الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظام حرب على المجتمع

راتب شعبو

2021 / 2 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


الراجح أنه لم يكن في مخيلة أصحاب القرار في نظام الأسد أنهم حين بدؤوا بحرق البلد، رداً على رفض قطاع واسع من السوريين للنظام، إنما بدؤوا بحرق النظام نفسه. في الحق، إن النظام الذي يسمح لنفسه بأن يهدد بحرق البلد الذي يحكمه، يخرج من تعريف الاستبداد ليدخل في مفهوم الاحتلال أو الاستعمار، ليس فقط بمعنى استخدامه لوسائل الاستعمار نفسها، بل وبمعنى انعدام شعوره بالانتماء إلى البلد الذي يحكمه والاستعداد، ولو بالتهديد، لحرقه. فما بالك إذا تجاوز التهديد إلى الفعل.
بعد عشر سنوات من استباحة دماء السوريين وأملاكهم بصورة لا سابق لها، غادر السؤال السياسي في وعي السوريين موضوع الاستبداد. لم يعد من الممكن مقاربة القضية السورية بمفهوم مقاومة الاستبداد، ذلك أن نظام الأسد لم يعد مجرد "نظام استبداد" ينبغي الخلاص منه والانتقال إلى نظام ديموقراطي أو شبه ديموقراطي، بل أصبح اسم علم لما هو مرفوض. بكلام آخر، لم يعد نظام الأسد مرفوضاً لأنه نظام مستبد، بل لأنه "هذا النظام"، لأنه النظام الذي أجرم بحق السوريين أيما إجرام، لأنه النظام الذي حرق البلد. صار رفض النظام الذي أوصل سورية والسوريين إلى درك غير مسبوق من الدمار والإذلال والجوع والتشرد والهوان الوطني، أكبر من صفته كنظام مستبد. أصبح نظام الأسد هو النظام المحروق أو النظام المرفوض الذي لم يعد له محل مقبول في ذهن غالبية السوريين.
بات نظام الأسد يكتسب هويته من كونه محط رفض عام وليس من كونه مستبداً. يمكن للناس أن تقبل نظاماً مستبداً، أو أن تتعايش معه، فاستبداد نظام ما ليس مرادفاً لرفضه العام بالضرورة. هكذا كان حال النظام الستاليني أيام الاتحاد السوفييتي ونظام فرانكو في اسبانيا ونظام عبد الناصر في مصر، وهو الحال اليوم في الصين مثلاً. ويمكن القول أيضاً، وإن بحدود أدنى، هكذا كان حال نظام الأسد قبل أن يدخل في تحديه الصفيق مع الشعب السوري ويقود إلى دمار البلاد.
النظام المستبد يحرس المجال العام ضد أي نشاط مستقل، ويضع المجتمع في ترهيب مستمر وتحت ضغط ثابت. يمكن لهذا الضغط أن يتحول، في لحظات معينة، إلى عنف صريح ودموي ضد حراك معارض. هذا ما شهدته معظم، أو كل، الأنظمة المستبدة في العالم. غير أن منسوب العنف الموجه ضد المجتمع ونوعيته وديمومته ليست شيئاً بلا حساب في معادلة الاستبداد. الأنظمة المستبدة ليست منفلتة، بعد كل شيء، من قيود المجتمع. حتى في الاستبداد هناك حدود غير مصرح عنها وغير مكتوبة تمس عمق المجتمع المحكوم، يتوجب على المستبد احترامها كي يستمر. حين تجرأ رفعت الأسد في 1982 على نزع إشاربات النساء في شوارع دمشق، اضطر حافظ الأسد إلى الخروج على شاشة التلفزيون ليعتذر للشعب، إدراكاً منه أن في هذا تجاوز للحد الذي على الاستبداد احترامه كي يدوم، أو كي لا يقطع حبل الوصل مع المجتمع. يمكن القول إنه بعد حد معين من العنف، يستهلك النظام المستبد "مقبوليته" أو "شرعيته الاستبدادية"، إذا صح القول، ويتحول إلى نظام مرفوض.
كما يمكن أن يخرج المجتمع على النظام المستبد، كذلك يمكن أن يخرج النظام المستبد على المجتمع، وذلك حين يتجاوز في بطشه وعدوانه على المجتمع حدوداً معينة، ويتحول إلى نظام خارجي، بالمعنيين، الغربة عن المجتمع والخروج عليه.
العنف الذي مارسه النظام الصيني، على سبيل المثال، في ساحة (تيان آن من) عام 1989، على وحشيته وفظاعته، ليس كالعنف الذي مارسه النظام منذ عشر سنوات، ولا تترتب عليه النتائج نفسها. لا يوجد في تاريخ قمع نظام الأسد للثورة السورية، مثيل للصورة التاريخية لذاك الرجل الصيني البسيط الذي يقف في وجه دبابة صينية ويمنعها من التقدم، لأن دبابة نظام الأسد لا تتوقف أمام رجل أعزل.
أمام قوة ثورة السوريين وديمومتها، أباح نظام الأسد لنفسه التحرر من كل قيد في القمع، فقطع حبل الوصل مع المجتمع السوري بلا رجعة، وتحول بالتالي إلى نظام مرفوض لا مكان له في نفوس السورين. لذلك لم يعد أمام نظام الأسد اليوم سوى أن يستمر كنظام حرب.
للخروج من حالته بوصفه نظام حرب، يحتاج النظام اليوم إلى تسوية سياسية واسعة "تقنع" الشارع السوري بأنه خرج من جلده ولم يعد هو النظام السابق نفسه الذي حرق البلد. النظام بحاجة إلى تسوية سياسية تخرجه من مساحة الرفض العام وتعيده إلى محله السابق كنظام استبداد عادي. يعتمد نجاح ذلك على قدرته على استيعاب مشاركة معقولة للمعارضة في الحكم (هذا محط شك كبير)، وعلى مقدرة المعارضة (المحكومة بدورها للشارع الرافض) على تحجيم مفهوم العدالة الانتقالية إلى حدود يستطيع النظام تقبلها والخروج من دائرة صراع الحياة أو الموت.
المحاولة الحوارية الشكلية التي بادر بها النظام في بدايات الثورة كانت مختلفة عن التسوية التي يحتاجها ويسعى إليها اليوم، أو يرتبها له حلفاؤه. في تلك المحاولة كان طرفا الصراع ليسا في وارد تسوية. الشعب ثائر وممتلئ بطاقة التغيير، والنظام مغرور بتفوقه، ولم يكن العالم، أيضاً، قد اعترف بكيانات معارضة تمثل الشعب السوري. بعد عشر سنوات، دخل الكثير من اليأس إلى نفوس السوريين، وانحط النظام إلى مستوى نظام حرب معلنة على المجتمع، كما انحطت مؤسسات المعارضة المعترف بها دولياً، إلى مستوى يلائم حاجة النظام اليوم إلى تغيير بدون تغيير.
على هذا فإن نظام الحرب السوري في حاجة إلى تسوية سياسية واسعة، على أن لا تمس اللب الصلب للنظام (أجهزة القوة فيه وتبعيتها). التسوية السياسية، وليس الحل العسكري، حتى لو استطاع النظام أن يستعيد بالقوة كل الأراضي التي انتزعت منه، هي المدخل الذي يحتاجه النظام إذا أراد أن يحاول فتح حساب جديد له محلياً ودولياً. غير أن التوازنات التي تتشكل داخل دائرة النظام تشير إلى أن النظام يتجه نحو الاستمرار كنظام حرب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في 


.. دعوات أميركية للجوء إلى -الحرس الوطني- للتصدي للاحتجاجات الط




.. صحة غزة: استشهاد 51 فلسطينيا وإصابة 75 خلال 24 ساعة


.. مظاهرات في العاصمة اليمنية صنعاء تضامناً مع الفلسطينيين في غ




.. 5 شهداء بينهم طفلان بقصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي السعو