الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سفينة نوح الاحتجاجيّة..أو في فاعليّة الكرنفال البابليّ..

يوسف بن موسى

2021 / 2 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


سفينة نوح الاحتجاجيّة..
أو في فاعليّة الكرنفال البابليّ..
أو في سبت الهجنة..


وأنا أواكب احتجاج الشباب التونسي الغاضب في شارع الحبيب بورقيبة يوم السبت 30 جانفي 2021، وقفت طويلا أماما مشهد الخليط الشبابيّ العجيب من كافة المشارب: شباب الأحياء الشعبيّة، نقابيون طلابيون من الإتحاد العام لطلبة تونس، جمهور الراب، شباب من أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل، مفروزون أمنيون، ناشطون ماركسيون بمختلف تلويناتهم، وقوميون كذلك، مجموعات من المدافعين عن مجتمع الميم، وهيبيون، وعاطلون بلا صفة (منزوعة وجوههم وممسوحة ملامحهم)، وصحفيون شباب، وجمهور الفيراج من نوادي العاصمة، وأوزاع من الناس من الطبقات المسحوقة والمهمّشة.. فتذكّرت افتتاحيّة كتاب نورينا هيرتس "الثورة لن تتلفز" في كتابها الشهير: "السيطرة الصامتة: الرأسماليّة العالميّة وموت الديمقراطيّة" .

محايثة غير موضوعيّة:
هذا الحشد غير المتجانس في المنطلقات وفي الغايات بعيدة المدى، وفي السلوكيّات والمنهجيّات، وفي الانتماء الطبقيّ والثقافيّ أيضا، والمتناقض في الكثير من القضايا، وجد يوم السبت الماضي نقطة تجانس كيميائيّة عجيبة بين مختلف مجموعاته ومكوناته. وهي نقطة التصدّي لشراسة قوات البوليس التي تختزل كلّ دلالات العنف الماديّ والرمزي للدولة، والتي تُعدّ في نظر الشباب بمثابة مخلب القطّ للمجموعات المالية والبيروقراطيّة والطبقيّة المتحكمة في شرايين البلاد وفي أوردة الاقتصاد.
تساءل الكثير من النشطاء التقليديّين يوم السبت عن سرّ اجتماع هذا الخليط العجيب، وأبدى الكثير من المنتمين إلى أحزاب المعارضة الكلاسيكيّة امتعاضهم من هذه النبرة الغريبة في الاحتجاج ومن المحمول الجنسيّ الصادم في الشعارات المرفوعة من قبل الجمهور، ومن سلوكيّات طفت على السطح بعد أنّ كانت طيلة عقدين من الزمن تتحرّك في الأزقّة الخلفيّة للمدينة، مكانيّا ورمزيّا. فلقد رفع المحتجون يوم السبت شعارات ذات محمولات جنسية صارخة وبخطاب عامي يستدعي لغة الشباب الليليين من أبناء الأحياء الشعبيّة الذين احتلّوا الشوارع طيلة الأسبوع الذي سبق يوم السبت الماضي.
فقد طغت شعارات العابرين والمثليّين والجذريين والنزقين من أبناء الأحياء الخلفيّة، على الشعارات التقليديّة للشباب اليساري والنقابي والحقوقي المكتنزة بالدلالات الطبقيّة والفكريّة. ووجد الشباب المسيّس نفسه بين خيارين: إمّا مسايرة الموجة الجديدة الجارفة من الاحتجاج الشبابيّ التي ترفع لواء استهداف مفاصل العنف الطبقيّ الماديّة والإيديولوجية للدولة بشكل واضح لا لبس فيه (الحكومة، والبرلمان، والبوليس، والإعلام الرسمي، والبيروقراطية النقابية، والمدرسة، واللغة الرسميّة، وكل أدوات التدجين التي أحصاها لويس ألتوسير..)، وإمّا مواصلة النضال بالأساليب والمقاربات التقليديّة التي سادت طيلة عقدين، ومن ثمة الانخراط في مزيد الانفصال عن القاع العميق للشارع، ومواصلة الاصطفاف خلف أطروحات قديمة كلاسيكيّة لها مجموعة ضوابط سياسيّة وأخلاقيّة وفكريّة وسلوكيّة تحدّد آليات الاحتجاج وأشكاله، (ما سُمّي تندّرا من قبل الشباب "كراس شروط الاحتجاج").
والظاهر إنّ الشباب اليساريّ المسيّس بشقيه الماركسي والقومي وخاصة من نشطاء الاتّحاد العام لطلبة تونس(UGET) القُدامى والمحدثين المشارك في معركة يوم السبت الفارط قد خيّر الالتحام بالجماهير الهادرة التي أبدت شجاعة منقطعة النظير في تحدي البوليس، ويبدو أنّ الغليان الصامت لشباب اليسار والامتعاض المكتوم من طريقة إدارة الشيوخ للمعركة في موجهة اليمين طيلة عقد من الزمن، قد بدأ يظهر للعلن ويطرح مقاربات مغايرة رغم ضبابية المشهد عند الكثيرين..
ولقد أبدى هذا الخليط العجيب الذي سمّيناه "سفينة نوح الاحتجاجيّة" أو "الكرنفال البابليّ الرافض" بالمفهوم الباختينيّ، فاعلية منقطعة النظير في رفع الصوت وفكّ الحصار المضروب على المسحوقين بفعل الطبقة الحاكمة وبفعل أدواتها الرمزيّة وبفعل التمثيل السياسيّ المزيّف للعبة. ولعلّ أكبر دليل على فاعليّة هذه الحركة الجذريّة ردود الأفعال العنيفة والقصوويّة ضدّ الشباب خاصة العنف اللفظيّ والماديّ الذي تعرّض له المشاركون في المسيرة من قبل أعوان البوليس طيلة الأيام التالية ليوم السبت وإلى حدود مساء يوم الثلاثاء 2 فيفري 2021. وكذلك الهجومات المجانيّة من كهنة العقيدة وسدنة معبد الأخلاق الطبقيّة وحرّاس منظومة أخلاق العبيد، وحتى من قِبل بعض النشطاء اليساريّين الذين أبدوا قسطا لا بأس به من التمترس العقائدي والجمود التنظيمي والتعاليّ والانفصام عن الواقع، وصمّوا آذانهم عن هدير الجماهير الرافضة ولم يلتقطوا إلا فحيح العبارات الجنسيّة في شعارات الشباب.

فلاش باك قبل 20 سنة:
تقول نورينا هيرتس في كتابها "السيطرة الصامتة" أنّها صبيحة الـ 20 من جويلية 2001 في جنوة الإيطاليّة، اندهشت كثيرا من الخليط العجيب للمحتجين ضد العولمة وضد الجشع الرأسماليّ المتعاظم للشركات العابرة للقارات عقب سقوط جدار برلين. كان المحتجون خليطا من اليساريين ومناهضي العولمة وأنصار البيئة والسود ومناهضي الاستعمار ومجموعات الفوضويّين والشياطين الحمر والمهرجين والجنيات الحُمر.. كان الجميع بمختلف مشاربه له هدف واحد وهو اقتحام مقر أشغال اجتماع مجموعة الثمانية الكبار.
تصرّح نورينا هيرتس أنّها لم تذهب إلى الاحتجاج خالية الوفاض بل تسلّحت بالليمون والخلّ وبدليل جمعيّة روكوس Ruckus القادمة من كالفورنيا والذي يشرح للمحتجين آليات المقاومة وأشكال التصدّي لعنف الشرطة، وتسلّحت أيضا بدم مزيّف لاستعماله عند الضرورة، وتلقّت دورات تدريبيّة في آليات العصيان المدني..
ولعلّ أبرز ما شدّ الكاتبة في هذه الملحمة طيلة يومين هو روح الوحدة والحميمية بين مختلف المجموعات المحتجة رغم اختلافها في المنشإ والغايات والاهتمامات والمنطلقات والجنسيات واللغات، محتجون من سياتل وملبورن وبراغ وجوهانسبورغ وباريس ولندن ومدريد وغيرها.. ولم يقلقها أبدا زعيق صفارات مجموعات الشياطين الحمر ولا الغضب المبالغ فيه لمجموعات السود وهم يحطمون واجهات المحلات والمتاجر ولا قرع الطبول العنيف.. على العكس من ذلك شعرت بارتياح منقطع النظير..



محايثة غير موضوعيّة مرّة ثانية:
الثورة لن تُتلفز (The Revolution Will Not Be Televised).. لا بل الثورة ستتلفز وستُفسْبك (ستنقل عبر الفايسبوك) ولكن بأيّ عدسة؟ وبأيّ ثمن؟
إنّ وقاحة الأوليغارشية الحاكمة في تونس تتعدى مسألة قمع المحتجين وملاحقتهم بالمحاكمات وبالسجن والتنكيل والعنف والشتم، إلى احتكار تمثيل الاحتجاج واحتكار نقله البانورامي إلى المتلقين.. فمن المسؤول عن "التبئير السردي" (Focalisation narrative) لأحداث مسيرة السبت؟ من صاحب الكاميرا الناقلة للأحداث ومن صاحب الحبكة؟ من الذي يحتكر التمثيل بالمفهوم الفوكولتي (Représentation) الصحفي والمعرفي للواقع السياسيّ؟ من الذي اختزل هدير الشباب في صورة المحتجة صاحبة الكلب الصوفيّ، وصورة الساحرة الحمراء صاحبة الألوان، وصورة سيجارة التكروري (سيجارة القنب الهندي)؟ من الذي جلس خلف الستار طيلة يوم السبت ليعتّم على مئات الوجوه المحروقة الكالحة للشباب الرافض والعاطل، ومارس التعمية وصم الأسماع عن هدير الشعارات الجذريّة ذات المحمول الطبقيّ الواضح؟ إنّه حتما إله النصّ بالمفهوم البارطيّ، إله التمثيل ذلك الذي أراد يومها جرف الجماهير البعيدة القابعة في البيوت، نحو مربّع الأخلاقويّة الزائفة وجعل المتابعين يشعرون بهول الصدمة من سيل الشتائم الجنسّيّة.
إنّه اليمين الفاسد الذي يتحالف فيه صاحب الأسهم مع صاحب السبحة من أجل تأثيم كلّ نزوع شعبيّ نحو طرح القضايا الجذريّة.. إنّه فخّ الأخلاق القاتل للجماهير.. وفخ تأثيم الاحتجاج بحشره في زوايا القضايا الليبراليّة، ومحاولة فصل اللحمة الغريبة التي بدأت تنشأ بين مجموعات مشجعي كرة القدم وبين محتجي الساحة الطلابيّة...
إنّ شيوخ بلاط الإمام الذين عملوا طيلة قرون متلاحقة على مطاردة صورة الحسن القرمطي وأسود الزبد وبابك الخرمي وصاحب الحمار وصاحب الزنج وكلّ أولائك الذين استبعدتهم مدينة القديسين والتجّار من فردوسها وحشرتهم بقوّة آلة الكتابة التاريخيّة ولاهوت الخلافة في خانة المخربين والدعّار والفساق والزنادقة، وعلّقت لهم مشانق القدّ ومشانق السرد.. شيوخ البلاط الذين ما انفكوا يطاردون الساحرات ويطاردون الشباب المحتجّ، لا لأنّه يربك نظام المدينة وتراتبيّة السلطة فيها فقط.. بل لأنّه يضرب انسجامها ويستهدف شموليّة المرجعيات الأخلاقيّة التي تضبط بها الجماهير. فبمجرّد أن تعلن أنّك تنضبط إلى مرجعية مختلفة أخلاقيّا وسلوكيّا عن أرباب المعبد.. يعلن عليك الكهنة الحرب ويطلقون خلفك كلاب السيستام بهراواتهم وأقلامهم على حدّ السواء..
أنت خطير لأنّك تزرع الاضطراب والهجنة في بيئة النظام السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الكائن. أنت خطير لأنّك تطرح مبدأ التفاوض على الحقيقة كما نظّر له إدوارد سعيد وهومي بابا. أنت خطير لأنّك لا تسلّم بامتلاك خصومك للحقائق.

يوسف بن موسى، باحث في الحضارة، جامعة منوبة، تونس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط


.. النازحون يعبرون عن آمالهم بنجاح جهود وقف إطلاق النار كي يتسن




.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: نتنياهو ولأسبابه السياسية الخاص


.. ما آخر التطورات وتداعيات القصف الإسرائيلي على المنطقة الوسطى




.. ثالث أكبر جالية أجنبية في ألمانيا.. السوريون هم الأسرع في ال