الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انزلاقات يسارية

مصطفى مجدي الجمال

2021 / 2 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


منذ صغري فتنتني فكريًا وعمليًا وعاطفيًا عبارة أن اليسار هو عقل العصر وشرفه وضميره. وربما يلاحظ المتابع لمقالاتي أنني أربط في بعضها بين التناول الفكري والسياسي وبين التجارب الشخصية حتى تتضح وتتعين الأفكار. وهو ما سأفعله هنا أيضًا.

وأخذت أفسر العبارة السابقة لنفسي بأن عقل العصر هو الذي يعرف كيف تعمل القوانين العامة للتطور في السياقات المتغايرة والمتجددة، وماهي القوى الدافعة موضوعيًا صوب التقدم، والقوى الكابحة له، كما يتلمس إيجاد وسائل وتنظيمات نضاله من الممارسة العملية وسط الشعب، إلى جانب الإفادة من الخبرات التاريخية والتجارب المماثلة، وأن يعرف كيف يحول المباديء والنظريات إلى شعارات قابلة للتنفيذ وأخرى للتوعية بالمستقبل البعيد..

أما اليسار كشرف وضمير فأرة أنه يقصد بهما إعلاء قيم العمل والعلم والمساواة والتحرير، وكذا واجب التضحية من أجل الجموع الطبقية الثورية، بالوقت والجهد والمصلحة الشخصية وربما بالروح أيضًا. وأن تشيع الروح الرفاقية بين المنتمين اليسار، والروح الجبهوية اليقظة تجاه القوى الأقرب. وأن يكون التضامن الأممي (بين الأحزاب والقوى الثورية ودول التحرر الوطني ضد الإمبريالية ورأس المال والعنصرية) اختيارًا دائمًا لا يخضع لتقلبات الأهواء والنزق الذاتي الأناني.

ولكَم عرف تاريخ اليسار في العالم انقلابات مؤسفة، عمليًا أو بسفور، على ذلك المنظور، بادعاءات باطلة عن التجديد ومقاومة الجمود، ولكن مالت مواقف المنقلبين بالتدريج نحو تبني مقولات "براقة" للأيديولوجية البرجوازية الإمبريالية، ليصل الأمر أحيانًا إلى الاندماج في الخطابات والفعاليات والهياكل الإمبريالية المموَهة والسافرة على السواء.

ولعل النقلة الأخطر في هذا الميل الانحداري كانت موجة "البيروسترويكا" السوفيتية التي انتهت بسقوط القطب الأعظم في مواجهة القطب الأمريكي.. إلى جانب تبني الصين "اقتصاد السوق الاشتراكي".. فهذان البلدان كانا بمثابة الكعبة عند بعض من ربطوا الانتماء الاشتراكي بنموذج بعينه، واقتاتوا على نصوصه وتبرير أولوياته.

وبعدما كان البعض يروج لنموذجه (الستاليني أو الماوي) عادوا ليهاجموا نموذجهم السابق باستخدام جوهر خطاب القوى المنقلبة عليه، وإن بتنويعات مختلفة. وصارت سلبيات النظامين بمثابة المبرر لـ "دلق الوليد مع ماء الغسيل"، وهذا بالطبع من قسمات الانتهازية البرجوازية الصغيرة التي "تطلق الرصاص على ماضيها" أولاً بأول على أمل الصعود الشخصي وتحاشي السقوط إلى محرقة الطبقات الدنيا.

ولما كانت البيروسترويكا قد تحدثت عن توازن المصالح مع الإمبريالية الأمريكية، بدعوى حماية الوجود الإنساني والبيئة، فقد كان من المنطقي أن تنزاح الفواصل بين اليمين واليسار لصالح الأول، وبدأنا نسمع عن "القيم الإنسانية الشاملة"، والتركيز على البعد الحقوقي وإهمال البعد الطبقي، وامتداح اللاتنظيم "غير السياسي" الفضفاض، والادعاء بانتهاء الأيديولوجيات والأحزاب، وانشغال كل جماعة "راديكالية" بقضية جزئية دون غيرها وحتى السخرية من شمولية الرؤية.

وعندما جاءت العولمة النيوليبرالية مصحوبة بهيمنة القطب الأوحد في التسعينيات، أخذ المتحولون يدعوننا إلى الاهتمام باستغلال الجوانب "الإيجابية" للعولمة، وكان من أهم تجلياتها ظاهرة الاندماج التنظيمي والمالي والأيديولوجي مع المنظمات غير الحكومية الشمالية (مع إغماض العيون عن ارتباطات هذه المنظمات مع القوى السياسية وحتى الاستخبارية الغربية)، فتغيرت أجندات العمل والخطاب والجمهور المخاطَب ووسائل الدعاية والتمويل.. والأخطر كان تحول المناضل السياسي والنقابي إلى ناشط حقوقي.

ومن أسوأ ثمار ذلك التطور أن بدأت قطاعات من اليسار المتحول/ المتقاعد تتقبل فكرة غريبة اسمها "الاستعمار الداخلي" لتسمية نظم شمولية/ دكتاتورية "وطنية"، مناوئة لهذه السياسة الغربية أو تلك، وهو الطابع غير الديمقراطي الذي ساد للأسف الغالبية الساحقة لكل نظم "ما بعد الاستعمار" في جنوب العالم.

وكان الهدف المستتر من ترويج الغرب لفكرة "الاستعمار الداخلي" هو الإسهام في تلطيف موضوعي للحقائق التاريخية المثبة عن "الاستعمار الخارجي القديم". وهكذا تحت شعارات أيديولوجية "التدخل الإنساني الدولي" جرى التبرير للضغوط الاقتصادية وحتى القصف الإجرامي ومجازر الإبادة الجماعية والاحتلال السافر للدول المناوئة لهيمنة الولايات المتحدة و"الاستعمار الجماعي" الجديد في صورة أحلاف "الراغبين".

أما التجربة الشخصية في هذا الشأن، والتي أضرب بها مثالاً هنا، فقد كانت ندوة فكرية عام 2000 عن العولمة. وكنت أحد المتحدثين في الندوة. تحدثت في العموم عن الجوانب المختلفة في العولمة المروَج لها، وشددت على الطابع الإمبريالي لعولمة تقودها رأسمالية الدولة الاحتكارية في الولايات المتحدة (مع دور أقل شأنا للاتحاد الأوربي واليابان)، وعددت من أهم أدواتها: أوامرية المؤسسات المالية الدولية والشركات متعدية القوميات والأحلاف العسكرية والسلاح النووي والسيطرة على المنظمات السياسية الدولية والإقليمية والإعلام ذا الإمكانات المهولة والتنميط الثقافي..الخ.

ثم تحدثت عن بُعد لم تكن خطورته ملحوظة جيدًا قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 ألا وهو التزايد الرهيب في نفوذ اليمين المسيحي في الولايات المتحدة (خاصة في "الحزام الإنجيلي" بالولايات الجنوبية) والذي بلغ ذروة قوته في صعود "المحافظين الجدد" إلى قمة مؤسسات الحكم والإعلام والثقافة الأمريكية، وكانت الدعوة الصهيونية المسيحية هي الأخطر على الإطلاق في هذا الصعود.

تربط الصهيونية المسيحية بين صدام الحضارات الذي لا فكاك منه والمجيء الثاني للمسيح ونهاية العالم (أبوكاليبس)، وبين حرب مهلكة حتمية تنتصر فيها أولاً الدولة اليهودية على كل الكفار و"الأغيار". وليس من الغريب أن تزدهر أفكار شديدة العنصرية والعدوانية في مجتمع يتفاخر بالديمقراطية والعلم.

عندما بدأت أتحدث في هذا الجانب المسكوت عنه نسبيًا وسط اليسار، واستعنت بمقتطفات من كتابات كبار مفكري الصهيونية المسيحية.. لاحظت وسط القاعة رفيقًا كنت أحترمه جدا يهز رأسه في امتعاض شديد، بعدما كان مبتسمًا ومشجعًا طوال حديثي.

بعد الندوة جاءني الرفيق وعاتبني لأنني تحدثت عن هذا الموضوع الشائك الذي يثيره التيار الإسلامي في ذات الوقت، ومن ثم يجب التركيز على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط للعولمة. وأضاف أن مساهمتي تصب في طاحونة العداء للمسيحية ككل، ومن ثم الإسهام في الفتنة الطائفية.

قلت له: أولاً أنا أتعامل في نقاش فكري مع الحقائق وليس الحساسيات والمشاعر. ولا يمكنك أن تنفي كلمة واحدة مما أوردته في هذا الصدد حتى لو اختلفنا بشأن أوزان أهميتها. ثانيًا: إن الأقباط جزء مندمج في النسيج الوطني العام، وتوجد وسطهم ذات الاختلافات الموجودة وسط المصريين المسلمين.

جدير بالذكر أن هذا الرفيق صار من أنشط الحقوقيين المتمتعين بالتمويل الغربي، ومن ثم فإن التركيز على طبيعة السياسة والثقافة والفكر الإمبريالي ليس من أولويات أجندته، بينما تنحصر أنشطته في نقد مجتمعه ودولته فقط.. أي أنه حتى لا يساوي في النقد بين "الاستعمارين الداخلي والخارجي" فيقدح الأول فقط، وإن اضطر لتناول الثاني فإنه يذكرنا فقط بضرور استغلال الجوانب الإيجابية فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من هو اليساري
فؤاد النمري ( 2021 / 2 / 17 - 18:35 )
اليساري هو من يرفض النظام القائم مهما كان لونه لكنه لا يعرف هدف التغيير
يقولون الديموقراطية غير الملونة والعدالة الإجتماعية
لكن لا يوجد نظام بمثل هذه الخصائص
في نهاية القرن المنصرم اجتمع في لندن وراء أبواب مغلقة لليساريون من ىقادة الدول الغربية :بل كلنتون، أنطوني بلير، ليوئل جوسبان وهيلموت شميدت وبعد ثلاثة أيام خرجوا دون ىبيان لكن كلنتون أمام ىضغط الصحفيينى اعترف أنهم كانو يتباحثون عن الطريق الثالث لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي ولم يجدوه
الشيوعيون ليسوا يساريين وهو ما قطع به لينين في المؤتمر العاشر للحزب عام 21 وحرم على تروتسكي دعوى اليساروية
اليساري هو عدو الشيوعية طالما أنه يرفض رفضاً قاطعاً دكتاتورية البروليناريا والتي هي الممر الوحيد للشيوعية


أميركا لم تكن يوما امبريالية وهو ما أكدنه في سلسلة مقالاتي بعنوان -أميركا والشيوعية- والتي يتوجب أن تكون درساً للشيوعيين

تحياتي البولشفية


اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة