الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفاعل وتداخل الشعر في بهاء تجلّياته وتطوّراته في مختارات الشاعر محمد الحرز -قميص بذكريات معطوبة-

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2021 / 2 / 22
الادب والفن


كما لو أن الأرض تتوقّف على إصبع غاليليو المكسور، غير أنها تدور في بيضة الطفل الذي لا يتحدث بأصابعه؛ تمتدّ أرض الشاعر السعودي محمد الحرز مسافة ستة أيام بين جريدته التي أبعدتها أنامله قليلاً على طاولة المقهى، وفنجان القهوة الذي يطير سرب جماهير لا يأبه إن كانوا يأبهون به، إذ هو منشغلٌ عنهم بفتح أقفاص قصيدته للشّعراء، غير أن القرّاء ينسجون قطن قميص قصيدته كذلك بعيون مقلوبة، ما إن يفتح قفصها ليطير.
كثيراً ما تولّد المختارات الشعرية تساؤلاتٍ عن الغايات من إعدادها ونشرها، وبالأخص من قبل الشاعر نفسه، وكثيراً ما تفصح المختارات نفسها عن هذه الغايات، ولكنْ بلسان الطير إنْ لم يُفصح معدّها نفسه عنها في مقدّمة، وكان أيضاً شاعراً يجيد نصب الفخاخ للقارئ، مثل محمد الحرز الذي أصدر مختاراتٍ من جميع مجموعاته الشعرية السبع، تحت عنوانٍ، يكرّر أسلوبه في استخلاص عناوين مجموعاته، مأخوذ من قصيدة متضمنّة في إحدى المجموعات: "قميص بذكريات معطوبة". ويمثل هذا العنوان القصيدة المعنيّة مثلما يمثّل مجموعة القصائد المختارة التي أصبحت ذكريات لا يمكنها أن تكون ذكريات، لكونها تتنقّل وتتحوّل في قلوب القراء ونتاجات الشعراء. ويبدو أن الحرز كان محقاً، ليس في جعل قصائده حرزاً فحسب، بل في إطلاقها عاريةً من الذكرى ومُحبةًّ وشغوفةً بتلوّنها كما حرباء، وانسيابها من اليد كما سمكاتٍ ملساء لا تستطيع العيش بعيداً عن البحر: "قلتِ لي: لا تلبسه الآن /!دعْه لسهرة الليلة المقبلة. /القميص ذاته،/ ذو اللون الأزرق الفاتح. /لم أدفع به يوماً إلى المصبغة؛/ كي أزيل عنه،/ الذكرياتِ المعطوبة،/ أو الحنين/ المتيبس على ياقته. /ولم أجرّبْ/ أن ألقي به في خزانة الملابس،/ كيفما اتفق/. تجاعيده/ البارزة على الأكمام،/ لم تجرؤ على الاختباء،/ خلف خيوطه الحريرية. /كانت مشغولةً/ باصطياد القبلة الأولى/. القميص ذاته... /هو من عانق أحلامك،/ قبل أن تصل إلى نومي".
في مختاراته، يحرز محمد الحرز قصائده في سبع مجموعات على التوالي:
ــــ مختارات من ديوان "رجل يشبهني" عام1999 م: وتتضمن ستّ قصائد نثر قصيرة تستحضر عالم الموتى وعبورهم بين العالمين، ويستحضر في واحدة منها أهل الكهف، في تعبير عن أسلوبه في تركيب جملته الشعرية وتداخل قصيدته مع عوالمه:
"لو أنك حررتَ سماءً/ من يد الملائكة/ وبسطت جسدك أرضاً لها/ لو أنك. لكنت أنت ثالثهم الذي يُعرف/ بغربته في المدينة/ وأوّلهم الذي ينعس عند مدخل المسجد. ".
ــــ مختارات من ديوان "أخفّ من الريش أعمق من الألم" 2003م: وتتضمّن سبع قصائد يتبلور فيها أسلوبه أكثر في تشكيل أنساق الأسطر، وتركيب الجملة الشعرية، وتعدّد وتداخل خطاب الذات والآخر الذي هو الذات. ويتجسّد هذا أكثر في قصائد: اللمسة الأولى، بين ليلتين، كعادتي.
ـــ نصوص مختارة من ديوان "أسمال لا تتذكّر دمَ الفريسة" 2009 م، وتتضمّن تسع قصائد طويلة ملحمية بأسلوب قصيدة نثر الشاعر، تبرز بينها قصيدة "أسميتُهم واحداً واحداً" التي توحي بشعراء الشاعر وتجسّد أسلوبه في كتابة القصيدة، وقصيدة "طوفان الغريب" التي توحي بتيه بني إسرائيل وعجز الشاعر كموسى فيهم، وقصيدة "لابدّ من هاوية" التي تعكس تداخله مع الأسلاف في واقع الخلف، باستخدام التراث والمعتقدات والأساطير، وقصيدة "أنا الوصيّ" التي تعكس حالة البيئة التي تفرز الأوصياء، وقصيدة "منى" التي تعكس حالة حب الشاعر بطبقاته، وقصيدة "أنا الوحيد" التي تبرز حالة الخذلان والمصير في تمثل خطاب يوسف للأب الربّ حول إخوته، في تداخل مع مصير طرفة بن العبد.
ــــ مختارات من ديوان "سياج أقصر من الرغبات" 2013م: وتتضمّن اثني عشر قصيدة مميزة بالبساطة والقصر واختزال طول السطر إلى كلمات أو كلمة، بعد كثافة تركيب جملة القصيدة في المجموعات السابقة. وتبرز بينها قصيدة "قميص أزرق" التي استخلص الشاعر عنوان مختاراته منها. ويمكن في هذه المختارات تلمّس إيحاء موضوعات الشاعر الكبير محمود درويش فيها، حول وصايا معاملة المرأة في قصيدة "وصايا المسيح الأخيرة"، وحول الموت في قصيدة "اللعبة والموت"، ولكنْ بأسلوب الشاعر الخاص به في الشكل والمضمون:
"حين قلتُ /:اللعبة/ انتهت/ بالنسبة لي/ حيث أعدتَ كل شيء/ إلى موضعه /:القلق إلى البحر/ الحزن إلى الريح/ الفرح إلى الغيم/ الدم إلى الأشجار/ الرائحة إلى الغبار/ العظام إلى الماضي/ اليدين إلى الغابة/ الرأس إلى الأفكار/ العينين إلى المستقبل/ القلب إلى الهواء/. تفاجأت/ أن الموت/ لم يعد له دور/ يلعبه على الأرض/ عندها قلتُ لنفسي /:لن يضيرني شيء/ لو أعدتُ ترتيب اللعبة/ على مقاس خوفي. /".
ــــ مختارات من مجموعة "قصيدة مضيئة بمجاز واحد" 2015: وتتضمّن ثلاثين قصيدة، بين القصيرة جداً، والمتوسطة الطول، تنهج أسلوب التداخل مع الكتابة، اللغة، القصيدة، المعاني، الأفكار، الشعر، بالتداخل مع الحياة اليومية، الذكريات، الأحلام، والثقافة. ويبدو مجسداً في هذه المختارات همّ الشاعر في تفسير أسلوبه شعراً، من تعدّد صوت الخطاب، إلى اللغة التي تتوالد من مفرداتها الصور والتراكيب، كما في قصيدة "أنا رجل بسيط"، إلى تفاعل الشاعر مع قصيدته في "تلتقط مخيلتك بشوكة الكلمات"، إلى القلق الذي يصاحب الإبداع في قصيدة "لماذا": "الآن تذكّرت/ لماذا هذه القصيدة/ مرعوبة وخائفة؟/ لأني لم أضع كلمة الجحيم/ في مكانها المناسب./". وإلى إيصال الحرز للمجاز إلى أقاصي إمكانياته في توشيح قصيدته بالغموض والدهشة.
ــــ مختارات من ديوان "أحمل مسدسي وأتبع الليل" 2015: وتتضمّن ستاً وخمسين قصيدة قصيرة جداً، مرقّمة بأرقام من 1 إلى 56، من دون عناوين، وتتناول جوانب الحياة والحب والشعر، بذات أسلوب الشاعر في الإدهاش وقلب المفاهيم وخلق التداخلات، وتوليدات مفردات اللغة للصور في أسلوب قصيدة النثر الخالصة التي تسير بإيقاعها الخاص من دون اهتمام بنظرات القوافي المتحسّرة على خيلاء القصائد من دون قوافٍ.
ـــ مختارات من "غيابك ترك دراجته الهوائية على الباب" 2018: وتتضمّن ثلاثاً وثلاثين قصيدة، تنهج أسلوبين في قصيدة النثر: القصيرة جداً بأسلوب اللقطة، كما في "مسرب الضوء": "أتتبع مسرب هذا الضوء/ المتدفق على قلبي /أجدكِ تطعمين وحوش الغابة عتمتي .”.والطويلة التي تُدخل الحكاية في أسلوب قصيدة النثر كما في "المياه تخرج خلسةً" عن القصيدة التي ولدت. مع حفاظ الحرز على أسلوبه في تركيب الجملة الشعرية والتداخل والإدهاش في القفلات.
في مختاراته يُخلِص الشاعر الحرز كلياً لقصيدة النثر في جوهرها، ولا يحاول مزاوجة قدميها سوى بإيقاعهما الذي ترسمه عيناه من دون قوافٍ تشغله عن براءتها. لكنّه يُلبسها كذلك ثوب القصر الذي تكون فيه مراهقةً عابثةً، وثوبَ الطول الذي تكون به سيدةً تختال بالجمال، وثوب امتداد الجلال الذي تنتمي فيه إلى الملاحم. وفي هذا الإخلاص لقصيدته، يستخدم كل ما يجعلها نابضةً بالحياة، ومبهرةً في جميع ما ترتدي: من كتابةٍ آليةٍ تكسر مرايا المعاني كما الأحلام، وتركّبها في تداخلات كثيفة تُبرز القدرة، وتداخلاتٍ خفيفة تبرز الرشاقة والطيران؛ ومن ترتيبٍ موسيقي للأنساق، الرباعي منها بشكل خاص؛ ومن لغةٍ توظّف مفرداتها قابلاتٍ لتوليد الصور والتراكيب، ولمنح القصيدة أجنحةَ قيادة ذاتها؛ ومن استخدام مبطّن للسخرية العميقة التي تتبدّى في تكسير المفاهيم؛ ومن إدخالٍ للحكاية التي تضمّها إلى صالونات ما بعد الحداثة في تطوير قصيدة النثر.
ويكلّل الحرز رأس قصيدته بتاج الإدهاش النابع من قلب الصور والمفاهيم والمتعارف عليه، إلى ما يُنظر إليه بعينٍ جديدة.
وفي مختاراته التي نصل فيها إلى الغايات من نشرها على هذه الصورة، لا يبتعد الحرز في هذا عن سلوكه في كتابةِ قصيدته، حيث تتجلّى رغبته كما يبدو، عرض تجربة تطوّر قصيدة نثره من الكثافة إلى البساطة إلى السّرد في ظلال المجاز، والحفاظ على الأكثر إبهاراً في هذه التجربة،
مع تجسيدِ شعوره الوجودي كذلك مما قدّم للآخرين: "لا أريد إزعاج العالم/ كل ما أريده فقط/ هو أن أجمع أنفاسي، منذ الولادة/ في صرّة،/ قبل أن أجرّ جثتي إلى القبر.". وأكثر من ذلك ربّما، وهو ما يفعله الشعراء المبدعون القلقون: الوقوف على حافّة صفر القصيدة في "وردة الأنفاس":
لا أحمل مهمازاً/ في يدي/ أوقظ به شِعري من سباته العميق./ تركته في الكهف وحيداً،/ بعدما سئمت من هذا العمل /:كلّ ليلة/ أرمي حجراً أو حجرين/ في بئر نومه،/ ولا ترتفع المياه./ تركته وحيداً/ وجئت إليكَ/ بوردة أنفاسه؛/ لأبذرها في حديقتك الإلهية./ جئت إليك، أنتظر ولادة إلهة أخرى،/ تزيل الحجارة عن الكهف،/ وترمي نوم العالم كلّه،/ في تلك البئر.
محمد الحرز، شاعر وناقد سعودي، ولد عام 1967م. أصدر سبع مجموعات شعريّة ومجموعة مختارات شعرية من هذه المجموعات. له أعمال نقديّة هي: شعريّة الكتابة والجسد، يصرّون على البحر ـــ بالاشتراك مع عبد الله السفر، القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة، ضد الطمأنينة ـــ محاولة في بناء الذات الناقدة، الحجر والظلال ـــ الشعر والسّرد في مختبر القراءة، الهوية والذاكرة ـــ تعدد الأشكال ومسارات النقد.

محمد الحرز: "قميص بذكريات معطوبة"
خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 2021
210 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني