الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كما رواه شاهد عيان: الباب الثالث

دلور ميقري

2021 / 2 / 20
الادب والفن


1
مثل تعاقب الفصول، أكررُ أيامي بانتظام وعلى نسقٍ واحد. لكن أكثر من مفاجأة، علّمت على يومي الآفل. كذلك رحتُ أفكّر، لما أفقت صباحاً في موعد مشترك مع طيور الحديقة. شدوها الشجيّ، جاء إليّ في فراشي كأنه يدعوني إلى النهوض وترك الأفكار جانباً. لم ألبّ الدعوة فوراً، وذلك بسبب هيمنة ذكرى امرأة النافذة: يا لها من مصادفة غريبة، فكّرتُ، أن ألقاها أول مرة وأنا راكبٌ الكروسة، ومرة أخرى عندما كانت هي من تركب كروستها. وأدركتُ أنها عربتها الخاصة، بالنظر إلى هيئة الحوذي. أما شبهها بذلك الرسم، المصوّر الطفلة، فإنني تأكّدتُ منه تقريباً حالما عدت إلى الدار. لكنها كانت شبيهة، فوق ذلك، بعشيقتي الروسية. ماذا يعني هذا كله، سوى أنني بمواجهة لعبة القدَر؟
نهضتُ أخيراً، بينما السؤال ما يني يحلّق فوق رأسي بحيث سلوتُ أمرَ " الشبح " ومقالبه اليومية. بيد أنه كان حاضراً، ولا غرو، بالنظر إلى كونه صاحب الرسم. في هذه الحالة، فكّرتُ مجدداً، لا بد أن ثمة وشيجة تربط الرجل بامرأة النافذة. وذلك الآمر، المنتمي لصنف المرتزقة كما تبيّنَ من ملابسه؟ أهو زوجها، أم أنه والدها؛ لو فكّرنا بفارق السن بينهما؟ لقد كان في مثلي سنّي، فكّرتُ متنهداً، وكانت له شراستي عندما كان النحسُ يضع أمامي فلاحاً بليداً وهمجياً! في هذه الحالة، بالوسع التفكير في عقيدة التقمّص أكثر منها لعبة القدَر.
تناولتُ فطوري في الحديقة، وكانت هيَ أول مرة أفعل ذلك. فما لبثت الطيور أن شاركتني الطعام، بانهمارها عليّ من الأشجار كما الثمار الناضجة. وكنتُ حينئذٍ أجلس في ظل شجرة توت أبيض، وقد نضجت ثمارها فعلاً بفضل شمس الربيع المتأخر. عقبَ فراغي من الأكل، فرشتُ السماط تحت الشجرة، ثم قمت بهز جذعها بقوة؛ لتتساقط الثمار كالمطر. حملتُ غلّة الثمار ثم اتجهت إلى البئر، لكي أغسلها. يتعين القول، أن الماء في دمشق نظيفٌ وعذب سواءَ أكان من جوف الأرض أو من الأنهار. التهمتُ كمية كبيرة من ثمار التوت اللذيذة، ثم رميت الباقي إلى الطيور.
خطر ببالي بعدئذٍ الذهابَ إلى حي القنوات المجاور، علّني أحظى برؤية سيّدة النافذة. ولكن لماذا أدعوها بهكذا استعارة، مع أنني عرفتُ اسمها؟ بلى، إن صاحبَ الرسم قد وضع بأحرف صغيرة اسمَ الطفلة، وتمكنتُ بالأمس من الانتباه إليه؛ " كَوليزار ". وإنه اسمٌ جميل، له رنينٌ باريسيّ في سمعي. بل إنه يشبه أيضاً اسمَ الكنار، الطائر البديع، الذي امتلكت منه فيما مضى عدداً كبيراً في قصري. ولقد أطلقتُ طيوري جميعاً، آنَ صممتُ على الهرب من البلد إلى المنفى. أما عشيقتي الروسية، فإن جنسيتها الأصلية سهّلت عليها الحصول على أذن بمغادرة فرنسا. ولعلها الآنَ في أحد المنتجعات الصحية في ألمانيا، أينَ دأبت على التواجد هناك في السابق بسبب مرض الربو.

خرجتُ من المنزل وأنا أحاول طرد ذكرى عشيقتي، لتحل بمحلها صورة كَوليزار. أسعدني ترديد الاسم في داخلي، برغم أنني غير متيقن بعدُ تماماً من أنها صاحبة الرسم الطفوليّ. أسلمتُ نفسي إلى متعة التجوال، لأكتشف المزيد من فتنة المدينة القديمة. مع ذلك، بقيَ الذهنُ متعلقاً بصورة معذبة القلب، فلم أتمكن من حفظ الأماكن، التي أوصلتني إليها قدماي. ربما أكملتُ دورة كاملة حول المسجد الكبير، لأمرّ خِلَلها من أمام المدارس، الثاوي تحت قبابها جثامينُ عدد من القادة العظام؛ نظير الشقيقين صلاح الدين والملك العادل والسلطان المملوكي المرعب، بيبرس. شعرتُ على الأثر بالجوع، لأتناول غدائي من ثم في مطعمي المختار. شربت الشاي هنالك أيضاً، وكان في فكري أن أتابع جولتي لتقودني إلى ذلك المنزل، أين تسكن معذبتي. المفردة الأخيرة، كأنني صرتُ أطلقها جُزافاً مع علمي بأنني بالكاد عرفتُ صاحبتها. لكنني في داخلي، كنتُ أشعر كما لو عرفتها منذ زمن بعيد: أليسَ هذا تجلٍّ واضحاً لعقيدة التقمّص؟
وها أنا ذا مرة أخرى في ذلك الدرب، الكائن في صدره القنطرة، المعتلية إياها نافذة الحبيبة. خفق قلبي كما لو كان فتياً، حينَ تراءت لنظري وهيَ هناك تتسلى بشيء ما في يدها. من حركتها وإطراقتها، أدركتُ أنها منهمكة في تطريز قطعة قماش. على الأغلب أن جلوسها وراء النافذة للاستفادة من نور النهار، أكثر منه للتسلية. فإنه دربٌ مقفر، خال من المحلات التجارية. مع اقترابي الحثيث من القنطرة، بدأ قلبي يخفق بألم هذه المرة، وذلك لخشيتي من ألا تتلاقى أعيننا. إذ لم أجده لائقاً، العودة ثانية من نفس الدرب. لكن، آه.. ها هي ترفع بصرها عما بيدها كي ترشقني بنظرةٍ ملية، تعبّر في آنٍ معاً عن دهشتها وسعادتها. ثم ما لبثت أن عادت فأطرقت وعلى شفتيها ابتسامة، احترتُ هذه المرة في تفسيرها: أكانت وادعة أم ساخرة؟ في كلتا الحالتين، فكّرتُ راضياً، ثمة أمرٌ جديد كلّ الجدّة؛ وأعني معرفتها بكونها محطَ اهتمامِ رجلٍ غريب!
سرتُ إذاً في طريقي، مكتفٍ بتلك النظرة، كما لو أنني في سنّ غلام يعرف الحب لأول مرة. عدت أدخل المدينة القديمة من خلال السوق الكبير، المنتهي بأطلال معبد جوبيتر الوثنيّ وبوابة المسجد الأمويّ. لم أرغب الرجوع مبكراً إلى المنزل، بل فضّلت الجلوس في المقهى. هل كنتُ آمل بقدوم الحبيبة كالأمس، لتمر من أمام المقهى، مستقلةً كرّوستها بصحبة ذلك الآمر الفظ؟

2
ثم حلّ يوم الخميس، وكنتُ على موعدٍ في مسائه بمجيء الأصدقاء. الغريب، أنه لليوم الثاني على التوالي، أفتقدُ إشارةً عن وجود " الشبح " في الدار: فهل اعتراه شعورُ الغيرة، كون شخصاً آخر أضحى موضعَ اهتمامي؟ لقد خامرني هكذا اعتقادٌ، بعدما نهضتُ صباحاً من فراشي وتفقدتُ أحوالَ المنزل.
أثناء تناولي الفطور، فكّرتُ بما يلزم شرائه من السوق لأجل العشاء. ينبغي التنويه، إلى أنني فيما مضى كنتُ أجيد تحضيرَ أصنافٍ عدة من الطعام برغم وجود طباخين في قصري. ظللتُ على قناعة، بأن الطبخ قنّ كسائر الفنون. لكنني في دمشق، قنعتُ حتى الآنَ بتناول الغداء في المطعم، وذلك لاستساغتي ما يقدمونه هناك من وجبات. كنتُ على يقين، من ناحية أخرى، أن بعض أولئك الأصدقاء قد تعرفوا على مطبخنا من خلال علاقتهم بالقنصلية الفرنسية. يُقال في هذا الشأن، أننا تعلمنا الطبخ من الطليان، وذلك عند التحضير لزواج أميرتهم " كاترين دي ميديشي " من ملكنا الفرنسيّ " هنري الثاني ". مع ذلك، خشيتُ من العقلية الشرقية، المشددة على أن المطبخ هوَ مكانُ السيدات لا الأسياد. بأيّ حال، فكّرتُ، لن أسمح لنفسي بالانحدار إلى الهمجية حتى لو كنتُ أموّه شخصيّتي بمظهر ابن البلد، المسلم!
تفكيري، ما لبثَ أن أتجه إلى شاغلة القلب. أردتُ الآنَ الانتقال إلى خطوة أخرى، مجدية، تقرّبني من تلك السيّدة. هذا، مع إدراكي بعبث أيّ محاولة من جانبي لو ظهرَ أنها متزوجة. ولعلني أفقدُ رأسي، أيضاً. الاحتمال الأخير، نسجته مخيلتي حينَ تجسّمت لها صورةُ الآمر العسكريّ، الذي كان يرافق السيدة في الكرّوسة. بيد أنّ عينيها، فكّرتُ متنهداً، تكلمتا معي أكثر من مرة مذ أن التقتا بعينيّ، وذلك بمفردات التشجيع والأمل. فكرة أكثر جدّة، جعلت قلبي يرتعشُ: ماذا لو عمدتُ إلى كتابة رسالة لها، أبث فيها مشاعري؟ ما عتمَ حماسي أن فترَ، لما تساءلتُ مُستدركاً: " قد تكون أمّية، شأن معظم النساء المسلمات، أو ربما لا تجيد اللغة العربية لو كانت امرأة غريبة؟ ". إغراءُ الكتابة، ما عتمَ أن غلبَ على مشاعري، ليدفعني إلى النهوض باتجاه الخزانة، أين توجد الريشة والدواة. ما يزيد عن الساعة، قضيتها مع نفسي في مراجعة ما يُمكن أنه يكونه متنُ الرسالة. أخيراً، ومثلما يفعل الشاعرُ آنَ يدهمه الإلهامُ، رأيتني أصبّ كلماتي دفعة واحدة في الورقة البيضاء، التي بحجم كف اليد:
" سيّدتي، مالكة فؤادي
تعجز الكلماتُ، ولا شك، عن التعبير عما خالجني، عقبَ إنطلاق السهم من قوس عينيك، ليخترق روحي ويبقى فيها كجرح لا سبيل لبرئه إلا بلمسة من يدك الرقيقة. أراك كل آونة، وأنت في برجك العالي، شبيهة بالقمر؛ ليسَ بوسع المرء أن يصل إليه. لكن القمر، لا يحرمنا من نوره ليلة بعد ليلة. وأنتِ قمري، أنرتِ حياتي مرة واحدة وإلى الأبد. كل ما آمله، أن اليد مطلقة السهم، تتكرم عليّ بالرد ولو بكلمات قليلة ".
لعلني أسهبتُ أكثر في بث مشاعري، إلا أنّ توالي السنين يُبدد الكثير من المفردات ولا يبقي سوى جوهرها. ما أذكره أيضاً، أنني وضعت اسمي الأول في ذيل الرسالة؛ وهوَ اسمٌ، يبجله المسلمون شأن النصارى. هدفتُ من ذلك لشيء آخر، يمتّ للفضول: أن أجعل المعنية تحذو حذوي، لو شاءت الرد عليّ برسالة، فتضع اسمها في ذيلها. بهذه الحالة، أعرفُ إن كانت هيَ حقاً، كَوليزار، صاحبة الرسم الموجود في خزانتي!

في مثل توقيت يوم الأمس، مررتُ حَذاء منزلها، ويدي تقبض على الرسالة، المطوية بعناية. وكمألوف عادته، خفق قلبي عندما أبصرتها قابعة ثمة وراء النافذة. لاحَ واضحاً، أنها تنتظر قدومي على نفس الدرب. لما تلقيتُ نظرتها الباسمة، رفعت يدي بحذر لأريها الرسلة قبل أن أرميها أرضاً. تأكّدتُ من فهمها إشارتي، كونها رشقتني بابتسامة جميلة مع إرخاء نظرها باتجاه الرسالة. ثم واصلتُ طريقي، لأغيب في عتمة القنطرة، الكائنة تحت حجرة الحبيبة. كنتُ على ثقة، بأنها ستتولى إحضار الرسالة بنفسها أو بوساطة خادمة موثوقة.
لاحقاً، لما أنهيتُ غدائي في المطعم وجلستُ في المقهى، راودتني أكثر من مرة فكرةُ العودة للتأكّد من وصول الرسالة لصاحبتها. غيرَ أنني لم أتحرك من مكاني، مفضّلاً الانتظار إلى الغد. في الأثناء، واصلتُ أخذَ أنفاس من الناركيلة وأنا في غاية السعادة. فكأنني تركتُ قلبي في تلك الرسالة، وإنه يخفق الآنَ بين يديّ معذّبته. بهذا الشعور من الرضا، غادرتُ المقهى متجهاً إلى عمق السوق كي أشتري ما يلزم من الخضار واللحم لسهرة المساء.
رافقني إلى البيت أحد الحمّالين، وكنتُ أود معونته أيضاً لدى تحضير الطبخة المأمولة. بعد وصولنا للمنزل، أجلست الرجلَ في الحديقة وما لبثت أن ضيفته قدحاً من الشاي. بعدئذٍ أخذت في تحضير الوجبة، وذلك بإعداد ما يلزمها: على صينية مدهونة جيداً بالزيت، وضعتُ خليطاً من الحليب والخل والثوم، لأضيف إليه شرائح من صدر الدجاج. ثم تركت الخلطة الجديدة إلى جانب لمدة ربع ساعة كي يتشرب اللحم بالصلصة. بعد ذلك غمستُ الشرائح بالقسماط، مع إضافة ملعقتين كبيرتين من زيت الزيتون.
على الأثر، طلبتُ من الحمّال أن يأخذ الصينيةَ إلى فرن الزقاق كي تنضج الطبخة في حرارته. غابَ الرجلُ نحوَ ساعة، وما عتمَ أن عاد مع الصينية والبخار يتصاعد منها. نقدته أجرته، مع نفحة إكرامية، ما جعله يلهج بالدعاء لي وهوَ يرفع يديه إلى الأعلى. في مدة غيابه بالفرن، كنتُ قد أنهيتُ تحضيرَ السلطة. يبقى القول بخصوص الرجل، أنه ذكّرني بدَعيّ النبوّة، وكنتُ قد علمتُ بأنه في حياته عملَ أيضاً كحمّال في السوق. هذا، برغم أن كراماته ومعجزاته، المؤمن بها الناسُ، كانت تجعله من أهل الثراء لو لم يكن زاهداً.

3
الشمس، كانت قد غربت منذ نحو ساعة، لما حضر الأصدقاءُ على دفعتين. جاء أولاً جان وغابي، كونهما يسكنان في الحي المسيحيّ، تبعهما السيّد خليل وكان يقيم في الصالحية. هذا الأخير، متّنتُ علاقتي معه بعدما قدم لي مساعدة قيّمة عند شرائي المسكن. مع أنه سبقَ وعاينَ البيت، إلا أنه شارك صديقيه في الإعراب عن إعجابه به. بدَوري، كررتُ شكره على مساعدته. عقبَ تبادلي المجاملات مع الجماعة، عرّجتُ على المطبخ وكنتُ قد وضعت صينية الدجاج على موقد النار كي تسخن. عدتُ إلى الحجرة بعد قليل، بيدٍ تحمل وعاء السلطة ويد تقبض على سلة الخبز. الرز أيضاً كان جاهزاً، فقدمته على الأثر مع وجبة الدجاج المشويّ. الأصدقاء من جانبهم، أتى كل منهم مع هدية: جان مع دمجانة نبيذ، غابي مع دمجانة عرَق، وخليل مع علبة كبيرة من الكنافة؛ وهي حلوى دمشقية، مشهورة بطعمها اللذيذ.
نصارى المشرق، يقارعون الخمرَ مع أطباق خفيفة من الطعام، تُدعى " المازة "؛ وقد سبقَ لي تناولها عند جان. لكنني بدأتُ العشاءَ على طريقتنا التقليدية، بتقديم نوعٍ من الجبنة السورية، " الشنكليش "، تعويضاً عن جبنتنا الفرنسية. حتى الخبز المحليّ، حاولت جعله أقرب إلى خبزنا، وذلك بتحميصه على الموقد مع قليل من الزبدة. شاركنا السيّد خليل في شرب النبيذ. فلما جاءَ وقتُ الوجبة الرئيسة وقدمت له قدحاً من العَرق، فإنه أبعد قدحه قائلاً بدعابة: " لا، لأن الغد هوَ أول أيام شهر صومنا! ".
سألته عند ذلك بلهجة جدية: " بحَسَب ما فهمتُهُ، أنكم تصومون بهدف التضامن مع الفقراء. لكنكم تبالغون في هذا التضامن، كون الفقير غير محروم من ماء الشرب وكسَر الخبز على الأقل؟ "
فأجاب السيّد خليل: " نعم، أوافقك الرأي. لأن فريضة الصوم ذُكرت في القرآن، وهوَ كتابٌ أنزل أساساً على عرب الحجاز، المعروفين بشطف العيش ". أعجبني كلامه، الدال على انفتاح الفكر وسعة الثقافة. لعلني لم أذكر بعدُ، أن صديقنا ينتمي لملّة الكرد، الذين يعيشون منذ زمن صلاح الدين في الصالحية بسفح جبل قاسيون.
عليّ كان تذكيره بانتمائه الملّي، وما لو كان يُشكّل فرقة خاصة من المسلمين. فردّ مبتسماً: " ولكن صلاح الدين، يا صديقي، كان يُعدّ حاميَ المذهب السنّي، وهوَ مَن جعله رسمياً بقضائه على الخلافة الفاطمية "
" إذاً ما تتمتع به أنت من حرية الفكر، لا علاقة له بمذهبكم؟ "
" أستطيع القول، أن تقاليدنا أقوى من تديننا. لدرجة أنّ ثمة مثلاً تركياً، يشنّع على الكرديّ بأنه مسلمٌ بالمقارنة فقط مع الكافر! "، قالها ضاحكاً. شاركناه شعورَ المرح، عندما رفعنا الأقداح بنخب المسلم قرين الكافر. هنا، قال جان ملاحظاً: " برغم أن أصناف المرتزقة يغلب عليها العنصر الكرديّ، ومعروفة بتعدياتها على نصارى المدينة، إلا أن أفرادها يظهرون الرحمة على خلاف عناصر الإنكشارية أو حتى الأصناف الأخرى كالمغاربة والمواصلة ".
فقال له السيّد خليل: " عناصرُ الأصناف، كاللاوند والدالاتية والسكمان، قدموا أصلاً إلى دمشق من مجتمع جبليّ مسلم، لكن يغلب عليه التنوع؛ من قبيل وجود الأرمن والنساطرة واليعاقبة والروم علاوة على اليزيديين والقزلباش. حتى أن ثمة بعض القبائل الكردية، نصفها مسلم والنصف الآخر مسيحيّ أو يزيديّ أو علويّ. لكن عندما يُنتزع الرجلُ الجبليّ من موطنه، بانتسابه إلى الأصناف، تَفرضُ عليه حياتُه الجديدة الميلَ للنهب والسلب والقسوة ".
قلتُ له، ملاحظاً أيضاً: " حتى الآن، كنتُ أعتقد أنّ كردَ دمشق هم من أصلاب الأيوبيين؟ ". فأجابني وقد ثقل لسانه قليلاً بفعل الشراب: " أخلافُ الأيوبيين، تعرّب لسانهم غالباً؛ وهم جماعتنا، المقيمون في حي الصالحية. لكن دفعات جديدة من الكرد، قدمت من مواطنها في القرون الأخيرة والعديد منهم سكنوا في سوق ساروجة والميدان، والقلة أقاموا في ظهرانينا بشرق الصالحية. غالبيةُ القادمين، أنخرطوا في حياة الجندية. بينما الآخرون، الأقدم عهداً، امتهنوا التجارة والحِرَف أو عملوا في الزراعة ".
عندئذٍ، جاز لي تغيير وجهة الحديث بالتساؤل: " ما قصّة الصاحب الأصليّ لمنزلي هذا، المدعو بالنبي كيكي؟ ". مجرد ذكري لاسم الرجل، رسمَ الابتسامة على وجوه الأصدقاء؛ ما عنى أنه حتى النصارى كانوا يعرفون دعيّ النبوّة. المفهوم الأخير، صححه لي السيّد خليل لما أخذ على عاتقه إجابة سؤالي: " بحَسَب معلومات والدي، وكان قد عاشَ في زمن ذلك الرجل ومؤمناً بكراماته، أنه لم يجهر بالنبوّة أبداً. لكن الناس هم من دَعوه بالنبي كيكي، منهم على سبيل السخرية ومنهم تحبباً. على أي حال، فإن بعض الأولياء عُرفوا أيضاً بلقب النبوّة. أحد هؤلاء، ضريحه موجودٌ لدينا في الصالحية، معروفٌ ب‘ بمبو بابا ‘؛ ويقال أنه نفسه النبيّ ‘ ذو الكفل‘، الذي عاشَ في عصر صلاح الدين وكان السلطان يؤمن بكراماته "
" بمبو بابا هذا، ذكّرني اسمه ب ‘علي بابا ‘، المشهور في حكايات ألف ليلة وليلة "، علّقتُ ضاحكاً. فابتسم السيّد خليل ورد بالقول: " اسمه يعني، ‘ شيخ القطن ‘، ولهذا قصة طريفة، سأرويها باختصار. وهيَ أن فقيهاً من أهل المدينة وقف يوماً أمام ضريح بمبو بابا، وقال متهكّماً: ‘ كرديّ دبيّ، ولو دٌعيَ بالنبيّ! ‘. وإذا الوليّ يُخرج قدمه من الضريح، ليركل ذلكَ الرجل ".
لم يستطع صديقنا إكمال قصته، لأننا انفجرنا ضاحكين. ثم عاد ليستأنف قصته، بالقول: " منذ ذلك اليوم، بقيت قدمُ بمبو بابا ظاهرة من الضريح، الذي أضحى لاحقاً مقاماً عليه قبة، يأتي إليه الخلق للتبرك به ".
عقّبتُ بالقول، بنبرة غلبَ عليها الغموض: " أعتقدُ أنه حانَ الوقتُ، المتعيّن فيه على مسلمي المدينة أن يبتنوا مقاماً للنبي كيكي ".

4
من صمت الحاضرين ووجومهم، لاحَ أن كلاً منهم أخذ يفكّرُ بمعنى جملتي الفائتة. نورُ القنديل الكبير، جعل ظلالهم أشبه بالأشباح، وكان ينقصُ انضمام " الشبح " إلى جمعتهم. لعله الخمر، مَن حرّك لديّ نزعة الكشف عن وجود هذا الأخير في حياتي خلال الأيام المنصرمة. لكنني كنتُ فعلاً بحاجة إلى رأي الأصدقاء، بشأن بلبلة كياني من لدُن ذلك الدخيل. لذا لم أنتظر مبادرة أحدهم للسؤال، بل أندفعتُ من تلقاء ذاتي لقصّ تفاصيل ما جرى معي. في المقابل، تكتمتُ عن موضوع معذّبة قلبي، وذلك بدافع التعفف: لقد صعبَ عليّ، وأنا في سنّ تقارب الخمسين، تمثيلَ دَور العاشق، المتيّم بامرأة لا يعرف عنها شيئاً تقريباً. مثلما أن ربط هذه المرأة بطفلة الرسم، ( كَوليزار )، ربما يكون أكثر إثارة للسخرية.
السيّد خليل، كان أول من علّق على القصة، وكأنه رأى نفسه مسؤولاً عن ورطتي. فبادر بطرح سؤال عليّ: " بحَسَب ما فهمته، أنه كفّت عن الحدوث في اليومين الأخيرين، تلك الأشياء الغريبة؛ من قبيل فقدان ماء البرميل وانطفاء الشموع؟ ". لم أكن مهيئاً للجواب، كونه سيجبرني على الافضاء بموضوع الحبيبة. كيلا يتمادى الحديث إلى تلك النقطة المحرجة، اضطررتُ للكذب حينَ أجبت: " هذا ما جعلني أحتارُ، حقاً! "
تدخل جان، ليقول بنبرة مرحة: " لكنك، يا صديقي، كنتُ تعلم سلفاً أن روحَ النبي كيكي أنزلت العقاب بمالك البيت السابق، لما حاول تسوية القبر بالأرض ".
أعتقدُ أن وجهي كان ما فتأ متجهّماً، عندما أجبتُ: " بلى، كنتُ على علم بذلك. إلا أنني لم أعترض على وجود القبر في حديقة الدار، بل وزرعتُ عليه بعض الأزهار ".
هتفَ السيّد خليل، يقاطعني بسؤال ينمّ عن ذكائه: " وإذاً بعد زراعتك الأزهار على القبر، كفّ الشبحُ عن مضايقتك. أليسَ صحيحاً؟ ". أراحني تفسيره، ولا غرو، كونه لن يضطرني للكذب مجدداً. فأومأتُ برأسي، موافقاً. فاستطرد الرجلُ قائلاً وهوَ يبتسم: " في هذه الحالة، لم تعُد هناك مشكلة "
" أرجو ذلك، أيضاً "، قلتُ باقتضاب. لكن نظرته المتمعّنة في عينيّ، أوحت لي أنه فهمَ تكتّمي على سرّ ما. وكان من الممكن أن يطرح سؤالاً آخر في هذا السياق، لولا أن صديقنا غابي رفع قدحه قائلاً: " نخبُ النبي كيكي، بمناسبة الصلح معه! ". قرعنا كؤوسنا بعضها ببعض ونحن نضحك، ثم ما لبثنا أن غيّرنا سبيلَ الحديث. قبل انتصاف الليل بنحو ساعة، أعرب السيّد خليل عن رغبته بالمغادرة إلى بيته. عندئذٍ تضامنَ الضيفان الآخران معه، ونهضا بدَورهما. عند عتبة الباب الخارجيّ، لم أنسَ تهنئة صديقنا المسلم بحلول شهر رمضان. فرد مبتسماً: " أنصحك بالصوم، لكي تنال بركة كاملة من النبي كيكي ".

أفقت متأخراً في اليوم التالي، ولم أكن أعلم وقتئذٍ أنها عادةُ مسلمي المدينة في أيام الصوم. قررتُ مشاركتهم بالصوم الجزئيّ، بحَسَب قناعتي به؛ أي تناول كسر من الخبز نهاراً مع الماء. عصافير الحديقة، وكانوا قد أضحوا أصدقاء لي، شاركوني بدَورهم الفطور بالتقاط فتات الخبز، المتناثرة على الأرض. فكرة جريئة، راودتني في فاتح شهر رمضان هذا: أن أستغل فترة الافطار، وتوقيتها عند مغيب الشمس، لمحاولة الانفراد بالحبيبة.
على ذلك، فكّرتُ بالذهاب إلى حمّام السوق، لكي تكون رائحتي طيبة وملابسي نظيفة في آونة اللقاء المرتقب. السيّد خليل، كان قد أسمى لي " حمّام العقيقي "، ممتدحاً إياه بكونه أيضاً آبدة أثرية من القرون الوسطى. خرجتُ من المنزل ظهراً، وكانت الشمس تلقي بأشعتها الحارّة على الدروب، فتجبر السابلة، على ندرتهم، على التزام ظلال الجدران. السوق كذلك كان شبه مقفر من الخلق، ومعظم المتاجر مغلقة. فإنه يوم جمعة، عطلة المسلمين، فضلاً عن أنه أول أيام شهر رمضان. انتهيتُ إلى مكان الحمّام، مؤملاً أن يكون مفتوحاً.
الحمّام، يقع في درب ضيّق، متصل مع سوق المسكية، بمقابل المدرسة، المثاوي تحت قبتها العظيمة تجاليدٌ الملك العادل، شقيق صلاح الدين. شكرتُ الله لأن الحمّام غير مغلق، وما لبثت أن ولجتُ خِلَل مدخله الأنيق، المكوّن من باب خشبيّ بدرفتين، يعلوه نافذة مقوّسة، صمّاء، زخرفت على شكل أشعة الشمس. عادةً، الحمّام في بلاد المسلمين يُقسم إلى برّاني وجوّاني ووسطاني، ويكون معتنىً بعمارته وزخارفه كما لو أنه قصرٌ من القصور. رأيت نفسي أولاً في القسم الخارجيّ ( البرّاني )، أين وُجدتْ مصطبة على طول الجدار كي يجلس عليها مَن يشرعون بخلع ملابسهم أو أولئك المستبدلين إياها بملابس جديدة عقب انتهائهم من الاستحمام. وكان ثمة خزائن لوضع الثياب فيها، علاوة على المشاجب لنفس الغرض.
من هيئتي وارتباك حركاتي، فطن معلّم الحمّام، الجالس على منصة خاصّة هنالك، إلى أنني رجل غريب. ابتسم لي بلطف، ثم أمر أحدَ المستخدمين بإرشادي على العادة المتبعة في الحمّام. انتظرني الرجلُ حتى خلعتُ ملابسي ولففت جسدي بالفوطة، ثم قادني إلى القسم الداخليّ ( الجوّاني ) مروراً بالأوسط، المحتوي على دورة مياه، وتعلوه قبّة ذات فتحات للتهوية. ثم رأيتني في القسم الجوانيّ، وكان حاراً، يتصاعد منه البخار. ثمة، أخترتُ مقصورة فارغة. وما لبث المستخدم أن بدأ في مساعدتي وبيده كيسٌ خشن، يُمَرر على الجسد بقوّة، بالأخص الظهر، بهدف إزالة الأوساخ. بعدئذٍ أمسك بليفة ناعمة، فمرر عليها صابونة، ليعيد نفس العملية السابقة. عقبَ انتهاء غسل الجسد، جاء دورُ تدليكه؛ وكان المستخدمُ ماهراً بعمله على وجه العموم.
ينبغي عليّ التنويه، بأنها لم تكن المرة الأولى، أدخل فيها حمّاماً عاماً. إذ سبقَ أن عرفتُ الحمّام في أسطنبول، كذلك الأمر ولجته أكثر من مرة في بيروت. لكن هذا الحمّام الدمشقيّ، كان يفوق أمثاله لناحية فخامة العمارة وعراقتها وتعدد أقسامها.

5
في ساعةٍ معيّنة من النهار، تواجدتُ في ذلك الدرب، أين أملتُ إطلالة الحبيبة من نافذة حجرتها. كانت ثمة على مألوف العادة، وما لبثت أعيننا أن تلاقت. في هذه المرة، أخرجتُ الساعة المربوطة بالسلسلة، متبعاً ذلك بإشارة من أصابع يدي الخمسة. ابتسامتها، المعقّبة الإشارة، دلّت على فهمها أنني أريد لقاءها على ساعة الإفطار. تابعتُ سيري، لألج داخل القنطرة، التي يلعب النسيم البارد فيها بهذا الوقت من الهاجرة. لم يكن هناك بدّ من العودة إلى الدار، كون المقهى لا يستقبل الزبائن في شهر الصوم. كان بودي القيام بجولة جديدة، تقودني إلى أوابد المدينة، لولا معاناتي من العطش.
هنالك في الدار، وعقبَ إرواء ظمأي، بقيتُ بملابس الخروج طالما أنني سأعود لملاقاة الحبيبة. البرودة، الملازمة مجلسي في الرواق، لعلها أسهمت في اطفاء حرارة لهفي للقاء. إذ سرعان ما دَهَمَ ذهني هذا السؤالُ: ساعة الإفطار، قد يكون فيها الدربُ خال من السابلة حقاً، لكنها أيضاً ساعةُ اجتماع العائلة على سفرة الطعام؟
كدتُ أنفخ بقنوط، آنَ تذكّرتُ ابتسامةَ الحبيبة؛ ولا يمكن تفسيرها إلا بكونها جواباً إيجابياً. هكذا طرحتُ جانباً تلك الفكرة المُحْبِطة، واستسلمت للتيار العذب، المخترق الرواق. فكرة ملائمة لمناسبة اللقاء، ما عتمت أن راودتني. فنهضتُ قائماً، لأتوجه إلى حجرة النوم وأستل منها حزمة الأوراق، الخاصّة بالنبيّ المزعوم. أخرجتُ منها رسمَ الطفلة، فجعلته على شكل الأسطوانة وربطته بخيط. لما غادرتُ الدارَ على الأثر، كان الرسمُ محفوظاً في طيّات قميصي. وَقَتُّ خروجي قبيل ساعة الإفطار بقليل، وكان الطريق قد بدأ يقفر من الخلق. اجتزتُ بابَ السور، يرافقني صوتُ المؤذن، المعلن عن صلاة المغرب، لأتوغل في مسلكٍ تهيمن عليه ظلالُ الأشجار، وخاصة أشجار الجوز العملاقة. دقائق قليلة، وكنتُ هذه المرة أسيرُ في ذلك الدرب المنشود، وكان خالٍ تماماً من الخلق مثلما أملتُ. باقترابي من باب منزلها، أحسستُ بفداحة ما أنا مقدمٌ عليه إن كان لناحية الفضيحة أو الخطورة. لكن مع بدء انفتاح الباب، لم يكن التراجعُ ممكناً: ظهرَ جانبٌ من رأس الحبيبة، وكان عارٍ كما ألفته دوماً.
" أدخل بسرعة، أيها السيّد "، قالتها بعجلة إنما دونَ وجل. ما فهمتُه، أنها تريد التكلم معي في الفناء. بلا حاجةٍ للتباهي، أقول أنني من نوع الرجال المقتحمين غير الهيّابين. لكنني كنتُ الآنَ أشفق على هذه المرأة، الملكة فؤادي. وكنتُ على استعدادٍ لبذل روحي من أجلها، لأنها هيَ روحي. حالما صرتُ في الداخل، طرَحَت عليّ سؤالاً متوقّعاً: " ماذا تبتغي مني، أيها السيّد؟ ". ليسَ جمالها، حَسْب، ما قهرني، فجعلني أتردد بالاجابة، بل أيضاً ما في شخصيتها من رفعة وإباء كأنها أميرة من الأميرات. إذاً، حانت لحظة المكاشفة المأمولة والوقت نزيرٌ لا يرحم.
قلتُ لها وليسَ دونَ رعدة في داخلي: " صرتُ أسيرَ عشقك، وذلك مذ أن تلاقت أعيننا أول مرة. وربما أكونُ على شيء من قلة الإحساس، لو أنني غير متيقن من شعورك المتبادل "
" لعلني تماديتُ في منحك أملاً، برغم أنني متزوجة، وفوق ذلك، امرأة شريفة "، قالتها وكانت ترتعد بدَورها. أمسكتُ يدها الرقيقة، فوضعتها على صدري ـ كما يفعل الممثل على المسرح في تمثيلية رومانسية، وقلت بحرارة: " الحبُ لا يعرفُ أيّ حاجزٍ، سوى أنه أسرٌ بحدّ ذاته. وأنا لا أطلب سوى مبادلتي مشاعري بكلمات صريحة؛ بمجرد كلمة واحدة "
" يكفي أنني استقبلتك هنا، أيها السيّد، وهوَ أبلغُ تعبيرٍ عن مشاعري "، قالت ذلك ثم استدركتُ: " والآن، أرجوك أن تمضي في سبيلك ".
سألتها وأنا أتحرك، وكان قلبي يكاد يقفز من بين أضلاعي لشدة البهجة والرضا: " أليسَ ثمة جوابٌ على رسالتي؟ ".
ردت بابتسامةٍ، كشفت أسنانها المنضدة كاللآلئ: " أنتَ تود معرفة، ما لو كنتُ أعرف القراءة والكتابة. أليسَ صحيحاً؟ "
" بلى، يا لكِ من امرأة ذكية! "، قلتها ضاحكاً. ثم أردفتُ بالقول، وأنا أبرز الرسمَ أمام عينيها: " لو أنّ اسمكِ كَوليزار، فإن هذه الصورة تخصّك؟ ".
عقبَ تأملها الرسم بلمحةٍ، هتفت بصوت عميق: " آه، رباه! ولكن، كيفَ حصلت على هذا الرسم؟ "
" إلقد أشتريتُ منزلاً، كان بالأصل ملكاً للرجل المبارك، المعروف على لسان العامّة بالنبي كيكي ".
أوقفت كلامي بالقول، بلهجة ملهوجة: " حسنٌ، فهمت كل شيء. والآن، قل ما هو اسمك ثم إذهب؟ ". أخبرتها باسمي، ثم أضفتُ متسائلاً: " رجلك ليسَ في المنزل، أليسَ كذلك؟ ".
ردّت بالقول، وهيَ تكاد تدفعني من يدي: " نعم، نعم.. إذهب الآن، أرجوك ". ثم استطردت لما تحركتُ: " اما هذا الرسم، فإنني سأحتفظ به لو سمحتَ؟ "
" بالطبع، هوَ لكِ. إلى اللقاء! "، قلتُ ذلك وخرجتُ من الباب بعجلة.

6
في الأيام العشرة التالية، كدّتُ أفقد السيطرة على نفسي لشدة اشتياقي لرؤية كَوليزار، لدرجة التفكير بالقرع على باب بيتها. فقد اختفت طوال تلك الفترة، فلم تعُد تظهر في نافذة حجرتها العلوية. في الأثناء، حضرَ القنصل الفرنسيّ من بيروت وأرسل خبراً مع جان كي ألتقيه في منزل هذا الأخير. زيارات القنصل لدمشق، كانت تتّسم بالسرية كيلا تثير مشاعر المواطنين المسلمين؛ بله ونحنُ في شهر صيامهم، المقدّس. وكانت حالتي النفسية، المتردية، قد جعلتني ألزم المنزل غالباً، باستثناء مروري اليوميّ تحت نافذة الحبيبة. لحظ ذلك جان، عندما جاء كي يبلغني بخبر القنصل، لكنني تكتمتُ عما يشغل خاطري. ركبتُ معه في عربة مشدودة بالخيل، كانت تنتظرة خارج منزلي. بسبب حالتي المعلومة، لم تثر الدعوة في نفسي شيئاً من الهواجس أو حتى التساؤلات. في خلال الطريق، كنتُ ما أفتأ غائباً عما حولي، أجيبُ صديقي بطريقة آلية. مع مرور الكرّوسة في " الطريق المستقيم "، لفتَ جان نظري إلى المكان باعتباره آبدة أثرية، تعود إلى زمن الرومان. وكان تعليقي، على غير المعتاد في هكذا أحوال، أن قلتُ باقتضاب: " حقاً؟ ". إلا أنني بعد قليل انتبهتُ إلى سيرنا باتجاه باب شرقي، ما جعلني أطرح هذا السؤال على صديقي: " كأننا لسنا في الطريق إلى منزلك؟ "
" لا، سنلتقي سعادة القنصل في كاتدرائية الزيتون، كونه الآنَ في ضيافة البطريرك "، ردّ عليّ بشيء من الارتباك. ثم أضاف مبتسماَ: " بعد ذلك، سنتجه في معيّته إلى منزلي لنسهر هنالك ". ثم ما لبثت الكاتدرائية أن ظهرت لعينيّ، بعمارتها المهيبة وقد تصدرها برجان رئيسيان مع قبّة تقع في وسط المسافة بينهما. أشرتُ إلى أشجار الزيتون، المنتشرة بكثرة في محيط المكان: " أهذه الأشجار هيَ سببُ تسمية الكنيسة؟ ". أومأ رأسه إيجاباً، ثم قال: " والمنطقة برمتها تُدعى حارة الزيتون، ويقال أنها قاومت المسلمين ببسالة عندما حاصروا دمشق في زمن البيزنطيين "
" كأنما هذا المسجد، المعتلي سورَ باب شرقي، كان رمزاً لانتصار المسلمين على أسلافكم؟ "، قلتها وأنا أشير بيدي إلى ناحية السور. استرد جان بصره من تلك الناحية، ثم أجاب متنهّداً: " منذ ذلك الوقت أضحينا أقلية، لكن أولئك العربَ تعاملوا معنا أفضل بكثير من العثمانيين "
" نحنُ في أوروبا نستعمل كلمة الأتراك، على العكس منكم؟ "، قلتها ملاحظاً. فعلّقَ جان على قولي بعد لحظة تفكير: " العثمانية مفهوم عام، بينما يُنظر إلى الأتراك كقبائل بدوية أكثر منهم أصحاب سلطة. بل إن أيّ صاحب مركز في الباب العالي، من الموظف إلى الصدر الأعظم، يشعر بالاهانة لو أنك دعيته بالتركيّ. فإنه يفتخر بعثمانيته، حَسْب ". وكانت العربة قد توقفت أمام مدخل الكاتدرائية، فدلفت منها أولاً ثم لحقني صديقي. المدخل، كان عبارة عن بناء منيف، مقوّس، متصل مع الجدران الخارجية. ما عتمَ أحد الرهبان أن فتحَ لنا الباب الحديدي، لنجد أنفسنا في الفناء الفسيح، المستطيل الشكل، وكان عبارة عن مجموعة قناطر بعدد أشهر العام. بحرة جميلة، كانت تتوسط الباحة، أحجارها بيض ورمادية شان البناء ككل. راهبٌ آخر، عرّفه جان بمقصدنا، أخذ على عاتقه مرافقتنا حتى عتبة حجرةٍ تقع وسط رواق كبير داخل الكاتدرائية. طلبَ منا أن نتظر، وما لبثَ أن دخل كي يبلغ عن وصولنا. على الأثر، رأيتنا في حجرة فخمة، وكانت آية في فنون الزخرفة والنقش والوشي. لاحَ البطريرك " أثناسيوس " جالساً وراء مكتبه، وكان يرتدي ثوباً من الأرجوان المقصّب بخيوط ذهبية. فيما القنصل، " مسيو ديكار "، أخذ مجلسه بمقابله وكان بملابسه القومية المعتادة. تم الترحيب بي بصورة مؤثرة، ربما لأن وجودي أثارَ ذكريات طرية عن الأحداث المأسوية في باريس: الأحداث المعنية، ربما كانت محور نقاش الرجلين قبيل وصولنا.
لعلني سبقَ وذكرتُ في مكان آخر، أنني التقيت من قبل مع القنصل في مدينة بيروت آنَ وصولي إليها قادماً من أسطنبول. البطريرك، كان قد تسنّم وظيفته في عام سبق وصولي إلى الولاية السورية، وذلك على أثر وفاة سلفه، الذي بقي في منصبه لما يزيد عن الربع قرن. على ذلك، قدّمتُ تهنئتي للبطريرك مع التمنيات له بالتوفيق لخدمة الملّة الكاثوليكية في المشرق. كان الرجلُ قد قدّم يده لأقبلها، ثم بادلني بدَوره الكلمات الطيبة. ثم سألني بعد وهلة صمت: " بحَسَب ما نمّ إليّ، أن هدف وجودك في المشرق هوَ كتابة مؤلّف في أدب الرحلات؟ ". كان واضحاً، أنه استمد معلوماته عني على لسان القنصل. هذا الأخير، كان في مثل سنّي، بينما البطريرك توغّل قليلاً في الشيخوخة.
قلتُ مجيباً على سؤال غبطته: " بلى، يا سيّدي، إن دمشق هيَ أم المسيحية. إنها مدينة عظيمة، حافلة بالتاريخ والحضارة والسحر، تحتاج لوحدها إلى كتاب مستقل ". أرتاحَ لجوابي، برغم أنه لا ينتمي للمدينة لا بالمولد ولا بالاقامة. ذكّرني بهذه الحقيقة، ليصل إلى القول: " أسلافي، كانوا قد تنقلوا بين المدن بحسب علاقتهم مع الباب العالي وبعضهم نفيَ إلى روما ".

7
عقّب القنصلُ بالقول: " أفهمُ أن تكون معاملتكم سيئة عموماً، كونكم تعيشون تحت سلطة الكفّار. لكن ماذا في الوسع قوله عن فرنسا، أينَ يعلّق اليوم رجالُ الدين من أعناقهم على الأشجار والأعمدة أو يقذف بهم من أعالي أبراج الكنائس والأديرة؟ "
" نعم، إنّ ثوار باريس أكثر عداءً للمسيحية من العثمانيين أنفسهم. لكن أوروبا لن تسكت على ما يجري هناك في فرنسا، وسنرى قريباً حلفاً مقدساً من الملوك بما فيهم قيصر روسيا "، تولى البطريرك الإجابة وهوَ يطرقُ بعصبية على سطح الطاولة بأصابعه المزينة بالخواتم. ثم أردفَ يقول بصوتٍ منخفض، كأنما يفضي بسرّ مستطير: " لاحقاً في هذا العام، أو ربما في بداية العام المقبل، سأدعو إلى مجمعٍ كنسيّ كي تتم فيه مناقشة أوضاع ملّتنا الكاثوليكية في فرنسا، التي نعدّها بمثابة الأم لكنيستنا ". ثم أتجه إليّ بالكلام، مستطرداً: " وأنتَ مدعوٌ لحضور المجمع، بالطبع في حال لم تغادر البلاد. على أغلب تقدير، أنّ المجمعَ سيُعقد في أحد أديرة الإمارة اللبنانية ".
تابعنا حديثنا على طاولة الغداء، التي تكرّم البطريرك فدعانا إليها، فجيء بالطعام من المطبخ، الكائن في قبو الكاتدرائية، فقدّم في حجرةٍ ملحقة بمكتب غبطته. أحضروا عدة أصناف من الطبخ، مع كمية كبيرة من اللحوم، ربما للتفاخر بما يحظى به المكانُ من سِعَة العيش ووفرته فضلاً عن جود القائمين عليه. إمعاناً في اللطف، صبّ لنا كبيرُ الملّة الكاثوليكية في المشرق النبيذَ من دورق كبير، قائلاً أنه من أفخر الأنواع ومن جَني أعناب منطقة صيدنايا، في برّ الشام. ثم أردفَ، موجهاً كلامه إليّ: " وفوق ذلك هيَ بلدة مشهورة يديرها العظيم، وأنصحك بزيارته طالما أنك مقبلٌ على تأليف كتابٍ عن المدينة "
" يشرفني ذلك، يا سيّدي، مثلما أنني شاكرٌ لطفكم وتواضعكم "، أجبته بأدب بالغ. يجدر بالتذكير، أنها كانت المرة الأولى منذ ما يزيد عن العشرة أيام، أتناول فيها الغداء. ولا أدري، كيف سيكون شعورُ غبطته لو عرف أنني ملتزمٌ، ولو جزئياً، بصيام الكفّار؛ هوَ مَن دعاني، قبل قليل، لحضور مجمع كنسيّ على جانبٍ من الخطورة!
بعد الغداء، تركنا البطريركُ وذهب لينال القيلولة. كان القنصلُ ضيفاً على الكاتدرائية، فسرنا معه إلى مقر إقامته. لقد خُصص له جناحٌ معتبر، يقع في آخر الرواق، وكانت نوافذه تطل على حديقة حافلة بالأزهار. فورَ دخولنا الجناح، خاطبنا القنصلُ ببساطة: " ثمة حجرة نوم أخرى، لو أردتما الاغفاء لساعةٍ؛ لأنني سأفعل ذلك أيضاً ". دخلتُ مع جان إلى تلك الحجرة، فتنازل لي عن السرير بينما استلقى هوَ على الأريكة. هوّمنا قليلاً بحديث قصير، وما عتم النومُ أن غلبنا. النبيذ جعل إغفاءتي ثقيلة نوعاً، وكان من الصعوبة أن أستيقظ فيما بعد إلا حينَ كرر رفيقُ الحجرة نداءه باسمي. كان الوقتُ قد شارفَ على الأصيل، وقد جيء لنا بالقهوة عقبَ إفاقة القنصل. تناولناها في الجناح، ما كان يشي بأننا لن نلتقي البطريرك ثانية في هذا اليوم.
قال جان، ناقلاً عينيه بيننا: " حسنٌ أننا نلنا حظنا من القيلولة، لكي نتمكن من السهر ". كنتُ ما أفتأ بملابس الأعيان المسلمين، فنظرتُ بفضول إلى ملابس القنصل. هذا الأخير، انتبه لمغزى نظرتي، فقال لي: " أنا أتتقل الآنَ بحرية بين بيروت ودمشق، لأن الباب العالي أسبغَ عطفه على الفرنسيين في السلطنة عقبَ ثورة باريس. أنتَ أيضاً، في وسعك الظهور بشخصيتك الحقيقة دونَ خشية من التعرض للمضايقة "
" أعلم ذلك سلفاً، لكنني أموّه شخصيتي كي أتمكن من الدخول إلى أماكن ممنوعة على النصارى، والأوربيين بشكل خاص "
" هذا خيارك على أيّ حال، مع أنني أخشى أن يروق لك دينُ هؤلاء القوم أو أن تعشق امرأة منهم فتضطر إلى التحوّل عن دينك "، علّقَ مقهقهاً. برغم ما أظهرته من المرح، إلا أن داخلي انقبضَ لمجرد ذكر الحبيبة المسلمة ـ كما لو كان الرجلُ يعرف، حقاً، قصتي معها.

بدأت سهرتنا في أول المساء، لتستمر إلى منتصف الليل تقريباً. ربما بسبب حساسية وجود القنصل، لم يُدع أحدٌ غيري للسهرة. الفتى اللطيف، ابنُ مضيفنا، تولى نقلَ أطباق المازة إلى حجرة الاستقبال. فضّلتُ شربَ العرَق، لأنني وجدته مفيداً لتهدئة ما بداخلي على خلفية معضلة اختفاء الحبيبة في الأيام العشرة الأخيرة. وإنها هيَ مَن كانت تسكن خاطري، حينَ عدتُ إلى الدار مستخدما الكرّوسة، التي تعهّد المضيفُ إحضارها لنقلي مع القنصل. بعد وصول العربة إلى الكاتدرائية ونزول القنصل منها، تابعتْ الجري باتجاه حي القيمرية. هاجسٌ ملح، ما لبثَ أن دفعني إلى الطلب من الحوذيّ أن ياخذني إلى الحي المجاور، القنوات. قال لي متسائلاً: " أظنك ذكرتَ أولاً القيمرية؟ "
" لقد أختلطت عليّ التسمية، يا صاحبي "، أجبته. رائحة العرَق، اشتمها الرجلُ ولا شك، مثلما عبّرت عنه نظرته المستاءة؛ كون ملابسي أوهمته بأنني مسلم من الأغراب. تركتُ العربة في أول الدرب، الكائن فيه منزلُ كَوليزار. الصمتُ كان يسود المكانَ، لكنني دُهشت لمرأى حجرتها العلوية وهيَ مضاءة.

*الكتاب الثالث من العمل الروائيّ، " الأولى والآخرة "..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث