الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد خلف . .

صباح هرمز الشاني

2021 / 2 / 3
الادب والفن


قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب)
للروائي العراقي احمد خلف . .

وأنا أقرأ رواية (موت الأب) للروائي العراقي احمد خلف ، أكاد لا أصدق بأن مؤلفها ، قد كتبها في عهد النظام البائد، ذلك أن من يتجرأ التطاول على شخص الطاغية، لا بد أنه ينشد الموت، أكاد لا أصدق، ليس لتعرضها لهذا النظام، وهرم من يقوده فحسب، بل لمرورها من مقص رقابة لجنة فحص النصوص أيضا، هذه اللجنة المعروفة بصرامتها على منح إجازات النشر، والتي تنحصر مهمتها الحد من تسرب النصوص التي قد تتصدى بشكل من الأشكال، سواء كان عن طريق الرمز أو الإيحاء واللمز، أو بالطرق غير المباشرة الأخرى المعروفة وغير المعروفة الى النظام عامة، وقائد الضرورة على وجه الخصوص. أجل ، أكاد لا أصدق. . . وأنا أستشف من خلال سطور الرواية العزيمة التي يتحلى بها مؤلفها على مواجهة أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم، وهو يكتبها بقلب من حديد، لا يعرف الخوف ولا الهزيمة، سعيا للكشف عن حقيقة النظام.

كتب المؤلف هذه الرواية بين عام 1995ــــــ 2000، حيث قدمها الى دار الشؤون الثقافية. لتوافق لجنة فحص النصوص على طبعها. وفي شهر تموز من عام 2002 تم طبعها. لم ينتبه الى ترميز الرواية سوى شخص واحد من أعضاء لجنة فحص النصوص، وربما الى عنوانها أكثر ( موت ألأب )، خشية من إيحائه الى شخص الطاغية، ما أضطر أعضاء اللجنة، حرصا على حياتهم، وربما على حياة المؤلف أيضا الى دفن النسخ المطبوعة من الرواية في أحد المخازن المتروكة، ومن حسن حظ المؤلف أنه كان يعمل في الدار نفسها التي طبعت فيها الرواية، ما أتيحت له فرصة الحصول على عشرين نسخة منها وبالتعاون مع أحد الأصدقاء. ولكن المفارقة أن وزارة الثقافة أثر سقوط النظام، منعت توزيعها ، بتقرير من أحد الذين كما يبدو يكره الأعمال الإبداعية ، لربما غيرة وحسدا .

تتكون هذه الرواية البالغ عدد صفحاتها (190) صفحة من ثلاثة فصول. جاء الفصل الأول تحت عنوان (الكتاب الأول)، والفصل الثاني تحت عنوان ( الكتاب الثاني)، والفصل الثالث تحت عنوان (الكتاب الثالث)، كما تم توزيع الفصل الأول والثاني الى أثني عشر فرعا، لينال الفصل الأول خمسة فروع، والثاني سبعة، والفصل الثالث أمسى محتفظا بعنوانه الرئيس (الكتاب الثالث) الى نهايته، أي بدون فروع، بعكس الفصلين الأول والثاني. بالرغم من أن كل فصل من الفصول الثلاثة، يتميز بمتنه الحكائي، ويختلف عن الفصلين الآخرين، إلآ أن ثمة جسر من التفاهم، يمتد بين الفصول الثلاثة، وهو أن كل فصل من الرواية، يتحدث عن القلب الإنساني وعذابه، بالأحرى عن الحقيقة التي يبحث عنها الجميع.

فأحداث الكتاب الأول تدور في بيت أستأجره (الأب) من مالكه، لأن ليس له بيت. شغل أكبر غرف البيت مع زوجته وولديه يوسف و (إسماعيل). أما بقية الغرف فقد أجرها لعوائل أخرى. تدور حول الأب الذي له حضوره القوي، ليس على أفراد أسرته فقط، وإنما على كل المستأجرين أيضا. أو كما يقول السارد الضمني على لسان يوسف: (وبفوضاه كانت الأشياء تتنحى عن طريقه وتخلي الدرب الى غرفتنا، يغض الرجال عيونهم عن بلواهم به، والنساء يصغين بإنتباه الى وقع خطواته. .).
ولعل سطوته هذه، دفعت بسارة حفافة وجوه النساء، إعجابا الى وقع خطواته وهي تصغي بإنتباه اليها، أصغر المستأجرات في هذا البيت مع زوجها الحارس الليلي، أن تنجذب اليه، وتقيم علاقة حب معه، ليتم كشفها عن طريق أبنه يوسف، وهو يتلصص على غرفتها، لتمتد هذه العلاقة فيما بعد الى إسماعيل، وهو الشقيق الأكبر ليوسف، ما يؤدي الى طرد الأب لأبنه من البيت، وإختفاء سارة.

وفي الكتاب الثاني، وإن كان السارد الضمني مثل الأول صحفيا، إلآ أنه يعلن عن أسمه بخلاف السارد في الكتاب الاول، وهو (أمجد)، كما أن صديقه هو (قاسم)، بينما في الكتاب الأول ان صديق السارد هو (عادل بيكاسو). فضلا عن إستحداث شخصيات أخرى، كمريم وهاجر وبائع الكتب.
إن ما أبغيه من هذه المقارنة، هو مسعاي لمعرفة، هل أن السارد في الكتاب الأول، هو الشخصية نفسه في الكتاب الثاني، أم أنه شخصية أخرى؟
إذا كان الأبن في الكتاب الأول، يعاني من قساوة الأب، فإن الأبن في الكتاب الثاني، بالعكس يتعاطف مع الأب، ذلك لأنه فقده بين ليلة وضحاها لما كان في التاسعة عشرة من عمره. إذ قتله خصومه الذين تربصوا له، وهو في طريق العودة من القرية. وبقدر إختلاف الكتابين عن بعضهما البعض في الشخصيات والأحداث، غير أنهما يتفقان معا في فقدانهما لشيء، يبحثان عنه، للإهتداء اليه. فيوسف في الكتاب الأول يبحث عن شقيقه، ومثله الأم تبحث عن أبنها الضائع. والشيء نفسه في الكتاب الثاني، يبحث أمجد عن العمل، كما يبحث عن الكتاب الكنز الذي أضاعه. وهاجر هي الأخرى تبحث عن الدار التي أغتصبت فيها ولا تعثر عليها.

أما الكتاب الثالث، فهو الجامع بين الكتابين الأول والثاني، من خلال التعرض لأحداثهما، والنواقص التي أعتورتهما، بقصد تكملة ما لم يتم معالجته في الكتابين الآنفي الذكر.
تقوم حياكة هذه الرواية وبنائها الفني على تقنية البحث، والإيحاء، والنقائض، والرمز، والشك.
يلجأ السارد الضمني من الصفحات الأولى للرواية، في تجسيد أبعاد ومعالم شخصياته عن طريق الرمز، ولا سيما شخصية الأب، سعيا لتأطيره ببعض الغموض الذي قد يساعده، في نأي بنفسه عن ملاحقة الاجهزة الأمنية، ومرور النص بسلاسة من رقابة لجنة فحص النصوص. ومثلها الأحداث والأمكنة التي تقع في الرواية التي عبر عنها عن طريق الرمز أيضا.
إن النص الإبداعي، كما يقول الناقد فاضل ثامر: (وبالذات النص الروائي، يجد نفسه مضطرا في الغالب الى الصمت أو السكوت، تاركا المزيد من الفراغات والفجوات الصامتة التي تتطلب جهدا أستثنائيا فاعلا من جهة التلقي والقراءة.).1
مثلما ينطبق منحى ترك الفراغات والفجوات في النص الذي يجد نفسه مضطرا الى السكوت، ينطبق المنحى ذاته، على النصوص التي تسعى طواعية ترك الفراغات والفجوات في معرض صفحات نصوصها، بهدف مشاركة المتلقي بإنتاج النص من جديد، أي كتابته، وقوعا تحت نظرية (القاريء المفترض) لآيزر.

لا شك ان الغموض الذي لف شخصيات هذه الرواية، كان بفعل وقوع المؤلف تحت إرهاب الدولة، ولكن في الوقت نفسه، أفاد هذا الإرهاب الرواية، بوعي من مؤلفها، وليس بدون وعي منه، أقول بوعي منه، ذلك لأن السارد الضمني في الكتاب الثالث، يتحول الى القاريء المفترض، عبر التعرض للفجوات والفراغات التي تشوب الرواية.
تتجلى أولى هذه الرموز بالبيت الذي يسكنه الأب مع زوجته وولداه يوسف وإسماعيل، بالإضافة الى المستأجرين الساكنين في الغرف الأخرى، بإعتباره سجنا يعيش فيه العراقيون جميعا، وليس مستأجريه فقط من خلال هذه الجملة :(كان المساء يأتي ليوصد الباب الكبير بمزلاجه الحديدي.).
وإذا كانت الرواية عبر هذه الجملة، تسعى الى التأكيد، على ان الشعب العراقي يعيش في قفص مكبل بحديد، لا مفر من النفاد منه، فإنها في الجملة التي يطلقها الأب: (أنا رجل الدار فحذاري من التمادي اللعب معي)، تحاول الكشف عن دكتاتوريته، وعدم السماح لأي فرد من أفراد الشعب العراقي مناهضة آرائه، أو حتى الدخول في نقاش معه.

إن حبه الطاغي لنفسه، من خلال سطوته على الجميع، وعدم جرأة ساكني البيت على معاندته، جعله هذا الإعتداد بالنفس، كما لو كان يخطط ليس للإستيلاء على البيت المستأجر كله بما فيه من غرف ونساء، وربما رجال أيضا، كما يقول أبنه يوسف، وإنما على بيوت العراق كلها، بما فيها من مدن وأقضية ونواحي وقرى ونسائها الجميلات. بدليل أنه أستولى على قلب سارة التي لم تكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها، أي بعمر أبنه إسماعيل، ومن ثم على قلب (ساهرة). كما ان جملة: (لم تكن ثمة علاقة بيننا وبين المستأجرين. .)، تشي بإستعلائه على الآخرين. والجملة التي تليها: (لأنه ما من عائلة أستمرت معنا أكثر من عام واحد حتى تلملم أشياءها وتهرب من طغيان الصوت أو الشتيمة)، تدل الى سطوته على الجميع.
وبغض الأب للغرباء، وإن كان القصد منه في الرواية، هو تحذير المستأجرين من جلب أصدقائهم الى البيت المستأجر، إلآ أن تأويل مفردة (الغرباء)، تكسب معنى آخر ألا وهو أن الأب يكره (أمريكا) تحديدا، والدول الحليفة معها، لتدخلها في شؤون العراق، بمسوغ وجود المفاعل النووية فيها، والأسلحة المحرمة دوليا.

إذا كان الطاغية رمزا للسلطة والنظام القائم في العراق، فإن إسماعيل وعمه (نوح) ووالدته، فضلا عن يوسف، يرمزون الى المعارضة. تحديدا الى إنتفاضة الجنوب التي أندلعت عام 1991. وثمة جملة دلائل توحي الى ذلك، وفي مقدمتها عدم أرتياح الطاغية من زيارات شقيقه لبيته، ربما لوجود سر بين الشقيقين والأم، وهذا السر على الأغلب يكمن في إنجذاب الأم الى العم نوح، قبل زواجها بالطاغية. ولعل قول يوسف: (أنها لا تنشرح إلآ بحضور عمي)، يقصد أمه. أكبر دليل على ذلك. كما أن جملة: (كان عمي حين يتكلم يفرض علينا الإصغاء اليه)، هذه الجملة التي تتكرر، مع جملة: (لماذا لا يمكننا إستبدال آبائنا بغيرهم)، لا تدلان هاتان الجملتان على إيثار أفراد أسرة الطاغية لنوح عليه فحسب، وإنما هم مع إنتفاضته ضد الطاغية أيضا
بالرغم من أن نوح دخل السجون، طبعا لنضاله السياسي، وإجادته لفرض حضوره أثناء الكلام، المعروف عنه لدى القادة السياسيين، غير أن إسماعيل، لإطرائه من قبل نوح يثير الإنتباه، بما يشي أنه هو قائد المعارضة أو الإنتفاضة، لا فرق، وليس عمه نوح. والجمل التي يطري نوح بها إسماعيل تؤكد على ذلك هي:

-البيت بدون إسماعيل يبدو فارغا برغم حركته المعهودة، ليس بيتا، بل خرابة. في إشارة الى الوطن.
-أين رجل البيت، ولم يكن يقصد أبي بل يقصده لأنه حين يجلس معه يتحدثان بصوت منخفض، كأن الرجل نوح يجسد نفسه بالولد إسماعيل. .)، وعبارة: ( يتحدثان بصوت منخفض، الى جانب دخوله السجون، وإجادته للكلام، تؤكد إنضوائهما تحت لواء تنظيم واحد.
كما أن تخيل يوسف لعمه نوح أثناء لقائه مع إسماعيل: ( وقد عثر على صديقه الذي لا بديل عنه، لأنهما كانا ينفجران بضحكة مشتركة، يتشابهان في الصورة والحركة ومن الصعب التمييز بينهما. .). يزيد من إحتمالية منحاهما المشترك.
إن سارة حفافة وجوه النساء، ضحية زواجها برجل لم تحبه، وضحية الأب الطاغية التي عقدت علاقة معه، ربما إعجابا بقوة شخصيته. ولكنها عندما وجدت البديل للأب، في الأبن الذي لا يقل عنه قوة في شخصيته، مضافا صمته شبه الحزين، وبما عرف عنه من قلة الكلام وصرامة في ألآ يدع الثرثرة تستولي عليه، بعكس والده، لم تتردد في خيانة الطاغية، والوقوع في أحضان الأبن.

وإذا شئنا التأويل، فإن سارة بوصفها ضحية رجلين، ولجوئها الى المعارضة (الإنتفاضة) المتمثلة بإسماعيل، ترمز الى الوطن (العراق). بدليل أن سارة وإسماعيل لا يعرف المتلقي مصيرهما، أي هل أن إسماعيل أثر إختفاء سارة ألتحق بها أم لا؟ بحسب قول العم نوح: (كل أمريء يبحث عن كنزه ولا بد واجده في يوم ما)، فبالإستناد الى هذا القول، أن إسماعيل قد ألتقى بسارة. كما أن وصف نوح لسارة بالكنز هو دليل آخر الى أنها ترميزها الى الوطن. ولعل الجملة التي ينقلها السارد على لسان يوسف: (النظرات والصوت أستولتا على إسماعيل أما الأب فقد حطمه الجسد)، تعزز هذا الترميز، ذلك أن سارة ليست سلعة، أي شهوة الجسد الزائلة، وإنما هي الروح التي تنبض بالحياة، فالجسد مصيره الفناء، أما الروح فخالدة، بدليل أنها تتخلى عن الأب، أي عن الجسد، وتنضم الى الروح الذي هو إسماعيل.
وبالمناسبة فإن إطلاق أسم إسماعيل على هذه الشخصية، لم يأت إعتباطا، ذلك لأنه يذكرنا بوالد إسماعيل سيدنا إبراهيم الذي أراد أن ينحر أبنه إسماعيل، ويقدمه ضحية للرب، تلبية لدعوته، بهدف تجربته ومعرفته مدى حبه وإخلاصه له. أي أن أسم إسماعيل مقرون بالتضحية. وتضحية إسماعيل هنا هي للإنتفاضة، سواء كان ذلك في حالة إستشهاده أو بقائه على قيد الحياة.

كما أن إختفاء هاتين الشخصيتين من الأحداث الجارية في الرواية، وجعل نهاية الكتاب الأول مفتوحة، ومثله الكتاب الثاني، يضع المتلقي أزاء العديد من التأويلات التي تخص مصير حياة سارة وإسماعيل، ترى هل أن إختفائهما المفاجيء والسريع، هو لربما بسسبب إستشهادهما في أحداث إنتفاضة الجنوب؟! والأم هي الأخرى ترمز الى الوطن، لأنها هي أيضا تتخلى عن الطاغية، وتعقد قرانها على شقيقه نوح، وهي بذلك مثل سارة، تلجأ الى المعارضة (الإنتفاضة).
إن مقتل نوح على يد الطاغية، يوحي الى القضاء على إنتفاضة الجنوب. ولكن في الوقت نفسه، يوميء الى إستمرارها، لحجب مصير إسماعيل وسارة، بالأحرى بقائهما على قيد الحياة وزواجهما.
لقد أوحت الرواية الى مقتل العم نوح، من خلال طير الغراب، في ثلاثة مشاهد، من اجمل ما تم تجسيدها للإيحاء الى إنتكاسة الإنتفاضة.

بغض النظر عن كون الغراب رمزا للشؤم، فقد تم تصويره، وهو يحلق في الفضاء، فوق الشقيقين المتصارعين، في ثلاث جولات وصولات له، كما لو كان طائرة من طيارات الطاغية التي تقصف الثوار. أو هكذا يبدو كالطائرة التي ترصد عدوها قبل أن تغير عليه. في المرة الأولى للتأكيد على وجود الثوار في المكان والموقع الذي حدده الغراب (الطائرة)، وقد: (سف طائر غريب أنبثق من بين صفوف البيوت المتجاورة، حام حولنا قليلا كأنه فوجيء بنا، ولما عاد من جديد، أضطر أبي أن يردعه بإشارة من يده لئلا يلطم وجه أحدنا.). والجملة الأخيرة إشارة واضحة الى مقاومة الثوار لطائرات الطاغية، (وأبوه يردع الطائر لإشارة من يده). وفي المرة الثانية، تقترن صرخة الإستغاثة، الإستعانة بطائر الغراب للقضاء على العم نوح، في إشارة الى إستغاثة الطاغية بالغرب للقضاء على الإنتفاضة: (ومن داخل البيوت الهاجعة سمعت صرخة الإستغاثة لا اعرف من أي البيوت خرجت، وقد عاد الطائر الكبير يحوم في الفضاء ويغيب عن أنظارنا). وفي المرة الثالثة وبعد أن يصيح الأبن: لقد مات. يقصد العم نوح: ( أمسك أبي بذراعي وهرول بي لما رآى الطائر المشؤوم يحوم في الفضاء المهجور من حولنا، صاح بي: هيا يا نذير الشؤم. هيا لنهرب.
إن بحث يوسف عن شقيقه إسماعيل، يوازي بحث وليد مسعود في رواية (البحث عن وليد مسعود) عن وطنه فلسطين، وإختفاؤه هو مواصلة في الحضور مع إنتفاضة الجنوب المماثلة لإختفاء وليد ومواصلته مع القضية الفلسطينية. لذا فإن روايتنا هذه تكشف عن تناصها مع رواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا.

بقدر ما أشتغل السارد على تقنيات الرمز والإيحاء، بالقدر ذاته أشتغل على النقائض. أو كما يقول السارد الضمني: (إجتماع النقائض في رقعة واحدة من المكان.) كما في: (المكتبة الخشبية ليوسف الموزعة على ثلاثة جدران من أرقى أنواع الخشب المستوردة)، تتصدر النقائض التي أشتغل عليها، وكذلك: ( الرفاه الباذخ والنعمة المكدسة في تلك الحجرة التي جدرانها مزججة بالزخارف)، تعطي الإنطباع نفسه، كذلك: (لون مائدة القمار، هو اللون نفسه لربطة العنق، بالإضافة الى ضوء الثريات العاكس لنور الشمس، كأن الداخل الى الحجرة، يطأ المرايا بجدرانها الوهمية. .).
والنزعة القائمة على النقائض فيه، تتضح أكثر بوضع هيكل الذئب المصنوع من النحاس والقصدير لحماية البيت، بدلا من الكلب. ليفرض هذا السؤال نفسه على السارد: (متى كانت الذئاب حامية الديار، أما كان الأجدر به أن يجلب هيكلا لكلب تم تدريبه لحماية البيت من الأذى.). ويتكرر وصف طريقة وقوف الذئب ورامي الرمح في بداية الرواية ونهايتها.

لا تكشف الرواية عن نقائضها في الكتاب الاول فحسب، بل في مقارنة الكتاب الاول، مع الثاني أيضا. وتبرز هذه النقائض في مظلومية الأب في الكتاب الثاني، و ظلم الأب في الكتاب الأول، وتعلق (قاسم) الصحفي بأبيه في الثاني، وإساءة الأب للأبن اكثر من سواه:
قاسم: لشدة تعلقي بأبي كنت أحلم به.
يوسف: والأب أساء ربما أكثر من سواه.
والسارد الصحفي في الكتاب الثاني شخصية محورية، وفي الأول ثانوية. ولكن النقائض الأكثر أهمية، تظهر في كل كتاب على حدة، وليس من خلال المقارنة بين الكتاب الاول والثاني، أما الكتاب الثالث، فهو جامعهما، جامع بين الكتابين. ولعل قول السارد بأنني سأكون مضطرا لكتابة روايتين في نص، يؤكد بأن الكتاب الثالث، وإن باغت فيه المتلقي، بأن الأب وساهرة، ما يزالان على قيد الحياة، ويعيشان مع يوسف تحت سقف واحد، يؤكد بأن الكتاب الثالث ليس رواية مستقلة، كما في الكتابين الأول والثاني أي، بخلوه من شخصيات وأحداث جديدة، بقدر ما هو شرح وتفسير للفراغات والفجوات التي أعتورت الروايتين الآنفتي الذكر، الكتاب الأول والكتاب الثاني.

يطرح السارد الضمني هذا السؤال في الكتاب الثاني من الرواية، وهو عصارة ما تهدف الى بلوغه، والسؤال هو: (هل الكتاب المفقود إشارة لضياع شيء معين؟ الكتاب أم مؤلفه؟ أم محتواه ما يبحث عنه الرجل الأنيق؟
يقينا. . إن الكتاب المفقود ليس إشارة لضياع شيء معين فقط، بل لضياع كل الأشياء، إبتداء من أصغر الأشياء في حياة الإنسان العراقي، متدرجا في الصعود الى أكبرها. والاشياء التي تخص حياة الإنسان كثيرة، لها بداية و لكن ليس لها نهاية، وهنا تكمن المشكلة. فمن أين يبدأ هذا الضياع؟ هل من كرامته التي هدرها الطاغية، في شن الحروب التترىة لتجويع الشعب العراقي وتركيع المثقفين في شوارع المدن لبيع كتبهم ؟ أم بكم الأفواه للحد من التعبير بحرية عن آرائها، لذا فإن فقدان كل الاشياء في حياة الإنسان العراقي لا يمكن التعبير عنها إلآ في إيجازها في كلمة واحدة وهي (تحطيمه). ذلك أنها لا تعد ولا تحصى، والتجربة المريرة التي يمر بها الصحفي (أمجد) أبن سنية الخبازة، ما هي إلآ نموذجا للمعاناة التي لقيها هذا الشعب المسكين، تحت حكم الطاغية لثلاثة عقود خلت. إن أمجد، للغموض الذي أكتنف مصرع والده، تلبسته محنة هاملت: (ليعيش تحت وطأة العذاب الذي خلفه له أبوه. أو كما يقول هو بنفسه: (وتركوني نهبا للجوع والعوز يفترسني دون رحمة. . في إشارة الى جوع وعوز الشعب العراقي أبان حرب الخليج عام 1991. كما إن محنة هاملت التي تلبسته ، قادته الى الجنون، وهاجر تقول له: (ولكني أفكر أنك صائر الى الجنون حتما. ذلك لأنه لم يعد يعرف أي الفتاتين يحب، هاجر، أبنة خالته، أم الفتاة السمراء التي تعقد شعرها على هيئة ذيل حصان وينتظرها كل يوم في موقف الباص؟ مع أن هاجر لازمته في محنته أكثر من أي شخص آخر.
بقدر ما قادت شخصية هاملت بأمجد الى الجنون، بالقدر ذاته قادته الى الأرتياب بالآخرين، حتى بالناس الذين يحبهم ، شأنه شأن هاملت الذي لم يكن يرتاب بأمه في علاقتها مع عمه فقط، وإنما بحبيبته أوفيليا أيضا. وذلك من خلال أرتيابه بالفتاة السمراء التي أحبها، في كون الشاب الذي معها في السيارة، عشيقها وليس شقيقها، وهو يقول:( يا للظنون التي تعمي بصيرتنا). وكذلك أرتيابه بمريم في عدم ذهابها الى بيت عمتها، كما أدعت وإنما ذهبت للقاء قاسم. وكذا الحال بالنسبة لهاجر التي حدثته عن إغتصابها في البيت الكبير، حيث يرى بأنها كذبت عليه بتأليف حكاية الجريمة المزعومة والبيت الملعون.

تأتي جملة: (تلقيت دعوة في بيت صديقة لي) التي تطلقها هاجر في الصفحة (70)، وبعد أكثر من خمسين صفحة، يطلع المتلقي على ما حدث في هذا البيت. ولأن حدث فيه شيئا غريبا، جاءت مع السارد الصحفي أمجد تبحث عنه، إلآ أنها لا تعثر عليه، كما لم يعثر يوسف على شقيقه إسماعيل، وكما لم يعثر السارد على الكتاب المفقود إلآ بشق الأنفس. أقول أن السارد تجنبا لإرهاب الدولة، وفي الوقت ذاته لبلوغ ما يبغي الإيحاء اليه للمتلقى، يسعى الى إستخدام الجمل والمفردات التي توحي الى المكان الذي أغتصبت فيه هاجر بحذر، كإستخدامه لجملة (البيت الكبير)، في إشارة الى بيت المسؤولين الكبار في الدولة. وكلاب الحراسة المصنوعة من القصدير والنحاس، الى حراس المسؤولين الذين لهم وجوه مخيفة. وهكذا في جملة:( بني البيت خصيصا لأحد الأثرياء)، وهي جملة شبحية، تنأي تشخيص عائدية البيت، بقدر ما عن المسؤولين الكبار، وهي إلتفاتة ذكية من السارد، فضلا عن المكان الغامض، والرجل الذي في يحفر في حديقة المنزل، حيث تتداخل الظلال والأشباح في طرف منها. أو كما تقول هاجر:( والغريب أني رأيت ما يجري ولن تخطيء عيناي ما شاهدته في تلك اللحظة من همة في الحفر أو الدفن والأشباح المنحنية تسعى الى إنجاز بقية عمل.). في إشارة الى دفن ضحاياهم من الفتيات اللواتي تم إغتصابهن.
أما جملة سحب الدخان المنتشرة في الأسفل، فهو مكان مراقبة إغتصاب الفتيات من قبل المسؤولين، بدليل أن الصوت الذي خاطب مغتصبها بالأبله، بفعل إرتكابه، بدلا من يأخذ هاجر بين ذراعيه، أسقطها بصفعة، وهو يعوي:( لقد أسقطت كل شيء).
إن مشهد إغتصاب هاجر، يماثل مشهد موت العم نوح على يد الأب. ذلك أن هذا المشهد هو الآخر، يوحي الى وأد إنتفاضة الجنوب، والطيور تحلق في الفضاء الكبير:(ألقيت في بركة مليئة بالطين وتشممت رائحة غريبة كأن دما سال من بين أصابعي ووجهي وأنا أسمع الرجل يردد علي: أنهضي يا حلوة لماذا لم تخبرينا أنك ما زلت بنتا؟).
أضع خطا تحت الجملة الاخيرة: (ما زلت بنتا)، في إشارة واضحة الى الإنتفاضة.
لذا فإن الكتب الثلاثة، يمتد جسر من التفاهم ما بينها، ليس من خلال هذه الجملة فقط، وإنما جملة: (هذه الرواية تتحدث عن القلب الإنساني وعذابه) أيضا. أي بحث الكل عن الشيء الذي ضاع منهم.
عمد السارد الى الطريقة نفسها المشوبة بحذر، في إستخدامه لمفردة الحرب التي تكررت كثيرا في الرواية، سعيا لإقترانها بأحداث الرواية، بوصفها مع الأشياء المفقودة عن يوسف وأمجد وهاجر، والبحث عنها، عصارة متنها الحكائي، وحبكتها الفنية. كجملة مثلا: (الحرب غيرت الكثير من أحلامنا). وجملة: (أكان حربه مع الزمن أم مع والده. وهذه الجملة أيضا: (الحق كان للحرب ضرر علي بقدر ما تحملته من أبي. وجملة: (غير أن الحرب هي الحرب بكل مقاساتها لا يهمها غير الطعن والمناوشة. الكر والفر. الهزيمة والإنتصار. أو جملة: (كانت الحرب أحد أسباب الضياع وفقدان الاثر ولكن في حالته لم يعد سببا من الاسباب المعقولة؟).

تبدأ الرواية وتنتهي، بيد بيضاء تطرق باب الحجرة، وصاحبة هذه اليد هي (ساهرة) الزوجة الثانية التي جاء بها الأب الى البيت، بعد إختفاء (سارة)، وهي بذلك، أي الرواية، تبدأ من حيث تنتهي.
إذا كانت شخصية سارة، رمزا للإنتفاضة، فإن شخصية ساهرة ترمز الى أمريكا، ذلك ليس لأنها تدفع الأب الى أن يتخلص من زوجته، لقاء عيشه معها بسعادة، وإنما أيضا لأنها: ( تعرف كيف تحني رأسه وتلوي رقبته). في إشارة واضحة الى التفاوض خيمة صفوان.
كما أن جملة: (لكن الحصان بديء بترويضه، شيئا فشيئا، حتى خيل إلي بعد طرد أمي من البيت، أن أفق سمائه قد تراجع بعيدا عنه.)، تكسب المعنى ذاته.
إن الأم لم تبك لوحدها، لتنفيذ أوامر ساهرة، لطلاقها من الأب، بل كل الشعب العراقي بكى معها، وهو يرى بأم عينيه التنازلات التي قدمها الطاغية لدول التحالف في خيمة صفوان.
ولأن الأم ترمز الى الوطن، فهي ترفض أبا يبيع وطنه من أجل أن يحافظ على كرسيه. لذلك فلا عجب أن تفرح بتخليه عنها، لأنها أساسا لا تحبه، في إشارة الى رفض الشعب للطاغية، وعدم حبه له: (يشهد الله ، أني تخيلتها في لحظة خاطفة، لحظة كمروق سهم في الريح، أنها تبكي فرحا لخلاصها من ثقل أيامه الجاثمة على صدرها الرقيق المتداعي الهش.).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر: 1-المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي. فاضل ثامر.
دار المدى ـــــ الطبعة الأولى 2004.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم