الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى عصر الرعب: الخاتمة

دلور ميقري

2021 / 2 / 1
الادب والفن


لعله الخجل، مَن جعلني أهملُ ذكرَ حيازتي لمنزل صديقي الراحل، ربيب الأحاجي، بصفة الوريث الشرعيّ. لقد قام المرحومُ بهذا الإجراء قبيل وفاته، وبدون أن يستشيرني أو حتى يلمّح للموضوع. وإنه زعيم حي القيمرية، مَن فاجأني بموضوع الميراث في تلك الليلة، الشاهدة على حريق سوق ساروجة، الذي أتى على منزلي. لم يكن من حقي عدم قبول هدية صديقي الراحل، طالما أنه كان وحيداً في هذه الدنيا. وأتكهّنُ أنه فعل ذلك، موقناً بسعيي لتحقيق أمنيته في رعاية ابنة محبوبته. وربما أنّ علاماتٍ ما، استمدّها من النجوم، حدّثته عن حريقٍ سيلتهم منزلي ويدفعني للسكنى في منزله. في هذه الحالة، سيكون مطمئناً إلى أن جزءً من روحه سيبقى هنالك؛ في منزله، المحتضنة حديقته جثمانه: لكنّ كَوليزار، لسوء الحظ، سيقى مصيرها مجهولاً لفترة طويلة من الزمن، ولن تظهر سوى بعد رحيلنا عن الشام بسنوات.
قرار الهجرة، إذاً، هوَ الفكرة المداعبة ذهني في خلال الاجتماع الأخير مع الأعيان، المعقّب احتدام الصراع بين الوالي الجديد والإنكشارية. ولم تصبح الفكرة ضرورةً ملحّة، إلا عندما تخلصتُ من السجن والتنكيل بفضل قيّم القصر. إذاك، وجدتُ أن بقائي في دمشق على جانبٍ كبير من الخطورة، طالما أنّ الباشا عدّني من أعوان الوالي السابق ومن الممكن أن يأمر بالقبض عليّ ثانيةً وقتما شاء. إلى ذلك، وبسبب النكبات المتوالية، التي حلّت على المدينة، فإنها أضحت في عينيّ مكاناً مشئوماً، يسعى فيه ملاك الموت، وليسَ فردوساً شبيهاً بمثيله السماويّ. كنتُ بحاجةٍ إلى مستقر آمن، يتيحُ لي إمكانية العيش؛ العمل نهاراً في التدريس والتفرّغ مساءً للكتابة. فكّرتُ، أولاً، بالعودة إلى مسقط رأسي في كردستان. لولا أنّ عائقاً كان يحول دون ذلك، وهوَ موضوع اللغة. حقاً إن اللغة العربية تعدّ مقدّسة للمسلمين بعامّة، لكن مجال التدريس بها يبقى محدوداً وذا نفع قليل من الناحية المادية في تلك البلاد الجبلية، النائية بنفسها عن أسباب المدنية والحضارة. عندئذٍ تذكّرتُ أرضَ الحجاز، وما زُعم أنها منبتُ أسرتنا الشريفة.

" كانت أمنيتكِ أن نحظى بإمكانية الحج معاً، أليسَ صحيحاً؟ "، قلتُ لامرأتي لما أختمرت فكرة الهجرة في رأسي. هزّت رأسها علامة على الموافقة، متسائلةً بدَورها وبشيء من الدهشة: " لكن الحج يحتاج لوفرة من المال، وأنت صرفت الكثير منه على ترميم منزلنا الجديد. كذلك لدينا ثلاثة أولاد، فأينَ سنضعهم في غيابنا؟ "
" لقد فكّرتُ بالمسألتين كلتاهما، ذلك أننا لن نعود إلى دمشق "
" لا أفهم ما تعنيه؟ "، قالتها وقد اتسعت عيناها بمزيدٍ من الدهشة. لجأتُ عند ذلك إلى الكلامَ دونما مواربة، عارضاً الفكرة على خلفيّة ما عانيناه في الفترة الأخيرة. لأصل إلى القول: " سأحظى بسهولة بفرصة التدريس في المدينة المنورة، وفي وسعنا شراء مسكن معتبر هناك وذلك ببيع دارينا هنا "
" الأولاد ألفوا مسقط رأسهم، وما فيه من سحر الطبيعة وفخامة العمران؛ فكيف سيتقبلون العيشَ في صحراء قاحلة؟ "
" المدينة المنورة، وإن لم تكن تضاهي الشامَ بالعمران، إلا أنها حظيت بالعناية على مر القرون حتى أضحت حاضرة كبيرة. والإنسان يعتاد على التلاؤم مع المكان، بله لو كان في سنّ حدثة كحال أولادنا "
" وماذا عن كَوليزار؟ هل نتركها لمصيرها التعس؟ "
" سأظل على اتصال مع مَن تعّهدوا لي أمرَ البحث عنها، وذلك من خلال المراسلة "، أجبتها بنبرة مُطَمئنة. أخيراً سألتني عن موعد السفر وطريقته، إن كانت براً بمرافقة المحمل الشريف. وكنتُ قد فكّرتُ أيضاً بذلك، فقلت لها: " بل بحراً، لكي نجنّب الأولادَ وعثاء خوض وعورة الصحراء "
" مع أنهم سيعيشون عٌمرهم كله، هناك في الصحراء "، تمتمت بنبرة تسليم.

خشيَة تفسير هجرتي كهروبٍ، ما يضعني مرةً أخرى في موضع الاتهام، ذكرتُ لتلاميذي ومعارفي أنني بصدد الحج مع أهلي. في نفس الوقت، حاولتُ تدبّرَ أمر بيع المنزلين. لكن بسبب عدم ترميم المنزل الأول في سوق ساروجة، فإنني اضطررت لبيعه كقطعة أرض. المنزل الآخر، صَعُبَ عليّ إيجاد مشترٍ له، وذلك لوجود قبر صاحبه في الحديقة. عجبتُ عندئذٍ من تشاؤم المتقدمين لامتلاك المنزل من قبر الرجل المبارك، الذي نُسبت إليه في حياته الكرامات والمعجزات حتى قرنوا شخصه بالنبوّة. إلى الأخير، وافق أحدهم على شراء المنزل دونَ أن يخفي نيّته بتسوية القبر مع الأرض. وكانت حجّته، أن الذين قضوا في الطاعون دفنوا بمقابر جماعية أو أحرقت جثثهم. هكذا سيندثر أثرُ صديقي، ربيب الأحاجي. وكان اسمه، بدَوره، قد غدا في العقد الأخير موضوعَ تهكّم العامّة حينَ كانوا يحلفون ب " النبي كيكي ".
خروجُ أثاث بيتي قطعة وراء قطعة، تحمله عرباتُ المشترين، يبدو أنه وصلَ لسمَع زعيم الحي. في آخر اجتماع أحضره لمجلس الأشراف، سألني عندما بقينا لوحدنا عن جليّة الأمر. عند ذلك صارحته بعزمي على الهجرة، دونَ أن أخفي عليه أيضاً السببَ. أظهرَ الرجلُ تأثّره، لكنه حاول ثنيي عن عزمي، بالقول: " لقد حماك الله من النوائب، التي حلّت بالشام فيما مضى، مثلما أسبغَ حمايته عليها كونها أرضاً مقدسة. بشأن مخاوفك من الوالي الجديد، فأرى أنك تبالغُ فيها، طالما أنه تيقّنَ من عدم صلتك بموضوع مصادرةِ أملاك عمّه سعدو باشا "
" لقد خرجَ السهمُ من القوس، يا صديقي. لم أعُد أملك مسكناً هنا، مثلما أنني أنهيتُ عقدَ تدريسي في المدرسة الشامية "
" إنك تسرّعتَ في قرارك، وليتك شاورتني به قبلاً "، قالها بنبرة أسف وحزن. إلا أنني اتفقتُ معه على التواصل بيننا من خلال المراسلة، مع تذكيره بأمر كَوليزار. هكذا ودّعتُ مَن أضحى صديقي الوحيد في خلال الأعوام الأخيرة، فامتزجت دموعنا عندما قبلته عند باب داره.

كان الوقتُ في أوان الربيع، عندما استأجرتُ عربةً مشدودة بالخيل لتقلّنا إلى بيروت مع حوائجنا الضرورية. في الأثناء، حلّ المحملُ الشريف في الشام، وذلك توطئةً لمسيره مع قافلة الحج إلى الحجاز. عليّ كان حينئذٍ أن أتذكّر أولى مغامراتي، التي أوصلتني إلى تلك البلاد الصحراوية وكان برفقتي كلّ من ربيب الأحاجي وطواشي السلطانة. لقد فارق ثلاثتهم الحياة، وكنتُ الآنَ أمنّي النفسَ بأن أعثر على صديقي باسيل وأنه بخير. هكذا انطلقت مركبتنا في صباح ربيعيّ جميل، وكان من المؤمل أن تصل لبيروت في مساء اليوم التالي. امرأتي، كانت تبتسمُ في كل مرةٍ أخرج فيها كناشي للكتابة عندما نحلّ بإحدى المحطات على طريق السفر. بينما أولادنا، غير العالمين بأنهم لن يعودوا إلى دمشق، كانوا يقضون الوقت بالثرثرة واللهو.
وصلنا أخيراً إلى بيروت، وكانت الساعة ما تزال على حدّ الأصيل. هذه المدينة، الواقعة بين الجبل والبحر، غدت وقتئذٍ كزهرةٍ منطوية على نفسها مع غروب الشمس. أوصلنا الحوذيُّ إلى خانٍ يعرفه، وكان يطلّ على ساحة المدينة الرئيسة. حجزتُ حجرةً كبيرة لإقامتنا، ومن ثمّ أبلغتُ امرأتي بأنني سأخرج للقاء ذلك الصديق التاجر، الذي رافقته في خلال رحلة العودة من العُمرة قبل نحو اثنتي عشرة عاماً. في أثناء سيري إلى منزل الرجل، لم ألحظ تغييراً كبيراً طرأ على المدينة؛ وربما كوني لم أتعرّف عليها بشكل جيّد في أول مرة أحلّ فيها. كذلك كنتُ أهجسُ بأمر آخر، وهوَ أن يكون المنزل قد دُمّر بالزلزلة، التي ضربت هذه البلاد مرتين في الأعوام المنصرمة. لكن مخاوفي سرعان ما تبددت حينَ أبصرتُ المنزلَ المطلوب، المتبدي بأنواره وسط كتلة العتمة. مثلما أنني حمدتُ الله، بظهور صاحب المنزل وهوَ بصحة جيدة وهيئة حسنة، ليرحب بي بحرارة عند المدخل.
" سأرسلُ حالاً أحدَ الخدم، لكي يبلغ صديقك النصرانيّ بوجودك عندي "، قال لي التاجرُ سعيد عقبَ إعلامي له برغبتي رؤية باسيل ما لو كان يعرف مكان سكنه. ساعة على الأثر، وكان هذا الأخير يحتضنني بقوة وقد خنقت العبراتُ عباراتِ ترحيبه بي. تبيّنَ أنه يقيم مع أسرته في مسكنٍ غير بعيد عن منزل التاجر، وما فتأ عازباً. لكنه أدهشني، لما أعلمني بعمله في التدريس بمدرسةٍ تتبع أحد الأديرة في ضواحي المدينة. تناولنا العشاء معاً في منزل المضيف، وكنا طوال الوقت نستعيد ذكرياتنا. لكننا لم نذكر الطواشي بكلمة، وكأنما اتفقنا على ذلك خفيَةً. في ساعة مبكرة من الليل، استأذنتُ من الصديقين للعودة إلى الخان. فأعربا عن رغبتهما بتوديعي في الميناء، حالما أعلمُ بموعد مسير السفينة. هذا ما تحققَ بعد أيام أربعة، وما لبثت سفينتنا أن أبحرت من بيروت في صباح جميل. توقفنا في محطة الاسكندرية لفترة وجيزة، ومن ثم تابعنا الرحلة إلى مدينة جدّة.

أخيراً، أعودُ لأسجّل تأريخاً للمرة الثانية في هذا الكناش، أختتم به سيرتي؛ 1231 للهجرة [ 1816 للميلاد ـ ملاحظة المحقق ]. وإنه العام، المتحتم عليّ فيه أن أتخلّى عن القلم بصورة نهائية؛ أنا مَن وصلَ إلى مختتم رحلته في الحياة، عجوزاً هَرماً، بفضل الربّ وبإذنه. أحداثٌ كثيرة، مرّت على تلك الحاضرة الحبيبة، التي نذرتُ كناشي لتسجيل ما شهدته بعيني في خلال إقامتي فيها، وبالأخص أعوام الرعب؛ أحداث، علمتُ بها غالباً عن طريق رسائل صديقي الزعيم. وقد سبقني الرجلُ في الرحيل عن الدنيا، قبل بضعة أعوام، ولعلني ألتقي به قريباً في رحاب السماء مع غيره من الأصدقاء. في فترة مبكرة من مراسلتنا، كان قد أنبأني بخبر علمه بوجود كَوليزار في حريم أحد آمري الأصناف بدمشق. لاحقاً، وفي فترة متأخرة، علمتُ من مصدر آخر أنّ الابن الوحيد لكَوليزار صارَ معروفاً بصفة القاروط [ أي جرى تبنّيه من قبل رجل غير أبيه ـ ملاحظة المحقق ]. زوجُ الأم، وكان بمنصب الوالي، ما عتمَ أن هربَ إلى مصر عندما حلّ عليه غضب الباب العالي لرفضه فرمان عزله؛ وقد رافقه قاروطه: هذه الأخبار الأخيرة، وصلتني على لسان ابنتنا كَوليزار، وذلك حينَ أتت إلى الحجاز ذات مرة لأداء فريضة الحج.
يدي المرتعشة، لن تلبث أن تترك الريشة المغمّسة بالمداد، وهيَ تخط آخر كلماتي. بلى، عليها كان أن ترتعش عندما وصلتُ لموضوع وفاة امرأتي الحبيبة قبل بضعة أعوام. إنها كانت سندي في خلال الجزء الأكبر من حياتي، وعزائي أنها تركت أولادنا وقد أضحوا بمبلغ الرجال، مزدانين بحلل الإيمان والعلم والمعرفة. كما أنها كحّلت عينيها برؤية كَوليزار، التي ربيناها كما لو كانت ابنة من صلبنا.
إيه يا شرّة الشباب، ها أنا ذا أستعيدكِ في هذا الكناش ـ وكان منذوراً، حَسْب، لوصف الحملة على الأعراب ـ وأضعُ ريشتي جانباً، متسائلاً ما لو سيأتي شخصٌ آخر كي يكمل بقيّة الأحداث كي تكتمل هذه السيرة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-