الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجذور الأيديولوجية والبنيوية للفساد الحالي في العراق

جعفر المظفر

2021 / 2 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


يثير الفساد الكارثي الحالي في العراق أسئلة علينا البحث عن إجاباتها من خارج محيط التفسيرات النمطية.
والحال أن المجتمع العراقي مثل غيره من المجتمعات, طهارته الأخلاقية تتأثر قليلا أو كثيرا بظروف الدولة الإقتصادية والسياسية. وقد بات معروفا أن الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها, وعبر مختلف عهودها قد كانت إلى حد كبير, على مستوىً عالي من الطهارة والفضيلة, وظل الفساد فيها فرديا ودافعا لنبذ صاحبه.
ومع أن المجتمع العراقي منذ قيام دولته الوطنية عام 1921 لم يشهد سوى مستويات متواضعة من الإستقرار السياسي, وأن الصدامات والمشاحنات السياسية لم تهدأ في أي عهد من عهوده, فإن الفساد الإداري أو المالي ظل إستثنائيا ومرتبطا بشكل رئيسي بالحفاظ على النماذج الأخلاقية لقياديه (الناس على دين ملوكها).
واضح إن نظام صدام كان قد إختلف عن كل الأنظمة التي سبقته, ومع ذلك فقد ظل الفساد المالي والإداري لسنوات محتكرا على دائرة الرئيس وعائلته ولم ينفجر على الصعيد الإجتماعي إلا لظروف الحربين والحصار, وذلك نتيجة للجوع والفاقة, وأيضا نتيجة لإنهيار النماذج المتمثلة بشكل رئيسي بالرئيس وعائلته وأخوته وفي العديد من أفراد قبيلته (رغم أن عدي وقصي قد شوهدا وهما يقفان مع العامة للحصول على بطاقة تموينية جديدة بعد أن فقدا الأصل !!).
لكن حكايات عديدة من نوع إقدام صدام على إعدام أو سجن عدد ملحوظ من إداريه مثل أمين العاصمة (المفتي) أو وزير الكهرباء (كزير) مع إنتشار الفساد على صعيد المجتمع صار بحاجة إلى تفسير غير تقليدي, فلقد ظل مسؤولون على مستوى عزت الدوري أو طارق عزيز يعيشون على رواتبهم الوظيفية ولم يعرف عنهم أو عن الأغلبية المطلقة من القيادات السياسية أنهم قد تصرفوا بخزائن وزاراتهم أو مديرياتهم, وظلوا إلى أمد بعيد يعيشون في بيوتهم العادية وبحراسة متواضعة وبدون مواكب تسبقهم أو تتبعهم. فالفساد على مستوى المجمتع لم ينشأ بسبب سقوط النماذج وإنما بسبب الفاقة الشديدة في زمن الحصار وتردي القيم الإجتماعية في اثناء الحروب, أما النماذج السياسية والأدارية فلم تدخل على الصورة لكي تجعل فساد تلك المرحلة متجذرا, إذ كان ممكنا محاصرته والقضاء عليه فيما لو كانت قد توفرت ظروف إقتصادية وسياسية أفضل..
صدام حسين ولطبيعة سلوكية بدوية قبلية متجذرة كان إعتبر العراق غنيمة لغزوة كان بدأها بالإستيلاء على القصر الجمهوري في 17 تموز. أما مفردة الثورة فلم يكن لها مكاناً من الإعراب إلا في كونها الإسم السياسي للغزوة.
وفي ما بدت هذه الحقيقة ذات تأثير سلبي وخاصة على الطبيعة السياسية للحكم, كونه فرديا وقمعيا ودكتاتوريا, فإن الفساد ظل محصورا بالرئيس وعائلته, أما على الصعيد العام فقد كان يجري على طريقة مكارم يوزعها الرئيس على أعوانه من خزينة دولته الخاصة به, فإن شعر أن وزيرا أو قياديا بعثيا مد يده إلى خزينة هذه الدولة, والتي هي خزينته الشخصية, فإن العقوبة الشدية ضده, والتي تصل إلى حد الموت, ستُفسر بحقيقة إعتباره المتهم متآمرا عليه وخائنا له.
وفيما بعد فإن الحصار والحربين المدمرتين, قد أدت جميعها إلى سماحه لموظفيه بتحصيل رزقهم على طريقتهم الخاصة فإزدادت الرشوة والسرقات العادية, أما موظفوه الكبار وشبه الكبار فقد كان يتكفل بمد العون لهم من خلال مخصصات ربما إعتبرها مؤقتة ويمكن التراجع عنها في حالة العودة إلى الحياة الطبيعية.
مع النظام الحالي نحن بحاجة ماسة أيضا إلى تفسير يتعامل مع طبيعة النظام نفسه ومواصفاته وعقيدته السياسية والفكرية.
إن الأحزاب الإسلامية, وخاصة الشيعية منها بحكم تصدرها للنظام, تتناقض مع صدام من حيث طبيعة علاقتها بالدولة التي تحكمها. ففي حين إعتبر صدام أن الدولة قد صارت ملكه وأن السارقين منها إنما يسرقون من خزينته الشخصية ولذك يجب أن يعاقبوا, إن لم يكن بحكم تجاوزهم على المال العام, فإنما بحكم تجاوزهم على ماله وخزينته, فإن قيادي النظام الحالي, والشيعة بشكل اساسي, بحكم تأثير الجار الإيراني, لا يشعرون بأن الدولة العراقية هي دولتهم, أوأن العراق هو عراقهم, بل أن البلد هو عدوهم والعراق هو خصمهم, وهم بالتالي مكلفون شرعا بالقضاء عليه وتحويله تدريجيا إلى ضيعة لدولة الولي الفقيه الذي ينتمون إليه ويقبلون يده, وقد جعلهم هذا الإنتماءً أعداء للعراق وليس أصحاباً لهم, فهم الآن حكاما له من موقع العدو لا من موقع المحب , ولأنهم كذلك فإنهم مكلفون بتهديمه لا لبنائه, والإستيلاء عليه كغنيمة حرب وثم إقتسامه مع دولة وليِّهم الفقيه أو جعله في خدمة هذه الدولة.
وبذك فإن الفساد الحالي ليس من النوع الذي يمكن تفسيره بسياقات تقليدية ونمطية. الواقع إن لدينا حالة إنقضاض على دولةٍ خصم, كانت قد وقعت تحت اليد كغنيمة حرب, ثم إلتهامها بحيث لا تقوم لها قائمة.
مع صدام كان هناك (فساد في دولة) ومع أتباع دولة الولي الفقيه ونائب الإمام الغائب صارت هناك (دولة لفساد). ومع (فساد في دولة) و(دولة لفساد) يمكن التعرف على حجم النوعين وكذلك على مستويات تمظهرهما ومديات إنتشارهما أفقيا وعموديا.
الواقع أن فساد الوضع الحالي ليس فسادا, وإنما هو عبارة عن معركة للقضاء على خصم تاريخي من خلال إنهاكه بنيويا بحيث تصير فيه صناعة الدراجة الهوائية اشد تعقيدا من بناء مسبار إلى المريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية


.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس




.. قبالة مقر البرلمان.. الشرطة الألمانية تفض بالقوة مخيما للمتض


.. مسؤولة إسرائيلية تصف أغلب شهداء غزة بالإرهابيين




.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في