأغوار العميقة للكائن البشري ، وأن علاقتها بالقواعد واهية مثلما هي علاقتها بالمنطق . وإلا كيف نفسر ، برأي ساباتو ، ما أنتجه اليونانيون من أعمال رائدة ، كالأوديسة ، في وقت لم يكن فيه التعليم اللغوي موجودا . إن اللغة بنية نابضة بطاقة خفية ، وهي " كالحب ، والجريمة ، والتراجيديا ، والأحلام ، والأساطير " . فمتغيرات الحياة لاتبقي على شيءٍ ثابت ، بل تصير فيها كل الأشياء عابرة ، " من امبراطورية جنكيز خان إلى موضة البنيوية ". وهناك عبارات كثيرة لم تعد تعني ما كانت تعنيه من قبل . وما يشهده عالمنا اليوم من تسارع في المتغيرات ، وتغير في المشهد الذي باتت الصورة الإعلامية تتحكم بعناصر تكونه ، وآليات تأثيره في الأوضاع العامة ، يؤكد صدق فكر، وحواس ساباتو المرهفة . وما يعنيه أكثر من أيّ شيءٍ آخر، هو أن لا يتم التعامل مع الإنسان كونه " خطا منحنيا " أو آلة صمّاء تنفذ ما يملى عليها ، إنما هو كائن وهب نفسا وروحا ، وينزع لللأساطير ، والتناقض ،بعيدا عن " مبدأ الهوية الإرسطالي " . وهو حين يقترح عقيدة ما ، ليس انتماء لذلك المبدأ ، بل لكي ينفي عنه تلك الطبيعة المتناقضة . وبناء على ما شهده من متغيرات تحاصر روح الكائن الإنساني ، وتعذب روحة التوّاقة للحرية ،في زمن حلت فيه الشتيمة محل الحوار ، والخطف والسجن لأهل الرأي محل الحرية ، ووجود من ينظر لثنائية التعذيب خيرا وشرا ، فقد أعتبر نفسه من " سلالة تتلاشى " ، كان أبناؤها يؤمنون بالمقاهي ، والفن ، وكرامة الفرد ،والإبداع . ولأن الترويج للثنائيات المطلقة التناقض ، والاختلاف ، قد سبب ولا يزال يسبب الكثير من الأزمات ، والمخاطر، في حياة المجتمعات البشرية ، فقد دعى إلى ما أسماه " الديمقراطية الرمادية " التي تهيء لمجتمع أفضل ، مادام الفكر المنطقي ، والفكر السحري ، يتعايشان معا في إنسان عصرنا . ولأن " الوثنية العلمية "الجديدة قد أثقلت كواهل الناس بالجنون ، وبالقنابل الذرية ، وبالأزمات الروحية الحادة ، وبهندسة مريعة في علم الوراثة ،فقد تخلى ساباتو عن عمله العلمي ، وصار مهووسا بالدفاع عن " الإنسان العياني"، الإنسان المكون من لحم وعظم ، لا الإنسان المجرّد الذي تفترضه تلك العلوم ، والسياسات النظرية الخاضعة لسلطة المفاهيم ، كيلا تتحول مشاهد تلك الوثنية إلى كوابيس ، وجحيم في مستقبلنا .
وعن ما هو مشترك بين الفنان والمجنون ، يؤكد ساباتو أن الواقع لا يروق لهما أو انهما يرفضانه . ولكن ما يميز موقف كل منهما ، هو أن المجنون يخضع لهذا الواقع بسبب إنهيار بنائه العقلي ، ويعيش في أنقاضه مضعضعا. أما الفنان ، فيبقى قادرا على أن يبني من أجزاء واقعه واقعا آخر . وحين يسأله محاوره كارلوس كاتيانيا عن الكتب الخمسة التي سيختارها ، ليأخذها معه إلى جزيرة مقفرة ، يذكره بما قاله شيسترون : " نشرة لبناء قارب " وتلك هي واقعية التعامل مع المعطى الخارجي ، بعيدا عن وهم التجريد الذي يزيد الأمور تعقيدا ، عند اعتماده حلا لمعضلة محتملة .
ولأن الضغينة ، والحسد ، والمزاحمة ، تشكل جزءا من ذاتية الإنسان ، فأنه يجد من السهل أن يقر بأن انشتاين عبقريا ، لكنه يستصعب ، ويجد الأمر مؤلما جدا ، أن يقبل بجاره أو زميله عبقريا . أما عن رأيه بالثقافة ، والمثقف ، والتربية ، فيشير إلى تعريف ماكس شيلر للمثقف وهو " الذي يكون قد نسي المعرفة الواسعة " . فيحذر ساباتو من اغراق الذكرة بالتفاصيل والأرقام والتواريخ والملغرامات ، مثلما يمارسها مسؤولو التربية الذين " يحاولون تعليم كل شيء، وتكون النتيجة في نهاية المطاف ، أننا لا نعرف شيئا " . وإن المثقف هو من يكون له موقعا في مجموعة " النظم المرنة " ، وأن يكون على ادراك بالواقع ، والتحكم فيه ، وتقييمه وليس هو " الفرد الموسوعي " الغارق في تلك التفاصيل .وعن مهمة المعلم التربوية ، يذكّر بما قاله سقراط في هذا الشأن ، حين بيّن بأن مهمة المعلمين هي " مهمة القابلة لا مهمة الصانع " ، الذي لا يستخرج القدرات الكامنة ، ولايرعى البذرة الموجودة في الطفل كي تنمو وتؤتي ثمارها . وما يقوم به المعلمون اليوم ، هو تخدير طفولتنا بأحكام العادة ، حيث لا يثير استغرابنا ، ولا نضحك ، إن حدثنا أحد عن " ثعالب طائرة " أو عن " بشر لهم رؤوس كلاب " . وحيث يزداد عدد الدول التي يقودها متعصبون للايدولوجيا والعقائد ، فإن المعلمين فيها يضطرون لحقن التلاميذ بتلك العقائد بدلا من البحث من البحث عن الحقيقة . وإذا ما استمر هذا " الهذيان الوضعي اليقيني " ، فأنه ، برأي ساباتو ، سيقود إلى همجية جديدة في عصرنا تؤدي بنا إلى الجنون . ومن هنا يؤكد على ضرورة خلق توازن بين المبادرة الفردية والعمل مع فريق تخدمه ضمن مفهوم " العمل الودي الجماعي" الذي يتغلب على غرائز الإنسان الأنانية ، وإن لم يحصل مثل هذا الأمر ، سوف ترجح كفة " الفردية الشرسة " التي ستخلق في طبيعة الإنسان خواصا من نوع مختلف ، شجعّت هوبس يوما للقول " الإنسان ذئب الإنسان " . ودفعت فلاسفة الليبرالية التجارية والصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على اعتبار المجتمع " فريق من أفراد في حالة حرب " . أما عن الأستياء العام في المجتمعات الحديثة ، يشير ساباتو إلى ردود الأفعال المتناقضة لدى الشباب ، حيث ينخرط معظمهم في حركات إرهابية ، وبعضهم يستسلم للمخدرات ، ومنهم من يذهب إلى الريف ليعيش حيباة طبيعية . ولأنهم آمنوا يوما بمطلقات ، كالأب مثلا ، فأنهم يتمتعون بحساسية مفرطة إزاء الكذب . وحين يدركون بأن هذا الأب يمكن أن يكذب، وكذلك الأم ، فأن ذلك يعني أن لاشيء حقيقي . من هنا يبدأ تمرد الفتيان عنيفا ، وغير معقول . ولأنهم يشبهون " مقاييس زلازل روحية بالغة الحساسية " فأنهم أشّد من يعاني من تأثير الأزمات الكبرى التي تعصف بمجتمعاتهم . وأول من يعلن عن افلاس القيّم السائدة ، التي تتصدع تحت عدسات رادرهم النفسي الخفي . وهذا ما يجعل عصرنا يعيش في خضّم السادية ، والإرهاب ، والاختطاف ، والهستيريا الجماعية . إن هؤلاء الفتيان الخائبين ، والشرسين ، يعلنون بممارساتهم هذه نهاية عصر " عبادة التقنية " . وأضيف هنا ، أن ما نتعرض له اليوم من إرهاب دموّي ، وترويع همجي للمدنيين العزل ، يعكس النتائج الخطيرة لثقافة العنف، التي تتمسك بها مخلوقات عدمية تحاول عولمة فعلها الإرهابي على أكبر مساحة ممكنة على هذا الكوكب ، ليس بأدوات بدائية يمكن السيطرة عليها ، بل تستخدم أدوات ، وبرامجيات العصر التقني نفسه ، أو ما يطلق عليه اليوم " الإرهاب الإلكتروني " ، الذي تتطلب مواجهته ، والقضاء عليه ، مراجعة شاملة لثقافة عصرنا ، وتفكيك عمل آليات مؤسساته التربوية ، والسياسية ، والأخلاقية ، والبحث بلا كلل عن ينابيعه المتخفية في حياتنا ، وفي عقولنا ، لتجفيفها هناك . بعد كل هذا أستطيع القول أن أحاديث ، وأراء إرنست ساباتو المتنوعة في جلساته الحوارية مع كارلوس كاتانيا ، قد أظهرت بشكل واضح دقة راداره في كشف زلازل أرواحنا الآن .. وربما لسنوات طويلة قادمة .

الكتاب : إرنستو ساباتو / بين الحرف والدم
المؤلف : كارلوس كاتانيا
المترجم : عبد السلام عقيل
الناشر : المدى 2003








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا علقت قناة الجزيرة على قرار إغلاق مكتبها في إسرائيل


.. الجيش الإسرائيلي يسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح




.. -صيادو الرمال-.. مهنة محفوفة بالمخاطر في جمهورية أفريقيا الو


.. ما هي مراحل الاتفاق الذي وافقت عليه حماس؟ • فرانس 24




.. إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على «موقع الرادار» الإسرائيلي| #ا