الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشهد في تونس/ بين توهّج الثورة وتسلّط الدّولة

الطايع الهراغي

2021 / 1 / 30
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


" ذهبت آفات حرنا في أسمائها // وأتت آفات ما لهنّ أسامي "
-- منسوب لشاعر عبّاسيّ --
" إنّ غباء النّاس لاينبع من افتقارهم للذّكاء وإنّما من غياب شجاعتهم على التّفكير " -- مارتن باج –
" إنّني لم أعكّر صفو حياتهم أبدا ، إنّني فقط أخبرهم بالحقيقة فيرونها جحيما "
-- هاري تروما ن --

الاحتجاجات التي تجتاح تونس ، رغم مرور عشر سنوات على الثورة وانتصاب عشر حكومات
للحساب الخاصّ وأربعة رؤساء ومئات الوزراء -- اللّهمّ لا حسد -- عدا الاحتجاج شبه اليوميّ على الحرمان من أساسيّات دنيا، انعدامها في أيّ بلد مهما كانت درجة تخلّفه إساءة وفضيحة ، فما بالك في بلد يعتزّ بأنّه أنجز ثورة ، تفرض فرضا سؤالا على غاية من البساطة ولكنّه مشحون بالدّلالات : .........................................
ما أشبه اليوم بالبارحة .........................
فيم يختلف الوضع في تونس عمّا كان عليه قبل المخاض الاحتجاجيّ الممتدّ من 17 ديسمبر إلى 14 جانفي 2011 ؟ السّؤال مرير ، وقد لا يحتاج إجابة . إنّه تساؤل العارف بلغة المناطقة، سؤال الحيرة والاحتجاج لا سؤال التّذمّر والتّشكّي . والإجابة ( و بما يقارب الإجماع ) أشدّ مرارة .
ويبدو أن المقارنة لا تليق لأنّ الوضعيّة الآن أسوأ بكثير باعتراف الجميع بمن فيهم المكابرون . ولعلّها تذكّر بما ورد في رسالة الجنرال حسين ( 1828 /1887 )- من أصل شركسيّ - عن الوضع في تونس زمن البايات وعمّا اقترفه أمثال مصطفى خزندار ومحمود بن عيّاد ومصطفى بن إسماعيل الوزير الأكبر الذي سلّم البلاد للاحتلال الفرنسيّ : " خرجت من بلادي وطفت الممالك بأرضنا هذه وما وراء البحر المحيط لعلّي أرى مملكة أو إيّالة أخرى جرى عليها ما جرى على إيّالتنا المسكينة ، فما عثرت على مملكة قاسمتنا همومنا ولا سمعت بأشخاص فعلوا بأهالي إيّالتهم مثلما فعلتم ". كان ذلك سنة 1863 . فما أشبه اليوم بالبارحة ، مع الاعتذار للشّاعر طرفة بن العبد .
نقطة الضّوء الوحيدة (حرّيّة التّعبير بتفرّعاتها ) التي اعتقد البعض أنها في منعة بيّنت الوقائع العنيدة أنها محلّ صراع ولم تترسّخ بعد كمكسب . الدّليل ما جوبهت به الاحتجاجات من قمع واستهتار واستهانة بمطالب المتظاهرين من قبل حكومة تحكم باسم الثورة حتّى أنّ بعضا من النّوّاب -- ومن المعتدلين -- لم يجدوا بدّا من نعت التّواجد الأمنيّ الاستعراضيّ في محيط البرلمان بالعسكرة .
فماذا عن ردّ فعل الحكومة التي قيل عنها أنّها حكومة كفاءات ؟ الجواب في خطاب رئيس الحكومة وفي تفاعل حزامه الدّاعم -- الوسادة التي يتكئ عليها -- ( بعض من أضلعه جزء من مكوّنات ما سميّ بالائتلاف الثوريّ). خطاب مشدود شدّا إلى عالم ما قبل الثورة ، في تنافر كلّيّ مع متطلّبات اللّحظة حتّى بالمعني النّفعيّ البراغماتيّ التّسويفيّ الذي تحتاجه حكومته ، جهل -- قد يكون تجاهلا-- بطبيعة وخاصّيّات شهر جانفي ، جانفي الجمر كما يحلو للبعض تسميته لأنّه محفور في الذاكرة ، فجلّ المجابهات الحاسمة التي طبعت الحياة السّياسيّة والنّضاليّة في عهدي بورقيبة وبن علي تمّت في هذا الشّهر: 26 جانفي 1978 الحركة النّقابيّة تمتحن قدرتها على فكّ الارتباط بحزب ودولة بورقيبة / 3 0 جانفي 1984 الشّعب التّونسيّ ينتفض ضد نظام " المجاهد الأكبر" في ما عرف بانتفاضة الخبز التي خلّدها الفنّان الأزهر الضّاوي في أغنيّة ( يا شهيد الخبزة رجعت ، يا شهيد الخبزة ثور، طالعة من قبرك وردة، تنادي الشّعب يجيك يزور) / ثورة 14 جانفي 2011 وما ترتّب عنها من احتفال سنويّ بالثورة ، احتفال ما كان يمكن إلاّ أن يكون احتجاجيّا ما دامت التّرويكات الجنيسة المتناسلة قد حازت بامتياز على كلّ مقوّمات الفشل: تفنّن في مساعي تنميط المجتمع التّونسيّ / تصوّر الشّرعيّة الانتاخبيّة على أنّها مبايعة، مجرّد التّبرّم منها وبها يعدّ مروقا ونقضا للبيعة و يوجب إقامة الحدّ والقصاص / لوي عنق التّاريخ بفرض وإدامة آليات التّحكّم- وليس الحكم- في ما يجب أن يعدّ إجراما في حقّ الشّعب التّونسيّ وثورته
............................
النّسخ والاستنساخ ..................
في مجابهة الأحداث التي عصفت بعرش " صانع التغيير" اتّكأ نظام بن علي على نظريّة المؤامرة كما يكشفه إعلام نظام الطرابلسيّة . نقرا في ركن إحدى الصّحف بتاريخ 30 ديسمبر2010 -- لا فائدة في ذكر الاسم ما دامت الصّحف تتناسخ وتتشابه شبه الماء بالماء -- : " إنّها الرّسالة الإنسانيّة البليغة لكلّ الذين أعمت بصائرهم الضّغائن والأحقاد بما يؤكّد أنّ سيادته يبقى السّند الأخلص والأوفى والأقرب لكلّ تونسيّ "، ونقرأ في ركن مقابل في ذات الصّحيفة : " قدّم رئيس الجمهوريّة للمناوئين والمتطرّفين والمحرّضين المأجورين الذين لا يريدون الخير لبلادهم درسا في معاني الوطنيّة والدّفاع عن مصالح الشّعب ".
وفي " التّفاعل " مع الاحتجاجات العامّة في أغلب الجهات استنسخ المترجم الرّسميّ لسياسة التّحالف الحاكم والمعبّر عن هويّته جوهر بكائيّة بن علي في خطاب التّمسكن الذي كان عمليّا خطاب الوداع .
" فهمتكم "حجر الزاوية في كلمة بن علي للشّعب التّونسيّ ليلة 13 جانفي - ليلة الشّكّ - مثّلت ركيزة الخطاب الجنيس المقروء لرئيس الحكومة . اعتماد النّصّ المقروء يحيل إلى الطابع البروتوكوليّ الرّسمياتيّ الذي هو إلى الواجب الثقيل أقرب .
التّفهّم الذي عبّر عنه ضرب من المواساة، إن لم يكن تعزيّة ، ما دام لم يشفع بأيّ وعد - لكي لا نتحدّث عن إجراءات - . تفهّم ينسفه اللّجوء إلى نظريّة المؤامرة - حصان طروادة – لتقزيم الاحتجاجات وتخوين القائمين بها. وليست المبالغة في محاولة التّفريق بين طبيعة المحتجّين واستبخاس أفعالهم باتّهام جهات وهميّة بتحريفها وتوظيفها غير حنين وتمثّل لإرث بائد هو كلّ ما تملكه أنظمة القمع والاستغلال لمجابهة أيّ خطر يهدّد مصالحها وحكمها.
...............................
خير مثال على إحياء ذهنيّة الوصاية تترجمه الدّعوات إلى معاضدة مجهود الدّولة في السّيطرة على الوضع باسم حماية الممتلكات الخاصّة والعامّة والحيلولة دون تخريب مؤسّسات الدّولة ، إحالة مباشرة لإحياء وتشريع سلوك الميليشيّات الحزبيّة ، الذّراع الطّولى للأنظمة الكليانيّة ، ارتبطت في المخيّلة العامّة بالتّرويع والانتقام على شاكلة " البلطجيّة في مصر"( 2011 ) ، عصابات مهمّتها الانتصار لحسني مبارك وتأديب خصومه / " البلاطجة " في اليمن وإليهم أوكلت المهمّات غير القانونيّة من قتل وقنص واختطاف / " الشبّيحة " في سوريا ( 2011 )، ولقب " فرق الموت " الذي أطلق عليهم يغني عن كلّ تعليق / " السّافاك " ( 1957 / 1979)-- شرطة سرّيّة -- في عهد شاه إيران محمد رضا بهلوي، أنشئت بمباركة من وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة / الحرس الثوريّ الإسلاميّ ( 5 ماي 1979 ) ، يعرف اختزالا بالحرس الثوريّ ( الباسدران ) ، مرتبط مباشرة بمؤسّسه روح الهإ الخميني المرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة في ما يعرف بدولة الفقيه.
ولنا في تونسنا نصيب يضاهي وأحيانا يفوق ما اتّسمت به الأنظمة الشمولية : لجان اليقظة والشّعب المهنيّة، بدعة محمد الصيّاح أياّم كان مدير حزب بورقيبة / الأجهزة السّرّيّة لخلفه نظام بن علي ، مهمّتها التّجسّس على المعارضة وتعطيل أنشطتها وتهميشها وتعقّب المعارضين ، وآخرها رابطات حماية الثورة – اقرأ إجهاض الثورة -- ، جهاز أمنيّ مواز حاز على ترخيص قانونيّ في 14 جوان 2012 من حكومة التّرويكا التي تقودها حركة النّهضة ، مهمتها إنجاز ما تترفّع جماعات الإسلام السّياسيّ عن الإتيان به بإفساد كلّ الفعاليّات التي لا تروق لأ تباعها وأعرافهم بانتهاج العنف سبيلا .
.........................................
هذيان مستوفى الشّروط ....................
أمّا المشهد الإعلاميّ - المكسب الوحيد من الثورة كما يؤكّد على ذلك الكثيرون - فلم يتخلّص بعد من التّبعيّة للجهات الحاكمة والنّافذة ، يقف شاهدا على ذلك اختزاله لمفهوم التّعدّد الإعلاميّ وحرّيّة الرّأي في" حقّ" التّهجّم والتّهجين والتّرذيل وبدون أدنى حرفيّة . بعضه متطوّع لتسويق خطاب السّلطة ، وفي أحسن الحالات تحميل المسؤوليّة للجميع - الجلاّد والضّحيّة ، الحاكم والمعارض ، فيبرّر بوعي فشل السّياسات المنتهجة طيلة عشريّة هي عمر الثّورة .
تطوّع جزء كبير من المؤسّسات الإعلاميّة لخدمة أجندا الفريق الحاكم تتجسّد في طبيعة المتابعات الإعلاميّة التي تبخس المشاهد حقّه في المعلومة وتستعيض عن ذلك باستماتة المعلقين في تمرير آراء تفتقر إلى أبسط أبجديّات الحرفيّة و" الصّنعة " وتميل إلى تمرير وفرض مقاربات رسميّة مكرورة ، وتوظّف المنابر بفظاظة في تقزيم من لا يساير هوى معدّ البرنامج و تتيح المساحات لكلّ من هبّ ودبّ للتّهجّم الفاحش على المحتجّين دون أدنى دراية بمطالبهم ، فما بالك بالنّبش في الأسباب الموضوعيّة التي تحتّم الاحتجاج بل التّمرّد وتدين المتسبّبين فيه لا الثائرين عليه .
...................................
عشر سنوات من الثورة ، عشريّة من الاحتجاج المتواصل في مغالبة قد تكون غير متكافئة ، وقد تكون يائسة ميدانيّا بالنّسبة للبعض ولكنّها ظافرة تاريخيّا ما دامت تجعل من المحافظة على الوهج الثوريّ هدفا وتراكم ما به تجابه قوى الالتفاف التي تتلافى مجرّد ذكر الثورة لأنّ الحديث عنها يشبه الحديث عن الحبل في بيت المشنوق وما دام حبّ الحياة كالرّغبة المكبوتة عند فرويد قد تخبوولكنّها أبدا لا تموت . تواصل الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات وتعدّد وتنوّع أسبابها تنوّع وتعدّد الفئات والجهات القائمة بها حجّة دامغة على الهوّة التي تفصل بين من يدّعي بالثورة وصلا قولا وينحرها فعلا، وبين ومن لا مخرج له غير الرّهان على مواصلتها بالقول والفعل .
تحوّل الاحتفالات السّنويّة إلى نقد وتنديد واحتجاج دليل يفحم ادّعاء كلّ مكابر عنيد . إنها قرينة إثبات وحجّة على عقم منظومة الحكم التي تتناسل حكوماتها وتتناسخ تناسل وتناسخ سياساتها الفاشلة ، إن جاز الحديث عن سياسات أصلا.
الموقف من الأحداث هو في الواقع موقف من الثورة ، من استحقاقاتها ، من ما أجله قامت ، مع تأبيد الفقر والبطالة والتّهميش أم مع " الشّغل والحرّيّة والكرامة الوطنيّة " شعارات الثورة ومطالبها التي باتت أكثر راهنيّة ممّا كانت عليه يوم رفعت في جه نظام بن علي. الإدانة موقف لا مسؤول يخرّب الثورة من حيث يدّعي الدّفاع عنها ، اصطفاف واع مع اليمين الحاكم الذي استهوته شهوة الحكم فبات لها أسيرا . وبين وهج الثورة وبهرج الدّولة انحاز نهائيا إلى" نعيم " الدّولة وبه تدثّر ، مع وقاحة فاضحة تتمثّل في التّجرّؤ -- وليس الجرأة --على ذبح الثورة باسم الثورة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي


.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |




.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ


.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا




.. ما المطلوب لانتزاع قانون أسرة ديموقراطي في المغرب؟