الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب المسرحي والروائي الكبير السيد حافظ دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2021 / 2 / 13
الادب والفن


جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد
في رواية ( لو لم أعشقها)
للأديب المسرحي والروائي المصري الكبير السيد حافظ
دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي
مقدمة إغنائية :
"يندرج مفهوم التجريب في إطار المفاهيم النقدية الحديثة, ويصنف بين الإبداعات العربية ذات التوجهات الفنية الجديدة, بما يعتمده من تقنيات حداثية, لكن التجريب ليس تقنية بقدر ما هو تعبير عن مواقف أو رؤى أو تصورات فلسفية وجودية وجمالية تاريخية تحكم مجمل العملية الإبداعية, فالتجريب موقف متكامل من الحياة والفن وهوينطلق من الحاجة الماسة إلى التجديد, ورغبة ذاتية في التخطي والاستمرار, فهو يستدعي نضج الفكر, ووضوح الرؤية, وتطور الأدوات الإجرائية, وتنوع الأساليب الفنية ".
ويختلف التجريب عن مفهوم التجربة, فبينما تقوم التجربة على قواعد فنية معروفة ومطروقة في أعمال فنية سابقة تُصنّف على أنها مثالية, يكون الكاتب أسير تقليدها ليضمن نجاح وتقبّل عمله من قبل المتلقي, فإن التجريب هو قرين الإبداع, وقد أجمع على ذلك معظم النقاد, ومنهم الدكتورصلاح فضل حيث يقول في مقدمة كتابه (لذّة التجريب الروائي) :
" التجريب قرين الإبداع,لأنه يتمثّل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة, فهو جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل, مما يتطلب الشجاعة والمغامرة, واستهداف المجهول دون التحقّق من النجاح, والفن التجريبي يخترق مساره ضد التيارات السائدة بصعوبة شديدة, ونادرًا ما يظفر بقبول المتلقين دفعة واحدة, ويستثير خيالهم ورغباتهم في التجديد باستثمار ما يسمى بجماليات الاختلاف".
والتجريب الإبداعي شاسع ومتعدّد الأطراف, ويختلف عند كاتب عن الآخر, كمايختلف عن التغريب الذي يأخذنا بعيدًا عن فنيات القص العربي, رغم أنه قد يتخفّى برداء التجديد تحت ذريعة الأخذ بأساليب أو طرق جديدة, لكن الذائقة العربية سرعان ما تكشفه, فالتجديد لا يعني التخلّي عن الأصالة والجذور, بل ترسيخها من قبل الكاتب برؤية جديدة خاصة منعكسة عن ظروفه الاجتماعية و ذخيرته الثقافية والمعرفية, ونضج تجربته الأدبية, فالتجريب بهذا الطرح هو مفهوم وليس مصطلحًا, لأنه لا يستقر على شكل واحد, ويختلف من كاتب إلى آخر.
إلى هذا المفهوم ( التجريب ) تنتمي أعمال الكاتب المصري السيد حافظ الروائية, وسأحاول أن أرصد بعضًا من أطراف هذا التجديد عنده, وتحديدًا في عمله الروائي الأخير المعنون ب ( لو .. لم أعشقها).
السيرة الأدبية والمهنية للأديب :
سأقتطع منها جزءًا يسيرًا فهي سيرة طويلة حافلة بالإنجازات الرائدة على صعيد التأليف والتجريب والإخراج المسرحي والتلفزيوني, وأيضًا الكتابة الإبداعية الروائية وأدب الطفل:
- من مواليد محافظة الاسكندرية جمهورية مصر العربية 1948
- خريج جامعة الاسكندرية قسم فلسفة وعلم اجتماع 1976 كلية تربية
- حاصل على الجائزة الأولى في التأليف المسرحي بمصر عام 1970
- مدير تحرير سابق في العديد من المجلات الإماراتية
- حاصل على جائزة أحسن مؤلف لعمل مسرحي موجه للأطفال في الكويت في العام 1980 عن مسرحية سندريلا
- حاصل على جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر 2015
- له أكثر من 16 مسرحية للأطفال تم عرضها بين ( 1983- 1998 )
- أعماله الروائية :
مسافرون بلا هوية 1997 – نسكافيه 2010 – قهوة سادة 2011- كابتشينو 2012 – شاي أخضر – شاي بالياسمين 2014- كل من عليها خان 2015- حتى يطمئن قلبي 2016- ما أنا بكاتب ( تشظى منها روايتان : وهمت به _ شط اسكندرية يا شط الهوى) 2017- نور وموسى الحبل السري للروح 2018- نيروزي والبنت والجد 2018- شهرزاد تحب القهوة سادة 2018- كرسي على البحر 2018- هل مازلت تشرب السيجار 2018- الحامو بأمر الله وشمس 2018- وتحمّمت بعطرها 2019- حكاية البنت لامار وقراقوش 2019- لو لم أعشقها 2019- كل هذا الحب 2019- نسيت أحلامي في باريس 2019.
- كتب مشروعًا مسرحيًّا للقضية الفلسطينية وحرب أكتوبر والاستنزاف
- قدم مشروعًا للمسرح التجريبي تضمن حوالي 35 مسرحية
- كما كتب لمسرح الطفل مشروعًا به حوالي 20 مسرحية
- أخرج للمسرح الشبابي ومسرح الطفل حوالي 9 مسرحيات
- أخرج للمسرح حوالي 20 مسرحية
- أسس جماعات تجريبية للمسرح منها : - فرقة الصعاليك - وفرقة ألف باء مسرح-جماعة الاجتياز , وكان ضمن هذه المجموعة الفنان / فاروق حسني وزير الثقافة السابق , ود/ مصطفى عبد المعطي وكيل وزارة الثقافة السابق والفنان مسعد خميس وعلي الجندي . وجماعة المسرح الطليعي .
- كتبت عن أعماله المسرحية العديد من الكتب والدراسات
- كتب للتلفزيون الكويتي والمصري 31 مسلسل مثل فيها العديد من الممثلين الكبار أمثال : حياة الفهد –منصور المنصور- معالي زايد – أحمد عبد الوارث – جلال الشرقاوي- محمود الجندي- زيزي البدراوي- هالة فاخر – تيسير فهمي أحمد عبدد العزيز – أحمد ماهر – وجدي العربي ....
- كما كتب للإذاعة في البحرين وقطر والكويت ومصر العديد من المسلسلات الإذاعية.

موضوع التجريب باتساعه وشموليته لا يمكن تناول جوانبه إلا بمنهج نقدي علمي شمولي, كالمنهج الذرائعي الذي سأعتمده لأتناول الموضوع من مستوياته الفكرية والنفسية والاجتماعية والأيديولوجية والأخلاقية من جهة, واللسانية من جهة أخرى.
أولًا- المستوى الأخلاقي :
 البؤرة الفكرية الثابتة :
المواضيع التي يطرحها الكاتب في هذا العمل تنضوي تحت المفاهيم التالية : مفهوم الوطن, والمفهوم الوجودي, والمفهوم الصوفي, ويمسرح الكاتب طرح هذه المفاهيم ضمن صراعات :
- داخلية عنيفة: يضمّن فيها الأسلوب الأدبي بانزياحاته الجمالية والرمزية المحمولة على تقنية تيار الوعي, والمونولوج والأحلام, والتهويمات واستدعاءات لرموز الصوفية.
- وصراعات خارجية: ترصد حركة وأفعال الشخصيات من خلال الحوار كتقنية سردية رئيسية, وصراعها الحركي المادي في بلد استقطبهم بعد أن لفظتهم أوطانهم, التي ضاقت بهم وضاقوا بها, أوطان فقدوا الثقة بها بعد أن أفقرتهم قياداتها بسياساتها القمعية( كيف يقودني الوطن إلى الثقة فيه وهو مخلوع الرأس..؟ ؟) فراحوا يبتغون لقمة عيشهم في بلد خليجي موشوم بوشم الغرب وماديته, في (دبي) عاشت شخصيات العمل غربة مضاعفة, سلبت منهم بكارة الروح, ووشمتهم بشبق الشهوة, شهوة المال والجنس, أي صراع يمكن أن نشهده بين الجسد والضمير , وبين الجسد والجسد, وبين الضمير والضمير, وبين الروح والشهوة؟ وبين الوطن الأصل الذي يطرد, والوطن البديل الذي (يفنّش)؟!
حول هذه الاستاتيكية الفكرية قام هذا العمل, وأريد أن أؤكد بعد اطلاعي على العديد من أعمال الكاتب أن هذا التبئير الفكري والأيديولوجي هو الطاغي على استراتيجية الأديب السيد حافظ في مشروعه السردي الطويل, حيث أن العمل الذي أتناوله الآن ( لو لم أعشقها) هو الجزء الأخير في سلسلة روائية طويلة, سباعية كتبها على امتداد ثمان أو تسع سنوات.
 الخلفية الأخلاقية :
توجّه الكاتب بعمله هذا إلى كل الخائنين الكذابين, على اعتبار أن الكذب أمّ المعاصي, منه تتوالد كل الموبقات, وصفهم بالزناة, لأن الزنا خيانة, خيانة للروح وللجسد وللإنسان ووطن الإنسان, فكان هذا العمل رسالة لكل إنسان عاش عليها , وتطهّر من كل أدران الجسد والروح والفكر, لقد مارس الأديب النقد على نفسه ككاتب,تطهّر بكتابة هذا العمل وماسبقه, ومن بدأ بنفسه أنصفَ وعَدَل, توجّه مدروس وواعٍ نحو من يحملون أمانة الكلمة, ليدركوا فداحة الجرم الذي يرتكبونه حينما يفرّطون بأمانة الفكر والضمير والحرف والحبر والقلم والورق. ورغم تناوله لمواضيع حساسة إلا أنه لم يعرض لها بألفاظ خادشة, واعتقد أن الإهداء العام الذي استهل به الرواية يلخّص جوهر الرسالة الأخلاقية التي ضمّنها فيها:
"إلى هؤلاء الزناة .. الزنا بالعين والكلام والفكر واللمس والهمس والكتابة والرؤيا بأحلام اليقظة, وبالفعل إلى هؤلاء السخفاء الذين يظنون أنهم يلعبون على الرب بالصلاة والمسبحة وسماع القرآن يوم الجمعة.. والذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد وإلى المعبد اليهودي يوم السبت.. إلى الكذابين الوجهاء الظرفاء .. هؤلاء الذين يزنون بالوطن صبحًا ومساءً دون حياء.. ويأكلون أموال الفقراء."
تجنيس العمل : الرواية جمعت بين جنسي المسرحية والرواية فهي جنس بيني معاصر (حوارية سردية),
"والحوارية السردية هي جنس حواري سلوكي من محفز واستجابة وسؤال وجواب, بشكل محادثة مسرحية, بحوار ظاهري سردي، يحمل بين طياته التشابك السردي للقص القصير, و عقدة التشابك و الانفراج, بذلك يعطينا جنسًا بينيًّا بين المسرحية المقروءة والقص القصير( أو الطويل – رواية) , بشكل حوار مستمر حتى تقره النهاية المشتركة" .
وأما نوعها فهي رواية واقعية بمسحة صوفية تتبع مدرسة الفن للمجتمع.
ثانيًا- المستوى البصري واللساني الجمالي:
 المدخل البصري :
العمل وصلني ملف pdfيقع في حوالي 295 صفحة مفروش عليها متن العمل إضافة إلى العتبات البصرية الداخلية في المقدمة, وببلوجرافيا الكاتب السيد حافظ وأهم أعماله في المسرح والرواية في النهاية , الملف لا يحوي الغلاف لذا سأستقطع دراسة الغلاف كصراع بصري ولوني, وأبدأ بالعتبة البصرية الأولى وهي :
العنوان :
لو لم أعشقها
العلامة السابعة والأخيرة
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن من هي التي يعشقها ؟ ومن هو العاشق؟ وماذا سيفعل لو لم يعشقها؟ عنوان مستفز ومحفز للبحث عن إجابة, بدأ من عنده الكاتب ببناء أول عنصر من عناصر الحدث السردي ألا وهو عنصر التشويق, في خاطرة سردية تسبق سؤالًا قبل المتن مباشرة يجيب الكاتب عن أول سؤالين, يقول:

حين لا يتوضأ الحرف
يدخل نار البوح
فينفضح الكون فيغضب الرب
وعشقت مصر بصدق ولم أكن أعلم أن عشقها خطيئة..
واكتشفت أن ليس لي وطن غير الكتابة وكل ما حولي جنون..
حين غرّد الطير فوق نافذتي تنبّهت تعطّرت توضّأت بنور موسم الكتابة الذي أتى لي..
بين الورق والقلم والهمزة والياء أنفقت العمر هباء
إذًا, العاشق هو الكاتب, المعشوقة صدقًا كانت مصر إلى أن ثبت له أن عشقها خطيئة, فكانت الكتابة هي المعشوقة الوطن, لكن أي كتابة؟ الكتابة عنها, عن مصر وطن الجنون والخطيئة, والكتابة كما يريدها هذا الأديب الحاذق هي كتابة تتوضأ وضوء طهارة وتتهيأ لصلاة تلتقي فيها الروح والنفس بالله لتجدد عهد الأمانة مع الخالق سبحانه وتعالى مستغفرة آيبة من دنس الخطيئة وسهو الجنون, فهل كانت الكتابة مجدية لتحجب صدق العشق عن المعشوقة الأصل؟ يقرّ العاشق بإخفاقه, فالعمر بين الهمزة والياء أنفقه هباء.
الإهداء: جعله عام وخاص.
العام : لافت جدًّا, ولا يخلو من تهكّم واتهام وغضب, إلى الزناة, وحدّد مفهومه للزنا, خصص به الفئة الكاذبة بكل طوائفها, وقد تناولته بالخلفية الأخلاقية.
الخاص: خصّ به الكاتب أخاه بإهداء لافت جدًّا, يلخّص حياته ومعاناته مع الكتابة ومدّعيها:
إلى الكاتب الكبير أخي محمد حافظ رجب
الذي كانت موهبته أكبر من حجم الوطن
فعذبوه- خصيان الأدب- وتعذّب بعبء حمله
مصلوبًا على الورق
أما عن التجريب, فكما سأدرسه في مضامينه في المستوى المتحرّك بالتفصيل, إلا أنه يتمظهر بصريًّا, من العتبات, ومباشرة بعد الإهداء, ببيت شعر للمتنبي:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الآلام والأحزان
وقول ل ( شبل بدران) :
الخير والشر ليسا إلا نوعين من الخير.
والعمل مقسّم بصريًّا وتجريبيًّا إلى ثلاثين (علامة), بعناوين عبارة عن جمل مأخوذة من القرآن الكريم, لتبدو فصول الرواية أو علامات الرواية محاكية لأجزاء القرآن الكريم بعدد أجزائها الثلاثين. مثلًا : العلامة الأولى : وأكثرهم فاسقون, العلامة الثانية : وأكثرهم لا يعقلون ...., ويمكن أن يتكرّر نفس العنوان في أكثر من علامة, فمثلًا : العلامة الخامسة عشر والسادسة عشر : لهما نفس العنوان ( وأكثرهم مستضعفون), وكلها عناوين مدروسة حسب مضمون مشهدية السرد, فالسرد قائم بصريًّا على مشاهد مسرحية, أو سيناريوهية, ولا غرابة في ذلك فالكاتب أصلًا كاتب مسرحي كبير , ووجدنا في سيرته الإبداعية والمهنية الكثير الكثير من الأعمال المسرحية, لذلك من الطبيعي أن نلمس التأثير السيكولوجي والمهني على استراتيجية الكاتب في كل الأعمال الإبداعية الأخرى كالرواية هنا مثلًا, لذلك قام الأديب ببداية كل مشهد بتحديد المكان والزمان, وبذلك يأتي بالعنصر الثاني من عناصر بناء الحدث السردي (الزمكانية), وإن لم يكن بطريقة أكاديمية, بل بطريقة مختزلة يتحرّر فيها من حشو الوصف وجمالياته إلى ديناميكية الأحداث الإجرائية, معتمدًا على قارئ لا يهمه وصف المكان بمحتوياته, وإنما تهمه مجريات الأحداث في ذلك المكان, وهذا ما يجعلني أؤكد أن الكاتب يكتب بوعي كبير , هو يعرف أنه يكتب رواية وليس مسرحية أو سيناريو, فيقف عند الحد الفاصل بين الجنسين الأدبيين, فلا يستغرقه الوصف المكاني للمشهد المسرحي أو عين الكاميرا للمشهد السيناريوهي, وإنما يأخذ من النص المسرحي أو السيناريو ما يخدمه في عمل روائي, الحوار والأحداث, الأحداث المروية عبر حوارات بين شخصين في الغالب, وهذه الحوارات طبيعي أن ينتفي فيها الانزياح الجمالي والرمزي, ما يُفقد العمل العمق الأدبي, وقد فطن الكاتب لهذا الأمر, فعوّض عن هذا الفقد بفقرة سردية أدبية هي بادئة ولازمة في كل فصول الرواية, وهي بادئة( روح) جرّب الكاتب من خلالها استحضار تجليات الروح, عن طريق الإتيان بكل المعاني القاموسية للحب, وأراه من خلالها قد أتى بالعنصر الثالث من عناصر بناء الحدث وهو (العاطفة) وهي طريقة غريبة, ولنقل أنها أيضًا نوع من التجريب البصري أفادت في دفق العاطفة في متن العمل الذي افتقد لجوهر الحب في كل العلائق التي قامت بين شخصياته.
تجريب تقني سردي آخر ألحقه الكاتب بالبادئة ( روح), وهو إتيانه بفقرات سردية من روايات عالمية, هذا النوع من التقنيات التجريبية يدعى بتقنية ( الكولاج) التوثيقية, وهي تقنية فنية في الفن التجريدي, أما عن استخدام هذه التقنية في البناء الفني في المتن السردي, فهي :" تعتمد على تنظيم وحدات السرد القصصي المتخيّل مع وحدات التوثيق الصحفي ( وهنا الأدبي) بتقنية محدثة تقوم على إعادة تصميم ولصق المزق الخشنة المأخوذة من مادة الحياة الأولية ( وهي هنا مأخودة من تجارب أدبية سابقة) لتدخل في تكوين جمالي جديد, بحيث يتم مسح ما علق بمصدرها من بقايا الاستعمال الأولي وتوظيفها في سياق جديد" .
من بعد بادئة ( روح) وتقنية ( الكولاج) يأخذ الفصل أو العلامة شكل النص السردي الحواري, سؤال وجواب, أو جمل إخبارية قصيرة متبادلة بين اثنين, وقد يكون الحوار منولوج داخلي في بعض المشاهد, وبذلك يأتي بالعنصر الرابع والأخير من عناصر بناء الحدث السردي وهو التعبير , تعبير كل شخصية عن نفسها, مكنوناتهاالداخلية وتبرير سلوكياتها الخارجية.
ينتهي كل فصل بصريًّا بآيات قرآنية, وهناك آية ثابتة تتكرّر في معظم العلامات هي : }ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس{.
من ناحية أدوات التنقيط أو الترقيم, يستخدم الكاتب النقطتين عوضًا عن الفاصلة, كما أن هناك استخدام لعلامة الاستفهام في غير موضع استفهام.
 المدخل اللساني الجمالي :
مدخل الدلالات البلاغية, ومنها البنية الإيحائية الذرائعية, فالسرد ذرائعيًّا ينقسم إلى فسحتين: فسحة حوارية, وفسحة أسلوبية, قد فضّل الكاتب الفسحة الحوارية وقدّمها على الفسحة الأسلوبية التي تحوي العمق الأدبي الجمالي والرمزي, أورد جانبًا متواضعًا من العمق الرمزي, وبذلك يكون قد حرم النص أو العمل الروائي من التكنيك كأسلوب فلسفي, لكنه وبإدراك عجيب لهذا الفقد عمد إلى استحضار اتجاهات وتيارات فلسفية في عمق المتن السردي عبر المونولوج الداخلي, تارة يكون تيارًا وجوديًّا ذاتيًّا, وجدناه عند كاظم :
إن تيارات النفس تعيش لحظة الانتباه ولا تنتبه لمتطلباتها, ولا ترى العلاقات الجديدة وإشكالاتها مهما حاولت إحياء مشاعرك القديمة وإعادة العلاقات القديمة لشيء يعود, وأنت يا كاظم بين اليقظة واللايقظة, إن تشكيل وجدان الفرد يتغير, لم أفكر كيف أقرأ الواقع الجديد, أتعلم أن أغيث نفسي من التحول والتغيير ..... ص 154
و أيضًا كان غالبًا عبر تيار روحي صوفي عند فتحي:
..... قل لي كيف خلعت جبة الحلال وأتيت جبة الحرام مهرولًا؟ كيف تترك دفء الفضيلة لنار الخطيئة ولا تندب حظك الشرير مع النساء؟ وتدعي أن داخلك قسيس عابد وحاخام متجرد في الصحراء وصوفي تائه في بلاد الله ينشد الغفران من رب العالمين ... . ص 125
كان هناك بعض الدلالات البلاغية من بيان وبديع نذكر منها :
الطباق :
اليقظة # اللايقظة,التقدم #التأخر, تموت مشاعر # تولد مشاعر , سكوت النساء خطر #ثرثرة النساء أمان, يا بعيدة عني # وقريبة مني, هادئًا # صاخبًا, الحلال # الحرام , لا تراهن على الغرب# ولا تراهن على العرب
ترادف : استهزاء وسخرية, عقلي وذكائي, يأس وإحباط
الجناس: مهزوم – مأزوم, الإثارة – القيثارة
البيان : استعارات بالمجمل
- ناداني الليل فحلمت بتنور يفيض نورًا وحنينًا خفيًّا للثلج والحرارة
- ناداني عمري الضائع بين الوطن والحروف التي بعثرتها على جسد النساء
- ناداني الوجد إليك فتشت تحت جلدي عليك فوجدتك ترقصين في انتشاء
- إن عطر جنون العشق يوجع الروح قبل القلب ويخجل الحرف عن التعبير
- لا تستندي على أحلامك كثيرًا, كوني في وجود واقعك
- فالوطن دائمًا يحك رقبته بالشهداء وينساهم

ثقافة الأديب :
وظّف الأديب معارفه الثقافية والمعرفية في متن النص, علاوة على النتف السردية التي أوردها من القصص العالمية, فقد سرد فقرات مطولة من خلال التهويمات التي تعتري فتحي يمكن أن تصنّف تحت بند المعلوماتية التاريخية والتراجم :
- أنا الشيخ المحاسبي أنا عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي, نشأت بالبصرة, وعشت فيها فترة لا أعرفها بالضبط, ثم ذهبت إلى بغداد واشتغلت بالتدريس, وأنا من مؤسسي مدرسة بغداد الصوفية, درست علم الكلام والفقه على يد أشهر علماء زماني, وربما كان الشافعي بينهم, وكنت على اتصال ببعض البيئات الفلسفية. أثارت طريقتي معارضة من جانب أتباع ابن حنبل حيث استعملت البيان العقلي في التعليم الديني. .... ص 197
كما أورد فقرة في ذات الحوار فقرة من كتاب الأصفهاني ( حلية الأولياء) جزء10- ص76- 80
كانت مقطع أغنية أم كلثوم( كان لك معايا أجمل حكايا في العمر كله ) متكرّر في مواقف كثيرة.
استخدم بعض الألفاظ والمفردات الغربية الدارجة دون أن يضعها ضمن قوسين للتدليل على غرابتها :
أخذت شاور, شغلت جهاز الراكوردر ....
مزج في الحوارات بين اللغة الفصحى والوسيطة واللهجة العامية السورية أو المصرية, ولجوء بعض الكتّاب للهجة العامية في الحوارات بقصد تحقيق الطزاجة والحيوية قد يكون مردودًا, إذ يمكن تحقيق ذلك باستخدام اللغة الوسيطة, أي الألفاظ الفصيحة بذاتها, والمنطوقة والمتداولة باللهجة.
معرفة الأديب الأكاديمية بالأجناس الأدبية:
وهي لا تخطئه عين ولا إدراك, الكاتب له مسيرة رائدة وطويلة في العمل المسرحي والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية, وقد مثّلت مسرحياته ومسلسلاته في الكثير من البلدان العربي, لذلك من كان من الطبيعي سيكولوجيًّا أن تطغى المهنية السيناريوهية على روائيةالأديب, يوازن ذلك أن الكاتب كتب العديد من الروايات الأدبية, لذلك شهدنا عنده تدارك لموضوع العمق الأدبي أو الانزياح, فعوّض عن فقد الفسحة الإيحائية بإغناء العمل بالتساؤلات الفلسفية, لذلك سنجد أن المستوى النفسي بالمدخل السلوكي مزدحم بالطروحات الفلسفية بين إشكاليات وجدليات وتيارات, وكذلك سيكون المدخل الاستنباطي التقمصي. وكان للمقال الصحفي مكانه في العمل _ حوالي ثلاث أو أربع مقالات صحفية- وكذلك وقوفه بالأخذ من المشهد المسرحي عند حدود الحوار, هل فعل الكاتب ذلك عفويًّا أم بوعي؟ لقد فعل ذلك بإدراك ووعي كامليَن, ومرد كل ذلك لمعارفه الأكاديمية بالأجناس الأدبية.
ثالثًا- المستوى المتحرك:
المستوى الذي أدرس فيه ذرائعيًّا التشابك السردي بعناصره والتقنيات السردية العديدة التي استخدمها الكاتب في طرح أهم عنصر من عناصر التشابك السردي ألا وهو الموضوع الرئيسي, أو بالأحرى المواضيع التي طرحها الكاتب على بساط السرد, مواضيع نصية متناسلة ومتشعبة نجح في دسها وتوظيفها داخل النص الرئيسي, الذي هو الوطن ( أم طردت أبناءها فتاهوا في ملكوت الله وإغواء الشياطين ), ضمن هذا الإطار السردي الرئيسي, تنصب العلائق السردية الأخرى, لذا سنجد أننا مضطرون لدراسة متن السرد على اعتباره منضويًا تحت مسمّى ( اللعبة الميتاسردية ) في التشابك السردي, بمعنى أن فعل الكتابة السرد هو فعل إجرائي قصدي تم بوعي تام من قبل الكاتب أو السارد أو الراوي, لقد جعل الكاتب البطل الرئيسي ( فتحي) صحفيًا كُلف بالكتابة في الكثير من المواضيع, تناول فيها شخصيات سياسية واجتماعية, دينية وروحية, كما أن إقامته في بلد عربي منفتح على كل المتاحات المادية, و ضعفه أمام النساء والعلاقات الجنسية, جعله يتماهى مع كل عالم يعيش فيه, افتراضيًّا كان أم واقعيًّا, بهذه اللعبة الميتا سردية أخذنا الكاتب باتجاه المنحى الصوفي العرفاني, في رحلة من التهويمات الميتافيزيقية التي مزجت بين التخييل والأحلام, قابل ذلك منحىً وجوديًّا لمسناه عند كاظم الذي تماهى بعلاقته مع ليزا الفرنسية, الوجودية التي تستنكر امتناعه عن شرب الخمر على اعتباره حرام في معتقده الديني بينما يزني بها.
إن الميتاسرد هي لعبة ماكرة,أو لنقل أنها لعبة حذقة لا تخلو من دهاء يمارسه الكاتب حينما يحشو متن النص بنصوص شعرية وعرفانية وأدبية وآيات قرآنية, وتجليات صوفية وتهويمات تخييلية, ومذكرات, ومقالات صحفية, ومعلوماتية, وتيارات فلسفية, ومادية, إضافة إلى الخط السردي الرئيسي أو الثيمة الرئيسية. فنقف أمام ثيمات فرعية كثيرة متناسلة بنصوص سردية مكتملة, تكاد تغطي الثيمة الأساسية المتبرعمة منها.
سأتناول في هذا المستوى من عناصر التشابك السردي :
الموضوع الأساسي والمواضيع الفرعية التي صبّت في الثيمة الأساسية أو تبرعمت منها:
الموضوع الأساسي:
هي تجربة نقل فيها الكاتب شخوصًا مأزومين من وطنهم الأم, إلى الوطن الحلم, فكيف تمسرحت حياتهم الجديدة؟ هل انتهت أزمتهم بالبعد عن بؤرة الأزمة كما يُفترض بالمنطق؟ وعلى أي مقياس يمكن أن نفسر سلوكياتهم في الوطن البديل ؟! الإجابة على هذه التساؤلات تحدد لنا الثيمة الرئيسية...
من خلال رصد سلوكيات الشخصيات مجتمعة, نستطيع أن نحكم أن الثيمة العامة التي تفسّر سلوكيات الشخوص هي الاغتراب!, لم يستطع الوطن الحلم أن ينتزع أزمات الشخوص, أو ندباتهم التي خلّفها أو التي وشمهم بها, كل مافعلوه أنهم حملوا الوشم معهم, وزادوا عليه وشمًا جديدًا هو وشم الاغتراب, هذا الوشم الذي سيقود الشخصيات نحو تغيّر جذري, سيبقى معهم وينهي حكاياتهم, سيأخذهم باتجاه تيارات نفسية وسلوكية متباينة بتباين ندبات المتجذرة والمتأصلة في روح وفكر ونفس كل شخصية.
فتحي رضوان الصحفي والكاتب المصري المثقف الذي يحفظ مخطوط وطنه حرفًا حرفًا من عهد الفراعنة إلى كل يوم جديد تمنحه له الحياة, الذي لفظته مصر حينما دهست عجلة السياسة فيها أفكار الأحرار, وقنّن الاقتصاد رغيف الفقراء, كان ممن يطارده الأمن مرة بتهمة أنه ناصري وأخرى أنه شيوعي, ويطارده الأخوان لأنه يخوّن الرئيس المؤمن أنور السادات, وهو لا يؤمن بأي من التيارات السياسية, يؤمن فقط بالكرامة الإنسانية حق لكل إنسان, وفتحت له دبي أبواب الحلم, رزق في جريدة, وحياة مبرهجة فيها كل شيء مباح سوى النصب على الدولة والتلاعب بالأرصدة المالية, تضم كل الجنسيات, ألوان وأجناس, منهم من لفظتهم أوطانهم مثله, ومنهم من ساقتهم ثرواتهم إليها ليربوا بها, فتحي رضوان مصري مسكون بالهم والخوف على الوطن حدّ التهويم, تنتابه هواجس تغيّبه عن الواقع تأخذه إلى تصورات وهلاوس كهذه:
" وجدت في الصفحة الأخيرة من العمود الأخير كتب خبر بخط صغير ( وجد الوطن ميتًا في ضاحية المدينة حافي القدمين وقد سرقت كليته وقلبه وقطع لسانه ونشرت أصابع يديه)" .
فتحي رضوان زوج محصن يلتقي في ذات الجريدة بمنقذ وزوجته سهر , الزوجان السوريان اللذان اقتلعهما الوطن من جبل الدروز في السويداء, وألقى بهما خارج حدوده,فرّ منقذ من بطش القوى الأمنية مصطحبًا معه زوجته سهر التي كان فرارها الفعلي من فقرها وفقراء السويداء طمعًا بالإثراء السريع في دبي, يقع فتحي في حب سهر الحساء الفاتنة, المحاطة بأعين اشتهاء جنسي من كل ذكور الرواية, لكنها لا تسلّم نفسها طواعية إلا لفتحي, بعد كل لقاء جنسي بينهما تنتاب فتحي تجليات عرفانية, ومناظرات تخييلية مع أئمة الصوفية في محاولات لاستنهاض الضمير والأخلاق, وتحديد الخيط الفاصل بين الفضيلة وبين الخطيئة, الجنس والحب, والحلال والحرام, لكن الحرام يكسب, والجنس والرذيلة عند فتحي يتكرّر مع سهر وحياة العراقية زميلته في الجريدة, وهي – حياة- لا تختلف عن ليزا الفرنسية المدرّسة الوجودية التي تغري كاظم السوري الشاب الأشقر القادم من ذات المدينة (السويداء) المدرّس في المدرسة الأمريكية بدبي بترك زوجته وردة والفرار معها إلى باريس ليعيش حياة وجودية كل ما فيها مباح, وهو يبرّر كل سلوكياته بناء على المؤهّبات الواقعية التي ضخّمت الأنا في نفسه الضائعة بين كل التيارات الفكرية التي تنقّل بينها:
" كل أحلامي خُطفت مني لسوء الواقع المعيشي, تختفي في مجتمع يُسرق فيه كل شيء حتى الأحلام وأفكارك الإيجابية والسلبية منها ....".
إذن, الخطيئة تكسب والجنس يكسب, والحرام يكسب دائمًا ما بقي فتحي في دبي, إلى أن يقوم الوطن الحلم بلفظه بطريقته ( التفنيش) أي إنهاء عقد عمله, يعود مع زوجته تهاني وطفله إلى مصر إلى الاسكندرية, لتتكرّر تجربته السابقة في المعاناة من شظف العيش والتهميش المتعمّد في الوسط الأدبي, يدخل مسجد أبو العباس في ليلة مولده, فيبتلعه المولد ولا يُعثَر له على أثر, وتتبارى الجماعات وأصحاب التيارات السياسية والفكرية المختلفة بمحاولة التكهّن بمصيره, كل حسب اعتقاده يتهم الآخر بالتخلص منه.
سأعود لطرح سؤال بعد أن أعرض لسلوكيات سهر والحالة التي انتهت إليها منقادة بوشم الاغتراب الذي وجّه باقي ندباتها باتجاه العهر والرذيلة, سهر كانت من الجميلات لكن من الفقراء في بلدها, تزوجت منقذ تحت إغراء السفر إلى دبي وقبر الفقر في حياتها إلى الأبد, لم يستطع منقذ أن يقتحم عوالمها الساحرة بفحولة الرجولة, بينما استطاع أن يستنهض رجولته مع الخادمة الفلبينية,حب سهر لفتحي وعلاقتهما الجنسية الناجحة جعلها شبقة, دون أي وازع من ضمير أو دين أو أخلاق, لا تفكّر أبدًا بأنها تخون زوجها, كل همّها وحرصها على أن لا تكون مباحة لغير فتحي, لكن جشعها للمال والمجوهرات يجعلها صيد سهل في شباك شدّاد من نفس مدينتها أيضًا, رجل خمسيني ثري مشكوك بنظافة ثروته, يمارس الجنس معها بعد استدراجها لشقته, تستيقظ لتعلن أنها أصبحت عاهرة حقيقية, أفلم تكن عاهرة مع فتحي؟ هي لا ترى ذلك! نراها تواجه نفسها في لحظة وعي بالنقد واللوم, و بشيء من الندم, لكنه الندم الآني:
" آه يا أبي أيها المقاتل القديم ضد الفرنسيين, لم يعد هناك قتال ولا أخلاق ولا مبادئ, كل شيء حولنا أصبح مباحًا, والمال هو جهنم التي يحرق الله الناس بها, فالناس تجري خلف المال بلا استثناء...".
لم تتقبل حياتها الجديدة, فترتدي الحجاب ! حالها حال الكثيرات ممن تتلوّث أجسادهن وأرواحهن بدنس الرذيلة وحينما يصحو الضمير تتوجّه سلوكياتهنّ نحو ستر الجسد, ظنًّا منهنّ أنهنّ يتطهّرن, ثم ماذا؟ ! تخلع الحجاب بعد فترة وجيزة, وتعود لعلاقتها الآثمة مع شداد, سلوك منطقي لأن التطهّر لم ينل الروح, كما أنه أيضًا لم يسبغ الجسد, فمازالت النفس جشعة توّقة للمال, ومازالت موبقات الدنيا مبرهجة.
نقف قليلًا أمام كل من فتحي وسهر وكاظم, وسؤال ضمّره الكاتب في تتبع سلوكياتهم ونهاياتهم, هل الإنسان عاجز فعلًا عن تغيير حياته؟! أم أنه لا يملك العزم على فعل ذلك؟! يقول الله في سورة طه: } ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسيَ ولم نجد له عزمًا 115{, أم أن الإنسان يكون ذا عزم إن أخلص التوبة, وآمنَ بالتغيير الآمن الذي يستغرق وقتًا للنضج, وليس بالتغيير الراديكالي الذي يجتث من الجذور مقتلعًا كل شيء, الأصول والفروع, فتتخلى الذات منسلخة عن نفسها غريبة تتعايش مع غربتها إلى الأبد, كما حصل مع كاظم الذي اتهمه حزب البعث بأنه شيوعي, فاختار أن يصبح وجوديًّا ويسافر مع ليزا إلى باريس و يتجوّل فيها مستحضرًا سارتر وكل من تبعه ليصبح وجوديًّا فرنسيًّا, أو تحكم على نفسها بالتلاشي والاختفاء كما حصل مع فتحي, أو تتفلّت من عقالها مستسلمة لإدانتها ودونيّتها كما حصل مع سهر؟!
هل كان الكاتب يرمّز لحال دول وأوطان؟ أظنّه فعل....!
وحدها شهرزاد من فهمت لعبة الحياة, ووازنت كفة الميزان, هي بكفة, وجميع الشخصيات الأخرى في الكفة الثانية, بكلمات قليلة أخبرت سهر بالحقيقة الرشيدة, فكانت كلماتها لمن يفقه:
"الحرية ليست فوضى المشاعر, والشيوعية ليست شيوع الحرام, والإيمان ليس الصلاة فقط, والحب ليس الجنس فقط, والرزق ليس المال فقط, والروح ليست البكاء حين الصلاة, والناس تعيش وتبرر ولا تهوى ويظنون أنهم يخدعون الله. "
وأتبعت القول والفهم بالعمل, كان قرارها بالتغيير تغييرًا آمنًا, نضج على نار الصبر والتفكّر, أنهت غربتها بالعودة إلى حضن الوطن الأم, وعاشت بين أخوتها الفقراء, تطعمهم وتكسوهم وتقصّ عليهم حكاياتها.
إن شهرزاد هي التاريخ والأصالة المتجذرة في تربة الوطن.
النهاية هي اللافتة, وهي السؤال الكبير الذي يصرخ به صوت الكاتب بصمت كبير ويأس مر, مضت عشرون سنة على قصة الاغتراب تلك, ولم يتغيّر شيء في الأوطان, بعد عشرين سنة لفظ الوطن ثانية أبناءه الشباب, وكأنه ينحر المستقبل, بعد عشرين سنة في ممر طويل يسير شاب مصري وسيم إلى مكتب مديرة المدرسة : الدكتورة سهر سالم.
- شو اسمك
- آدم فتحي رضوان خليل .
الزمكانية : الزمن العام للرواية زمن طويل فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم, والمكان الرئيسي مدينة دبي ثم السويداء والاسكندرية, أما الزمن الخاص والمكان فقد ذكره في مطلع كل مشهد,أماكن مغلقة بيت فلان, غرفة نوم , مكتب في الجريدة, مكتب في المدرسة , كاراج سيارات, مقهى, سوق. سيارة.

رابعًا – المستوى النفسي :

 المدخل السلوكي :
وفي تم طرح العديد من الموضوعات والثيمات الفرعية عن طريق تساؤلات أو إشكاليات أو جدلية سأحاول رصد بعضها :
مفهوم الوطن والمواطنة :
على لسان فتحي المصري الذي يرصد الدور الاقتصادي :
- عندي اكتئاب شديد وعميق من الوطن, هل الوطن هو السبب؟
- مجرد تخمين.. فالوطن دائمًا يحك رقبته بالشهداء وينساهم... أنا لا أريد من هذا الوطن إلا رغيفًا طازجًا ساخنًا وقطعة جبن وخمس بيضات مسلوقة, ... كل مواطن في بلادي يحتاج كوب شاي ساخن وكوب ماء بارد ورغيف خبز وبعض الملح.
إن كانت العلاقة بين الوطن والمواطن علاقة تبادلية, واجبات وحقوق, كيف يلبي المواطن نداء الواجب فيموت شهيدًا مؤديًّا حق الدفاع عن الوطن, ولا يقوم الوطن بواجب توفير لقمة العيش لمواطنيه؟! على هذا السؤال بنى الكاتب ثيمة مشروعه السردي .
على لسان كاظم السوري الذي يرصد الدور السياسي :
ترحل إلى أين ياكاظم, أمك لم تر القطار وأبوك لم يركب الطائرة وأنت لا تعرف إلا حافظ الأسد رئيسًا للجمهورية وحزب البعث الذي قال أنك شيوعي, تفر معها إلى أوروبا ؟
- هل الوطن مضاف أم مضاف إليه؟
- هل قسمتم الأوطان وأنا غائب يا أولاد الكلب ؟
- من أين تأتي النجاسة للروح فنفرط بالوطن من أجل حفنة دولارات؟

وكان هناك استشراف لتقسيم الأوطان :
- حملني بساط الريح فذهبت إلى ليبيا وجدتها قسمت إلى ثلاث دول, فذهبت إلى الجزائر وجدتها أيضًا قسمت إلى ثلاث دول فرانكفونية ودولة أمازيغية ودولة إسلامية عربية, ذهبت إلى المغرب وتونس قسمت إلى ثلاث مثل الجزائر, ونفس الشيء في تونس, ذهبت إلى السعودية وجدتها قسمت إلة خمس دول, وسوريا إلى ثلاث دول والسودان إلى ثلاث....
وأيضًا أورد تقسيم الإنسان العربي وتشظيه بين عروبته وغربته, وبين ماضيه وحاضره, وبين أيديولوجيته ومعتقده, وبين البداءة والحداثة :
- ونظرت إلى نفسي وجدتني خمس شخصيات الأولى أوروبي الملبس والقبعة الأوروبية, والثاني شرقي الفكر يرتدي عمامة, والثالث ناسك في الصحراء, والرابع ينتظر العفو على باب الجنة ليدخل, والخامس بدائي يعيش في غابات فوق شجرة مع الحيوانات
- كيف أكون خمسًا وكيف يكون الوطن مجزءًا ؟
وكيف لا يكون ؟ أسئلة استنكارية بين طياتها خيبات وانكسارات كبيرة, هذا ما قدّمته الأوطان لمواطنيها الفقراء, ثم لفظتهم.
تساؤلات وجودية :
- ما العيب أن يظن الإنسان نفسه نبيًّا؟ فعل ذلك جبران خليل جبران والمتنبي وغيرهم, وظن بعضهم أنهم آلهة مثل نيتشه والحلاج وغيرهم .. إن الله سيحاسبنا جميعًا من ظن أنه نبيًّا أو وليًّا وإلهًا, ولله في خلقه شؤون . ص 54
- هل الرحيل مكان أم زمان أم الاثنان؟
- من أين تأتي الأشياء الوقحة ؟ وأنا من نسل أخناتون ويوسف وموسى وإدريس وعيسى ومحمد؟ وأنا ابن النيل النظيف النقي عند المنبع؟ يبدو لي طبيعيًّا أكثر لو حضرت حفل تتويج نابليون وماوتسي تونج رئيسًا وجمال عبد الناصر زعيمًا....
- ما آخر الطابور؟ الحياة؟ ما آخر الموت ؟ ما آخر الجنس ؟
تساؤلات روحية وجدانية : يطرحها الضمير في لحظات الصحوة والتجلي :
- لماذا نتهيأ للخطيئة والحرام أكثر من تهيئنا للحلال والفضيلة ؟
- لماذا تتوعك الروح وتكسل في مزاولة الواجب الزوجي المقدس على الأرض وتنتظرنا الحوريات في السموات لتمارسه معنا؟
- هل المعصية صعب علاجها ؟ هل تنظن أن الله لا ينظر إليك وأنت تعلم من فنى عمره في المعصية غاب عن كل شيء ؟ فالله منحك نور العقل ونور القلب ونور الروح ... لم يحجب الله عنك شيئًا وأنت لا تستحي من الله.
- من أين يأتي الحزن إلينا ؟ وكيف نهرب منه؟
- كيف تحل الحرام وتحرم الحرام وتجمع النقيضين وتبرر لنفسك ؟
- وكيف تغسل الروح من الخطيئة ومن كل من على الأرض زنا ؟
- ما هي المحبة ؟ أن تحب ما أحب الله
- ما هو طريق المحبة ؟ الطاعة, دلنا الله على طاعته فجعل المحبة لها ودائع في قلوب محبيه ثم ألبسهم النور الساطع في ألفاظهم من شدة نور محبته في قلوبهم.
- هل نتوضأ بالماء أو الهواء أو النور أو الجميع؟
- هل العشق سوء ؟ نعم في الحرام سوء .. لكننا نسعى له, لأن العشق اختراق للقلب والروح ورغبة جسد, والجسد حرام.
- كيف لآدم أن ينسى كلام الرب ويقضم التفاحة وكيف لي وأنا لست نبيًّا ولا وليًّا, مجرد عابر سبيل في تاريخ العاشقين والبرية ؟
تساؤلات وجدليات ثقافية: تعكس حال الأوساط الثقافية في الوطن العربي, في الأوطان الفقيرة والغنية على حدّ سواء, وهي حالة لا ترقى إلى مستوى ما يجب أن تكونه, يشكك الكاتب بحقيقتها في كليهما :
- هل الكتاب أنبياء وعي ؟ وهل الوعي مكتسب أم فطري ؟ هل العقول العربية جيناتها ضعيفة ؟
- هل الثقافة حقيقة في بلد مترف من الطعام والثراء؟ هل الثقافة حقيقة في بلد جائع ؟
- لماذا تكتب السرد شعرًا؟ لأن لسان الزمان هو الشعر ولسان قلمك يطغى فيجرح.
- السوء عندي هو النساء الجميلات, والكتابة الجميلة المغايرة التي تفتح باب المستقبل ولا ركن للواقع الساكن المستسلم للغباء
موضوع الجنيس
استطاع الكاتب من خلال التساؤلات أن يتناول موضوع الجنس بشكل حداثي بعيدًا عن النظرة المتحفظة الفيكتورية, لكن ليس بشكل إباحي, وإنما كمفهوم وظاهرة طبيعية وعلمية قائمة بذاتها, تختلف عن مفهوم الحب والعشق والزواج والإعجاب, وتكتسب صفاتها بكونها متمّمة لمعتقد اختياري, فهي حلال بين زوجين, وخطيئة وخيانة بين غير الزوجين في كل الأعراف والأديان.
- ماذا كانت علاقتنا الأولى إعجاب أم رغبة جنسية ؟
- هل النساء وعاء طبيعي وصحي لتفريغ شحنات الغضب واليأس والإحباط؟
- هل الجنس هو المعادل الموضوعي لتوازن الفرد؟
- هل الجنس هو نقطة ضعف البشر كما قال فرويد وأنه المحرك الرئيسي للكون ؟
- هل غريزة الجنس هي الأمانة التي حملها الله للإنسان كي يطور الأرض ويعمرها ويجعل الإنسان خليفته على الأرض؟
- تملك شرف الكلمة وخيانة رجل آخر تعشق زوجته أو أخته؟ ( ازدواجية ) حكمة التجربة.

 المدخل استنباطي :
وهو مدخل الحكم والمواعظ والتجربة والخبرات الحياتية التي يطرحها الكاتب من خلال نصّه, يستشفها المتلقي والناقد حينما يتقمّص الحالة الشعورية للكاتب حين كتابتها, وهي أيضًا تدلّل على المواضيع التي يطرحها الكاتب, رصدت منها ما يلي:
- تزني مع النساء لكنك لم تزن بأفكار الناس البسطاء, ولا تنافق المسؤولين في الأوطان وغير الأوطان (ازدواجية )
- العالم يستحق أن تخلع له الحذاء وتمدد ساقيك في ارتخاء في وجه الجاهل ( مكانة العلم من الجهل)
- حين تتزوج امرأة من رجل أقل ثقافة منها عليها أن تتواءم وتتنازل وتعيش يومًا بيوم ولا تجادله كثيرًا حتى لا تفقده, لأن الحب يجعل المحب يتنازل عن أشياء كثيرة من أجل حبه للآخر ( الزواج غير المتكافئ).
- ليس للحب شبح مائل ولا صورة فيعر ف بجبلته, وإنما يعرف المحب بأخلاقه زكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه, وما يوحى إلى قلبه, فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه نطق اللسان بفروعها . فالفوائد من الله. ( مفهوم الحب في أسمى معانيه)
- انتبهي يا أمة الله فإن الشهوة تودي إلى التهلكة ( حكمة ).
- الأنس بالله نور ساطع والأنس بالخلق غم واقع.
- الحب هو الشوق لأنك لا تشتاق إلا إلى الحبيب فلا فرق بين الحب والشوق, إذا كان الشوق فرعًا من فروع الحب الأصلي ( الحب وفروعه)
- أنت مجرد كاتب يعني عابر سبيل في التاريخ, الكتابة الحقيقية قليلة مثل العدالة والمساواة والحرية والكرامة.
- الكاتب ليس له وطن حقيقي إلا ورقه الذي كتب فيه. ( تقرير حالة).
-
 المدخل العقلاني:
تناص الكاتب بهذه العمل مع تجربته الشخصية والتجارب التي شهدها أو سمع عنها عندما كان في الخليج, ويمكن أن نلمح بعضًا من سيرته وآرائه الفكريّة عند فتحي رضوان, الكاتب الذي يؤرقه حال الأوطان العربية والإنسان العربي التائه في جنبات الحياة وتياراتها العاصفة, وحال الثقافة المتردية أمة يُفترض أنها أمة ( إقرأ).
أما فنيًّا, فالأديب السيد حافظ يتناص مع كل الأدباء الذين مارسوا لذة التجريب, وأدخلوا لعبة الميتاسرد في أعمالهم, أمثال : الكاتب المغربي محمد برادة في روايته ( لعبة النسيان), تناص مع نجيب محفوظ برواية ( الحرافيش) باختزال الأبعاد التاريخية والحضارية عن طريق التهويمات التخييلية والميتافيزيقا والأحلام والمناجاة , تناص مع صنع الله ابراهيم في روايته " ذات" باستخدام تقنية الكولاج, ومع الروائي الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل في روايته "الكائن الظل" من ناحية استخدام الواقع الافتراضي, من خلال التجريب الفني بالارتباط بأفق التغيرات المعرفية والتكنولوجية حين يجعل من عمله ككاتب وصحفي جسرًا للتعبير عن وعي الإنسان وإدراكه لحركة التطور التاريخي والإنساني.
الخاتمة :
لا شك أن ما قدّمته في هذه الدراسة المتواضعة غير كاف للإحاطة بكل جوانب هذه التجربة الإبداعية الكبيرة والمميزة لأديبنا, والنقص مني دون الريب, لكن هذا صيدي من هذه التجربة الثرية , مكنني المنهج الذرائعي من استخراجه من عمق هذه التجربة, والشكر الجزيل لأستاذي المنظر عبد الرزاق عوده الغالبي صاحب النظرية الذرائعية الجديدة التي تواكب بالنقد كل جديد تطرحه أقلام الأدباء من أهل التجديد والمعاصرة, تحمل أفكارهم ورسالاتهم الوجدانية إلى مجتمعاتهم, بهدف غرس كل المقومات الخيّرة التي من شأنها أن تنهض بالأمم. وهذا ما دأب كاتبنا الكبير السيد حافظ على عمله خلال سنوات طويلة من الإبداع الفكري والفني, والنتيجة أعمال في غاية الروعة على كل مستويات القلم, وقصدية مبهرة, وثروة لا تقدر بثمن.

#دعبيرخالديحيي الإسكندرية 11 فبراير 2021






المصادر والمراجع

1- مفهوم التجريب في الرواية- الدكتورة : سهام ناصر ورشا أبو شنب – مجلة تشرين للبحوث والدراسات العلمية – سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد(36) العدد ( 5 ) 2014 – صفحة 307
2- لذة التجريب الروائي – دكتور صلاح فضل- دار أطلس للنشر والانتاج الإعلامي ش. م. م 25 ش وادي النيل – المهندسين – القاهرة – الطبعة الأولى 2005
3- الحوارية السردية ابتكار وتجنيس الدكتورة عبير خالد يحيي- الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية – تأليف /عبد الرزاق عودة الغالبي – تطبيق/ د. عبير خالد – دار النابغة للنشر والتوزيع- طنطا – الطبعة الأولى 2019- صفحة 171
4- "وهو مصطلح يطلق على الفن التلصيقي الذي يتم فيه دمج ولصق مجموعة من المواد معًا في لوحة واحدة, وتتم عن طريق قص قطع قماش أو صور ورقية وتجميعها معًا بشكل خاص على نسيج ثاني أو على لوحة ورقية أو خشبية ليصبح عمل فني واحد" – موقع معلومات – ما هو الكولاج 12يناير 2020
5-لذة التجريب الروائي – دكتور صلاح فضل- دار أطلس للنشر والانتاج الإعلامي ش. م. م 25 ش وادي النيل – المهندسين – القاهرة – الطبعة الأولى 2005 صفحة 11
6- الذرائعية بين المفهوم الفلسفي والمفهوم اللغوي _ تأليف /عبد الرزاق عودة الغالبي _ تطبيق / د. عبير خالد – دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا – طبعة أولى -2019
7- الذرائعية في التطبيق طبعة مزيدة منقحة – تأليف / عبد الرزاق عودة الغالبي – تطبيق / د. عبير خالد – دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا 2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس