الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكفيف … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 2 / 21
الادب والفن


أسير لموقف الحافلات ، وأنحشر بين الركاب .. وأخوض في زحامهم .. لأجد لنفسي مقعداً في الباص الذاهب الى حيّنا ، أشق طريقي في صعوبة ، وأنا أكاد اختنق من رائحة العرق والزحام .. أنجح أخيراً بعد جهد جهيد في الحصول على مقعد في مؤخرة الباص ، حرصت على ان يكون بجانب الشباك .. أجلس منهكاً على احد المقاعد ، وهو كل ما كنت اتمنى .. ازفر أخيراً انفاسي في راحة .. !
تمتلئ الحافلة بوجوه صامتة ، ومتعبة دبغتها أشعة شمس الجنوب اللاهبة ، واجساد منهكة استنزفها الشقاء ، وتجوال اليوم الطويل .. فيهم أُناس اعرفهم بالاسم ، وآخرين لا اعرفهم .. يأتون الى مركز المدينة لمراجعة الاطباء او يحرقوا ساعات النهار في البحث عن فرص عمل في مختلف المهن ، وحتى المهينة منها ، ومع ذلك لم يتمكنوا من ابعاد شبح الجوع ، والفقر عن عوائلهم .. !
اغمض عينيّ ، واسترخي ، واغرق في همومي ، يبقى الباص رابضاً يرفض الحركة رغم امتلائه ، وكأنه لا يشبع من استقبال المزيد من الركاب ، يصاب الجميع بالملل ، ويبدؤون في الهمهمة والتساؤل ، فيتعالى صياحهم مطالبين السائق بالحركة .. أخيراً ينطلق الباص .. متحركاً بتثاقل وهو ينوء بحمله الثقيل .. ! تتراجع المدينة تدريجياً الى الوراء كلما واصلنا السير ، تختفي المباني العالية لتحل محلها احياء مبعثرة منسية بمن فيها ، مقامة عليها عدة اكواخ واطئة ، وصرائف متهالكة .. كأننا قد دخلنا الى عالم آخر من العتمة والبؤس !
تتسلل من النافذة هبة من هواء الليل البارد .. احس بانتعاش مفاجئ يبعث في نفسي شيئاً من نشاط .. تتسلل نقطة ضوء شاحبة من مقدمة الباص .. أدور ببصري ، واتلفت حولي محاولا ان اكتشف المكان ، يلفت نظري طفل بين السابعة ، والثامنة من العمر يجلس بجانبي ، يرتدي دشداشة وسترة ، وبيده كرة صغيرة او شئ يشبهها ، يتقاذف بها من يد الى اخرى ، ورأسه مرفوع الى اعلى ، وكأنه يحدق في فراغ لانهائي ، وعلى وجهه شبه ابتسامة .. لا اكف عن تأمل حركته ، ورغم تقارب يديه تسقط منه الكرة ، اراها تتدحرج الى مكان قريب من أقدامه ، يبقى جامداً دون ان يتحرك لالتقاطها …
ألكزه واقول في رفق : تحت قدميك .. لم يُبدي أي حركة ، كأنه لم يسمعني او كأن الامر لا يعنيه ، اتطلع اليه دون أن افهم شيئاً ، ثم يقفز رجل من مكان مجاور له ، يلتقطها بسرعة ، ويدسها في يده .. أرى شبح ابتسامة رضا على وجه الطفل .. أُردد بصري بينه ، وبين هذا الرجل الذي يبدو ، وكأنه قد قرأ افكاري ، يشير بيده مبتسماً في حركة توحي بان الطفل كفيف .. تصيبني وخزة في قلبي ، وأخرى في ضميري .. غاضبا من نفسي ، وخجلا من لحظة تسرعي ، اعتذر للرجل باشارة مني .. ! يتقبل اعتذاري بابتسامة صغيرة لا تخلو من مرارة !
تتواصل الرحلة بين التوقف ، والمسير ، والركاب المشغولون بالثرثرة التي لا تنتهي ، واثناءها يطلب من الطفل ان يجلس مكانه ليتقدم ويجلس بجانبي ، وكأنه يريد ان يفضفض عما في داخله من معاناة ، ربما ليعوض اياماً من الصمت او ربما لم يجد من يستمع الى شكواه وألمه .. يقدم نفسه على انه والده .. أُتمتم ببعض من كلمات الترحيب .. ثم يقول ، وهو يلفت انتباهي الى شعره الاشعث الذي يغزوه الشيب : اترى هذا الشيب كله من قهر هذا الطفل …
ويستمر في الحديث : لم نوفر طبيبا لم نذهب اليه على امل ان يعيدوا ولو بصيصاً من نور الى هذا الطفل المسكين .. لكن عبثا ، ذهبت كل جهودنا ادراج الرياح .. لم نتلقى الا آمالاً باهتة ووعوداً كاذبة ، ولم نترك مزارا لم نتضرع فيه ، ونقدم النذور .. ثم قال بصوت فيه همسة حنان ، وهو يبتسم : لديه عادة غريبة ، فهو لا يريد باباً موصداً في وجهه .. فاذا وجد أمامه باباً مغلقاً في البيت يبدء في الصراخ والبكاء ، فنضطر الى ترك كل الابواب مفتوحة لنعطيه الحرية التي يريدها في الحركة اثناء تجواله في البيت ، وهو اقل ما يمكن ان نفعله من اجله … ! ألاحظ على وجه الطفل ابتسامة شديدة الوداعة ، وهو يسمعنا نتحدث عنه ، ولا ادري ما الذي كان يدور في خاطره في تلك اللحظة ! يتدافع في داخلي شعور عميق بالرثاء له … !
يُكمل : نبقى نراقبه حتى لا يخرج دون ان ندري ، وبيتنا لا يبعد عن الشارع الا ببضعة امتار ، وحركة السيارات فيه لا تهدء .. اسأله عن مكان بيتهم ، فيرد : مقابل السوق ، أقول : انه لا يبعد كثيراً عن بيتنا .. يواصل : احيانا يخرج عندما يسمع صراخ الاطفال ، وهم يلعبون الكرة ، أضطر انا أو أخيه الى الخروج معه لمتابعته خوفا عليه من ان تسوقه اقدامه الى الشارع .. ! يسألني : عسى ان لا اكون قد ازعجتك ؟ أهز رأسي بالنفي .. كنت احس فعلاً بوجعه .. تهدء ملامحه قليلاً ، ثم يودع كل شئ بزفرة طويلة ساخنة .. نظرتُ من النافذة الى الشارع ، فرأيت اضواء واهنة تلوح من مكان قريب .. قلت : وصلنا .
صفحات تُطوى ، وأيام تمر .. نواصل فيها الانغماس في الحياة ، وتفاصيل شقاءها اليومي .. وأثناء عودتي يوماً الى البيت أسمع فرملة سيارة .. يصرخ الاسفلت تحت احتكاك عجلاتها .. يهرع الناس الى المكان .. يدفعهم الفضول ، والرغبة في المساعدة ، أنتفض مجارياً الاخرين .. احاول ان اتفادى الزحام الذي بدء يملأ المكان .. بقيت واقفاً في ذهول .. رأيته مكوماً على الأرض تغطي الدماء اجزاء من جسده الضئيل .. تنتابني رعدة .. عاجزاً عن التقاط انفاسي ..
يا الهي ! انه هو .. نفس السترة ، والدشداشة التي ارتفعت قليلاً لتكشف عن اطراف نحيلة ناشفة .. ونفس الشرود ، والحيرة الطفولية على وجهه .. تهرع الام الملتاعة ، والأب المصدوم الى مكان الحادث .. تشهق الام في رعب ، وهي تحملق فيه مفزوعة ، يحمله الاب بين ذراعيه ، ويضمه الى صدره ، وهو يهتف بأسمه ، ولا يتلقى الا الصدى .. ينطلقون به الى المستشفى ، وهو بين الحياة والموت .. !
أبدء في السير مذهولاً ، وأعود الى البيت مثقلاً بالالم ، وشبح المشهد يطاردني ، اتطلع الى وجهي الشاحب المتعب في المرآة .. أظل راقداً في الفراش أُعيد تجميع الاحداث .. دون نوم !
تمر الأيام ثقيلة باحداثها لم تتوقف فيها الاخبار السيئة .. حتى حل يوم حزين ، ومؤلم على الجميع عرفنا فيه أن الاطباء قد عجزوا أن يعيدوا ربطه بحركة الحياة من جديد بعد ان اصيب بنزف داخلي جراء الضربة ، فرحل عن الدنيا سريعاً ، ولم يرى منها أي شئ … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث