الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخطوةُ الأولى في الحداثة الشعرية العراقيّة

كمال سبتي

2006 / 7 / 26
الادب والفن


يقول عدد من كتب التراث إنَّ آخرَ شعرٍ كتبه أو قاله أبو نؤاس ، وهو يحتضر، كان مطلعه :
دبَّ فيَّ البلاءُ سُفْلاً وعُلْوا
وأراني أموتُ عضواً فَعضْوا
لكنّ بعض هذه الكتب ، وهو معتبر كأخبار أبي نؤاس لابن منظور، وغيره ، حين يؤكد الخبر كله ، يغير فيه مفردة البلاء إلى الفناء :
دبَّ فيَّ الفناءُ..
وفي المعجم الوسيط – وقد اخترته لمعاصرته - ، نقرأ: البلاء.. المحنة تنزل بالمرء ليُختَبَرَ بها، والغمُّ والحزن. وعن الفناء نقرأ : فنيَ الشيءُ فناءً : باد وانتهى وجوده . ويقول القرآن : كلّ من عليها فانٍ ، وفنيَ فلانٌ – يقول المعجم أيضاً، وأنا أخالفه – هَرِمَ وأشْرَفَ على الموت. وأخالفه لأن المعنى الأخير يناقض المعنى الأول ،" باد وانتهى وجوده "، تماماً.
لكنَّ رواة الخبر الشعري ، بأبياته ، لم يجدوا خلافاً كبيراً بينَ الكلمتين.. أو أنهم فضَّلوا الفناء على البلاء ، لأنها- الفناء - تدل على الموت.
وأحسبُ أَنْ لم يكن خطر في بال أحدهم أنَّ مقالاً سوف يُكتَبُ ذات مرة ، حول رواية البيت بالبلاء أم بالفناء ، فالأمر ليس بذي خطير أهمية ، فهو واقع كثيراً ومكرر كثيراً أنْ في الشعر أو في غيره من فنون الكتابة الأخرى.
لكنني أعرف أنهم مدقِّقون ، و فاحصون في المعاني، ولهم في هذا الباب مؤلفات كثيرة ، بل أنهم وسَّعوا في هذا الباب ، وجعلوه أَبواباً ، من الأنصاريّ في " مغني اللبيب ، " إلى الجرجانيِّ في " دلائل الإعجاز.." ، ومن بينهما ممن اِختَلفَ معهما في النظر إلى علم المعاني ، فسلك فيه سلوك أهل الفلسفة والمنطق ، أو من ترك كل هذا ، و اعتمد على ذائقته يستدل بها على المعاني .
فما أنا بشاكٍّ في حصافتهم في هذا الشأن.
لكنَّ اللغة في معاني مفرداتها تختلف من عصرٍ إلى عصر ..لكثيرٍ من الأسباب ،بل للأسباب كلها ، فقد لا أرى الآن في مفردة ، ماكان غيري يرى فيها قبل مائة عام مثلاً.
إنه التطور الشخصي للمفردة.. ونموُّها المعنوي.
لذا لا أرى الآن شَبَهاً بين البلاء والفناء.
بل أنني الآن أرى أنَّ أبا نؤاس قال " أو كتبَ " بيته بالبلاء ، لكنَّ أحداً وقد يكون الشاعر أدونيس – صديقنا الكبير - ، غَيَّرَ " البلاء " إِلى الفناء..! أو أحد غيره يتمثَّلَه – لغوياً - كليّاً كالصديق الشاعر سليم بركات.
تبدو البلاء مفردةً محسوسة ، بالتعبير الإغريقيّ للحسيّين.
فهي أقربُ إلى أبي نؤاس في حاله ، على فراش الموت.. وأقربُ إليَّ في حالي الساعية إلى امتلاك حال أبي نؤاس كلها..
والمتنبي يقول :
" بضدّها تتعارفُ الأشياءُ"
فكيف هي مفردة الفناء ؟
تبدو هذه المفردة الآن وكأنها الفلسفة كلها ، مثالية ومادية ، وكأنها أطنان من الكتب المؤلفة في العصور كلها ، وأكثرها عصرنا :
السجالات والهرطقات كلها.. من أنّ المادة لاتُفنى ولا تُستَحدَثُ ، إلى: كل من عليها فان.
فهل هي "البلاء" : المحنة ، والمرض ؟
أقول : لا ، بدون عناء تفكير.
ولقد ذكرتُ أدونيس ، فما شأنه في هذا أو شأن أحد متمثليه ؟
مسعى أدونيس الشعري مسعى ذهني ، والمسعى الذهني هو مسعى لغوي ، بل أنني أكاد أكون واثقاً من أنّ أدونيس أو أحد متمثليه ، إذا ظهرت " البلاء " في كتابتهما ، فإنهما يغيرانها سريعاً إلى" الفناء "..لأنَّ الأخيرة لها تاريخ سجالي في المنطق والفلسفة ، بينما البلاء مفردة بلا تاريخ سجالي أو لغوي ، كما نقول الآن في هذا المقال.إنها مفردة حسيّة ، مفردة حياة معذَّبَة ومستشفيات يتعالى عليها الشعر عندما يكون ذهنياً.
والشعر الذهني له بحثه في الجمال.. ونحن نحبه أحياناً حبّاً جمّاً ، ونُعْجَبُ به أيّما إِعجابٍ . اِسْمعْ ما يقوله المتنبي عندما كان يصف خيول سيف الدولة التي كانت تتعثر برؤوس القتلى من الأعداء :
وَتَعَثَّرْنَ بالرّؤوسِ كما مَرَّ بتاءاتِ نُطْقِهِ التّمتامُ
هذا البيت قد يكون إِعجازاً حقاً في الشعر، لكنه إعجاز ذهني ، لغوي محض ، في التشبيه بـ "كما مرَّ بتاءات ِ نُطْقِهِ التمتام " .
واذا نجح الشعر الذهني الخالص مرة ، وهو هنا بيت شعري واحد ، فلا يدوم نجاحه طوال الوقت ، لأنَّ الأمر سيشبه دخولنا درساً في اللغة لاينتهي ، من الصبح إلى الصبح التالي .
وهذا ممّا لا يطاق.
لكنَّما الحسُّ قد يسفّ لوحده ، بل أنَّ أكثرَهُ هو إِسفاف ، فيكون على الشاعر أن يقوم بدور ذاك الرقيب ، عند فرويد ،على الوعي.
وكان ت.أس. إليوت وجد ضالّته في هاملت ، فكتب عن المعادل الموضوعي بين الفكر والعاطفة..
ولأمرٍ مّا كاذبٍ، شاع في الحداثة العربية الشغل اللغوي البارد، فظن السلفيون أنها كلها شغل لغوي ، أو فرحوا بهذا فوصفوها كلها به.
مهارة الشاعر " الرقيب الفرويدي" هي التي ستمنع شعرَهُ من أن يكون مُسِفّاً في العاطفة ، حَدَّ خسارة الفن في رُقيِّهِ وعُلوّهِ على ماهو عاديّ ، تافه ومألوف.
وصدقُهُ الشعري ، كونُهُ كائِناً تراجيديّاً ، أعزلَ في هذه الحياة ، هو الذي سيمنعه من جعل الشعر ترفاً لغوياً بارداً.
وقد بدأت الحداثة الشعرية العراقية من هنا .
إذا كان ثمَّة خطوة أولى لها.. أو إذا سأَلتموني عن خطوة أولى لها فخذوها مني :
التفكير في هذا كان خطوتَها الأولى ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى