الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استفحال الأزمة في تونس/ جائحة كورونا وجائحة التّرويكا

الطايع الهراغي

2021 / 2 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


" إذا كان الأمير عليك خصما فليس بقابل منك الشّـهودا "
" الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصمّ ولذلك يصفهم المثل : هم الغائبون رغم الحضور"
-- الفيلسوف اليوناني هيروقليطس ( 535 ق .م / 475 ق.م ) –
خلال أحداث أيلول [ أيلول الأسود 1970 ] لمّا قرّر اجتثاث المقاومة الفلسطينيّة بدعم من أمريكا وبمباركة من إسرائيل لم يخجل الملــــك حسين، ملــك الأردن، من التّصريـح : هذا البلد إمّا أن أحكمه أو أن أحرقـه. وفــي كتابــه " طبائـع الاستبــداد ومصــارع الاستعبــاد " أورد عبد الرّحمان الكواكبي [ 1855 /1902 ] التّعريف التّالي : " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشّـرّ وأبي الظـّـلم ، وأمّـي الإسـاءة وأخـي الغـدر، وأختـي المسكنـة وابنـي الفقـر، وبنتـي البطالـة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب . وأمّا شرفـي فالمـال المـال المـال". فماذا إذا كان المستبدّ هاوي سياسة وليس محترفا ، قدره الافتتان بالتّفرّج على حشد الأزمات تفرّخ وتتوالد حتّى أصبح الغرائبيّ غير مستغرب تجسيما لقول الشّاعر أبي تمّام " على أنّها الأيّام قد صرن كلّهـا // عجائب حتّـى ليس فيها عجائب ". ذلك هو حال نخبنا الحاكمة . فرضت اللاّاستقرار وأنبتت اللاّيقين. من أكبر المحن التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمع هو أن يُـبتلى بنخبة مفتونة بمرض الغباء ، متخرّجة مـن مدرسـة التّعلّــل، العملة المفضّلة للهوّات وسمة العقل البدائيّ المسكون بلازمة تدبّـر براءة ذمّة بها يتدثـّـر ويتحصّن ، مرتعبة من زمانها ومعادية له ، في تصالح مع الجنون وفي قطيعة مع العقل. العقليّة البدائيّة تنكر وجود الأزمة ، وإذا استفحلت فالتّهوين سبيلها إن لم ترجعها إلى عوامل برّانيّة [ نظريّة المؤامرة الطّبيعيّة أو البشريّة ، حصان طروادة الذي يبرّر كـلّ فشل ]. منذ 2011 لم تتجاوز الحكومات المتناسلة تناسل الأزمات عتبة التّــدرّب على تصريف الأعمال -- وبشكل هجين -- سرعان ما تحوّل إلى تصريف الأزمات حتّى أنّ مصائب الكورونا التي أربكت العالم ستـبدو تافهـة مقارنـة بالجوائــح والنّـوازل التي راكمتهـا التّـرويكـات المتعـاقبــة واستثمرت فيهـا خـلال عشريّـة سوداء منـذ سلّــمـت الثّــورة أمرها لمن ليس منها . تمترس أرعن ، استنطاح همجيّ، تحويل السّياسة وبشكل ممنهج ومقصود إلى كابوس فتك بالأبدان ويسابق الزّمن للفتك بالأذهان، تدمير لكلّ مجالات الحياة في ما يرقى إلى مستوى الجريمة ما دام التّـصحير على أيّام بن علي أقل فظاعة ممـّا هو عليه في ضيعة ، حرّاسها بعضهم معتصم بتشريعات حوزة باردو والبعض الآخر موزّع بين معتكف بقصر قرطاج ومستجير بحاكم قرطاج. الجامع بينهم التّجلّد لتقبّـل الوحي. ...................................................................................................................
السّياسة في تونس تدار بذهنيّة المخاتلة والمغالبة -- البدائيّة بطبعها والثّـاريّة في جوهرها-- حيث غياب -- إن لم يكن تغييبا – لأيّة رؤية سياسيّة ولأدنى تبصّر يجعل التّجريب بديلا عن التّجربة، وحيث التّـقارب -- إن وُجد – وليس التّحالف، فما أبعدنا عنه -- مشدود إلى عقليّة الوليمة والغنيمة و محكوم بالنّزوة وعصيّ على كلّ منطق. النّرجسيّة كضرورة للثّـقة بالنّـفس وكخاصيّـة من خاصيّات الاعتــداد بالذّات تحوّلت إلى عقدة ضارّة بالأنا وبالآخر . لعلّ ذلك ما يفسّـر الانقلابـات الكوبرنيكيـّة والتـّـزاوج السّياسيّ بين أطراف علاقاتها في ما بينها يفوق نكدها نكد تعــايش الضّـرائـر ويفـوق تنافـرها تنافــر الأضداد التي تكابر وتكابد لكسر قانون الثالث المرفوع . المتحكمون في المشهد السّيـاسيّ شعارهم أنا الدّولة والدّولة أنا ، وبعدي فلن يكن الطـّوفان. ومن لم يكن له في الوليمة نصيب رفع شعــاره البائـس: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر. ..
..............................................................................................................
التّــدافــع والتّــراســل
آخر التّـقليعات في تونس الثورة ، التي يُـراد لها أن تكون مريضة حسّـا ومعنى كمـا وصفها ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان .." زمن البايات ، ما جادت به قريحة الرّئاسات الثلاث من إحياء لفنّ عريق هو فنّ التّرسل مترجما في تهاطل المراسلات على شاكلة الأطباق الطـّائرة بين ثالوث الحكم -- الرّئاسة والبرلمان والحكومة -- . سياسة أكثر منها سلـوك تعكـس تصـدّع العلاقــة بيــن مؤسّسات سلط القرار والتّنفيذ . تقليد تراثيّ وفي نسخة مشوّهة ، يستهزئ بالتّونسيين ويمرّغ السّياسة في وحل الغربة عن العصر والحاجة . التّرسّل في المدوّنة التّراثيّة العربيّة فــنّ قـائم الـذّات جزء منه أملاه عسر الزّمان وبعد المكان . وديوان الرّسائل لا يصله إلاّ من حسنت سيرته وذاعت شهرته وكان فارس بلاغة وصاحب إتقان وجودة في تدبيج وتطريز الرّسائل. عـرّفته قـدامة ابـن جعفر بأنّــه "صناعة ومهنة لا يحترفها إلاّ من رسخت قدمه في الأدب". وقال عنه ابن خلدون في المقدّمة
" صاحب هذه الخطّة لا بدّ أن يُـتخيّـر من أرفع طبقات النّاس وأهـل المروءة والحشمة منهم ".
................................................................................................................
أمّـا مراسـلات حـاكم قرطـاج قيس السّعيد فترجمة أمينـة لتصوّر تقليـديّ محافظ لا مكان فيه للخيال السّياسيّ -- فما بالك بالخيال السّياسـيّ المحيـّن – يغلـّــب البهـرج على الجوهـر ، تصوّر تفصله عـن عصره مسافة ضوئيّة وتفصله عن إكراهات المسؤوليّة الأولى في الدّولة امتلاكه لكلّ مقومّات الفشل ، وهي إلى التّرسـّـل الدّيوانــيّ على عهد الخلفاء أقرب وأوفى ، مراسلات صادرة من الخليفة إلى ولاّته وعمّاله على الأقاليم ، عادة ما تكون مرتبطة بالجهاد وإنفاذ الأوامر. الفرق الوحيد -- ولكنّه جوهريّ -- أنّ عمّـال سعيّد " خوارج " يرفضون الاحتكام إلى الكتاب ( الدّستور ) كما يستنطقه شيعة الرّئيس فحُــقّ في شأنهم القصاص لأنّهم ككلّ عامّة العاطفة تغلبها والعقل يجافيها .
وأمـّا مراسلات حاكـم بـاردو فبالتّـرسّل الإخوانـيّ ألصــق بما تضمّنته من " تهان " في قالب اعتراف مجانيّ -- إذن استفزازي -- بهيبة رئيــس الدّولــة ورمـز وحدتهـا وضامن استقلالها واستمراريّتها والسّاهر على احترام الدّستور، وما تخللها من عتاب ورغبة في التّلاقي والمسامرة مع إصرار على أنّ النّصّ – الدّستور— مكتف بذاته أتى على كلّ شاردة وواردة ولا يحتاج من يؤوّله.
وأمّا مراسلات " المتزلّفين لهذه الجهة أو تلك فهي التّرسّـل الوعظـيّ بعينــه استئناسا بما كان يكتبه
الأتقياء إلى الخلفاء والأمراء والولاّة للحــثّ علـى التّقـوى والـورع والرّأفة بالرّعيّة في ما يُعرف بوعّاظ السّلاطين الذين يهمسون ولا يصرّحون ويحكمهم نزوع الخليفة وأهواؤه . ولكنّ الأكثر غرائبيّة في علاقة الرّئيسين -- رئيس قرطاج ورئيس باردو-- يكمن في ما بينهما من اختــلاف شكلّـيّ والتقاء جوهـريّ ، نفـس الذهنيّة الثّــقافيّـة التّـقليديّة ، نفــس الخلفيّـة المرجعيّـة المحافظة ، نفس الهوس بالسّلطة ، يلهج سعيّد بموجب وبدونه على أنّ لتونس رئيسا واحدا أوحد ، والحال أن لا أحد نازعه في ملكه الحصريّ ، ويباهي الغنّوشي بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين .أليس البرلمان تونسيّا لحما ودما أبا عن جدّ ، من الرّأس إلى أخمص القدمين ؟ . الأوّل يكابد لتكون السّلطة مدخله إلى القبض على عالم السياسة الذي اكتشفه متاخّـرا، وتلك عقدته، والثّـاني مسكون بامتطاء صهوة السّياسة لاغتصاب السّلطة وتطويعها للتّـحكّـم لا للحكم ، وذلك مرضه.
بدعة التّراشق بسهام المراسلات لا تفوق في فداحتها بدعة التّـنابز بالقراءات الفتاويّة لفصول الدّستور والاتّكاء عليها لحجب الكارثة الحقيقية : الأزمة السّياسيّة كنتاج لفشل الطبقة الحاكمة خصوصا والنّخبة عموما . الأزمة إدانة موصوفة لكلّ الأطراف التي تتنازع السّلطة ولسياساتها اليمينيّة المتّبعة طيلة عشريّة الثورة كما تفضحه الاحتجاجات حجما وعددا وتنوّعا وشموليّة. وليست العلاقة المرضيّة التّـناحرية بين إمارة باردو وإمارة قرطاج غير الجزء الذي يحيل إلى الكلّ . .....................................................................................................
الهـرطقــات الإخوانيّـــة
مسلسل بِدع الأطراف الحاكمة لا ينتهي . صانعو الأزمة يحتجّون على الأزمة بالنّزول إلى الشّارع متسلّحين بالضّدّين : الشّكل الاستعراضيّ والمظلوميّة . الأطراف التي أعلت التّمثيليّة الانتخابيّة إلى مرتبة البيعة وشيطنت كلّ احتجاج في وجه " الشّرعيّة "باعتباره مروقـا علـى شرعيّـة المؤسّسات وتصدّت لتحرّكـات قيـل أنّ " خيـر دستور أُخـرِج للنّـاس " يضمنها ويحميها ، هــي نفسهـا التــي تستنجد بالشّارع للدّفـاع عـن الشّرعيّـة وفرضها. وهي نفسها التي كثيرا ما أدانت الاحتكام للشّارع في حسم ما ترى أنّ الفضاء الطّـبيعيّ للبتّ فيه هو المؤسّسات المنتخبة. سابقة قلّما عرفها التّاريخ إلاّ كنشاز ما دامت الاحتجاجات أيّـا كانت تمظهراتها مرتبطة في المخيّـلة العامّـة بالتّـذمّـر والتّـنديد والـرّفض والإدانة ، وغالبا ما تكون موكولة للمعارضة. أمّا أحزاب السّلطة ففعاليّاتها مرتبطة دوما بالنّزوع الاحتفاليّ الاستعراضيّ ، وحتّى نزولها إلى الشّارع في حالات اضطراريّـة ونـادرة فيكـون فـي قالـب ميليشيـويّ مرتهن بالدّفاع عن النّظام القائم [ البلطجة فـي مصـر واليمـن / الشبّيـحة فـي سوريا / رابطات حماية الثورة الجناح العنيف للنّهضة في تونس ].
..................................................................................................................
الحشد التي تؤثّـثه حركة النهضة أصالة عن نفسها وعن مريديها ونيابة عن الحزام الدّاعم للحكومة ولرئيسها أساسا، ضاهره الانتصار للشّرعيّة وهيبة المؤسّسات وحمل المتنطّعين على الالتزام بالدّستور والاحتكام إليه ، وحقيقته وجوهره تحجيم مؤسسة الرّئاسة وبالأخصّ الرّئيس وتأديب مريديه ممّـن كانـوا إلـى زمـن قريـب أحد أضلــع " الائتــلاف الثـّـوريّ" الـذي يشـدّ أزر النّهضة. .
سياسيّا يبدو أنّ احتجاج النّهضة تحكمه أبعاد وإكراهات، أوّلها تأديب الإخوة الأعداء ، حلفاء الأمس أعداء اليوم [ الكتلة الدّيمقراطيّة المرتهنة كلّيّا للرّئيس ] ، تأديب -- ككلّ إجراء عقابيّ -- لا يخلو من نزعة الانتقام من الآخر والانتصار للذات، وثانيها زعزعة المكانة الاعتباريّة التي يحوز عليها قيس سعيد بكثير من التّشفّي تكفيرا عن ذنب تزكيّـتها اللاّمشروطة واصطفافها القطيعيّ ورا ء العصفور النّادر الذي صار عصفورا شاردا يأبى أن يعود إلى " وكــره ". وثالثها نزعة التّميّــز والتّـفـرّد والظهور في صورة الطـّرف الوحيد المسؤول الغيور على إعلاء الدّستور والمؤسّسات. ورابعها طمأنة الأنصار والمريدين بأنّ عالم النّهضة -- والإسلام السّياسيّ -- بخير.
...............................................................................................................
متى يستفيق حكامنا من غيبوبتهم ؟ هو عنوان افتتاحيّة الشّروق التّونسية بتاريخ 24 / 2 / 1 202 -- جريدة شبه رسمية -- . سؤال يختزل الأزمة ويغني عن كلّ تعليق. وليس مستبعدا ولا مستغربا أن يجمع المؤرّخون في تحقيبهم لتاريخ تونس على إدراج مدّة حكم التّرويكات ضمن أحلك الفترات انسدادا.

















" إذا كان الأمير عليك خصما فليس بقابل منك الشّـهودا "
" الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصمّ ولذلك يصفهم المثل : هم الغائبون رغم الحضور"
-- الفيلسوف اليوناني هيروقليطس ( 535 ق .م / 475 ق.م ) –
خلال أحداث أيلول [ أيلول الأسود 1970 ] لمّا قرّر اجتثاث المقاومة الفلسطينيّة بدعم من أمريكا وبمباركة من إسرائيل لم يخجل الملــــك حسين، ملــك الأردن، من التّصريـح : هذا البلد إمّا أن أحكمه أو أن أحرقـه. وفــي كتابــه " طبائـع الاستبــداد ومصــارع الاستعبــاد " أورد عبد الرّحمان الكواكبي [ 1855 /1902 ] التّعريف التّالي : " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشّـرّ وأبي الظـّـلم ، وأمّـي الإسـاءة وأخـي الغـدر، وأختـي المسكنـة وابنـي الفقـر، وبنتـي البطالـة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب . وأمّا شرفـي فالمـال المـال المـال". فماذا إذا كان المستبدّ هاوي سياسة وليس محترفا ، قدره الافتتان بالتّفرّج على حشد الأزمات تفرّخ وتتوالد حتّى أصبح الغرائبيّ غير مستغرب تجسيما لقول الشّاعر أبي تمّام " على أنّها الأيّام قد صرن كلّهـا // عجائب حتّـى ليس فيها عجائب ". ذلك هو حال نخبنا الحاكمة . فرضت اللاّاستقرار وأنبتت اللاّيقين. من أكبر المحن التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمع هو أن يُـبتلى بنخبة مفتونة بمرض الغباء ، متخرّجة مـن مدرسـة التّعلّــل، العملة المفضّلة للهوّات وسمة العقل البدائيّ المسكون بلازمة تدبّـر براءة ذمّة بها يتدثـّـر ويتحصّن ، مرتعبة من زمانها ومعادية له ، في تصالح مع الجنون وفي قطيعة مع العقل. العقليّة البدائيّة تنكر وجود الأزمة ، وإذا استفحلت فالتّهوين سبيلها إن لم ترجعها إلى عوامل برّانيّة [ نظريّة المؤامرة الطّبيعيّة أو البشريّة ، حصان طروادة الذي يبرّر كـلّ فشل ]. منذ 2011 لم تتجاوز الحكومات المتناسلة تناسل الأزمات عتبة التّــدرّب على تصريف الأعمال -- وبشكل هجين -- سرعان ما تحوّل إلى تصريف الأزمات حتّى أنّ مصائب الكورونا التي أربكت العالم ستـبدو تافهـة مقارنـة بالجوائــح والنّـوازل التي راكمتهـا التّـرويكـات المتعـاقبــة واستثمرت فيهـا خـلال عشريّـة سوداء منـذ سلّــمـت الثّــورة أمرها لمن ليس منها . تمترس أرعن ، استنطاح همجيّ، تحويل السّياسة وبشكل ممنهج ومقصود إلى كابوس فتك بالأبدان ويسابق الزّمن للفتك بالأذهان، تدمير لكلّ مجالات الحياة في ما يرقى إلى مستوى الجريمة ما دام التّـصحير على أيّام بن علي أقل فظاعة ممـّا هو عليه في ضيعة ، حرّاسها بعضهم معتصم بتشريعات حوزة باردو والبعض الآخر موزّع بين معتكف بقصر قرطاج ومستجير بحاكم قرطاج. الجامع بينهم التّجلّد لتقبّـل الوحي. ...................................................................................................................
السّياسة في تونس تدار بذهنيّة المخاتلة والمغالبة -- البدائيّة بطبعها والثّـاريّة في جوهرها-- حيث غياب -- إن لم يكن تغييبا – لأيّة رؤية سياسيّة ولأدنى تبصّر يجعل التّجريب بديلا عن التّجربة، وحيث التّـقارب -- إن وُجد – وليس التّحالف، فما أبعدنا عنه -- مشدود إلى عقليّة الوليمة والغنيمة و محكوم بالنّزوة وعصيّ على كلّ منطق. النّرجسيّة كضرورة للثّـقة بالنّـفس وكخاصيّـة من خاصيّات الاعتــداد بالذّات تحوّلت إلى عقدة ضارّة بالأنا وبالآخر . لعلّ ذلك ما يفسّـر الانقلابـات الكوبرنيكيـّة والتـّـزاوج السّياسيّ بين أطراف علاقاتها في ما بينها يفوق نكدها نكد تعــايش الضّـرائـر ويفـوق تنافـرها تنافــر الأضداد التي تكابر وتكابد لكسر قانون الثالث المرفوع . المتحكمون في المشهد السّيـاسيّ شعارهم أنا الدّولة والدّولة أنا ، وبعدي فلن يكن الطـّوفان. ومن لم يكن له في الوليمة نصيب رفع شعــاره البائـس: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر. ..
..............................................................................................................
التّــدافــع والتّــراســل
آخر التّـقليعات في تونس الثورة ، التي يُـراد لها أن تكون مريضة حسّـا ومعنى كمـا وصفها ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان .." زمن البايات ، ما جادت به قريحة الرّئاسات الثلاث من إحياء لفنّ عريق هو فنّ التّرسل مترجما في تهاطل المراسلات على شاكلة الأطباق الطـّائرة بين ثالوث الحكم -- الرّئاسة والبرلمان والحكومة -- . سياسة أكثر منها سلـوك تعكـس تصـدّع العلاقــة بيــن مؤسّسات سلط القرار والتّنفيذ . تقليد تراثيّ وفي نسخة مشوّهة ، يستهزئ بالتّونسيين ويمرّغ السّياسة في وحل الغربة عن العصر والحاجة . التّرسّل في المدوّنة التّراثيّة العربيّة فــنّ قـائم الـذّات جزء منه أملاه عسر الزّمان وبعد المكان . وديوان الرّسائل لا يصله إلاّ من حسنت سيرته وذاعت شهرته وكان فارس بلاغة وصاحب إتقان وجودة في تدبيج وتطريز الرّسائل. عـرّفته قـدامة ابـن جعفر بأنّــه "صناعة ومهنة لا يحترفها إلاّ من رسخت قدمه في الأدب". وقال عنه ابن خلدون في المقدّمة
" صاحب هذه الخطّة لا بدّ أن يُـتخيّـر من أرفع طبقات النّاس وأهـل المروءة والحشمة منهم ".
................................................................................................................
أمّـا مراسـلات حـاكم قرطـاج قيس السّعيد فترجمة أمينـة لتصوّر تقليـديّ محافظ لا مكان فيه للخيال السّياسيّ -- فما بالك بالخيال السّياسـيّ المحيـّن – يغلـّــب البهـرج على الجوهـر ، تصوّر تفصله عـن عصره مسافة ضوئيّة وتفصله عن إكراهات المسؤوليّة الأولى في الدّولة امتلاكه لكلّ مقومّات الفشل ، وهي إلى التّرسـّـل الدّيوانــيّ على عهد الخلفاء أقرب وأوفى ، مراسلات صادرة من الخليفة إلى ولاّته وعمّاله على الأقاليم ، عادة ما تكون مرتبطة بالجهاد وإنفاذ الأوامر. الفرق الوحيد -- ولكنّه جوهريّ -- أنّ عمّـال سعيّد " خوارج " يرفضون الاحتكام إلى الكتاب ( الدّستور ) كما يستنطقه شيعة الرّئيس فحُــقّ في شأنهم القصاص لأنّهم ككلّ عامّة العاطفة تغلبها والعقل يجافيها .
وأمـّا مراسلات حاكـم بـاردو فبالتّـرسّل الإخوانـيّ ألصــق بما تضمّنته من " تهان " في قالب اعتراف مجانيّ -- إذن استفزازي -- بهيبة رئيــس الدّولــة ورمـز وحدتهـا وضامن استقلالها واستمراريّتها والسّاهر على احترام الدّستور، وما تخللها من عتاب ورغبة في التّلاقي والمسامرة مع إصرار على أنّ النّصّ – الدّستور— مكتف بذاته أتى على كلّ شاردة وواردة ولا يحتاج من يؤوّله.
وأمّا مراسلات " المتزلّفين لهذه الجهة أو تلك فهي التّرسّـل الوعظـيّ بعينــه استئناسا بما كان يكتبه
الأتقياء إلى الخلفاء والأمراء والولاّة للحــثّ علـى التّقـوى والـورع والرّأفة بالرّعيّة في ما يُعرف بوعّاظ السّلاطين الذين يهمسون ولا يصرّحون ويحكمهم نزوع الخليفة وأهواؤه . ولكنّ الأكثر غرائبيّة في علاقة الرّئيسين -- رئيس قرطاج ورئيس باردو-- يكمن في ما بينهما من اختــلاف شكلّـيّ والتقاء جوهـريّ ، نفـس الذهنيّة الثّــقافيّـة التّـقليديّة ، نفــس الخلفيّـة المرجعيّـة المحافظة ، نفس الهوس بالسّلطة ، يلهج سعيّد بموجب وبدونه على أنّ لتونس رئيسا واحدا أوحد ، والحال أن لا أحد نازعه في ملكه الحصريّ ، ويباهي الغنّوشي بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين .أليس البرلمان تونسيّا لحما ودما أبا عن جدّ ، من الرّأس إلى أخمص القدمين ؟ . الأوّل يكابد لتكون السّلطة مدخله إلى القبض على عالم السياسة الذي اكتشفه متاخّـرا، وتلك عقدته، والثّـاني مسكون بامتطاء صهوة السّياسة لاغتصاب السّلطة وتطويعها للتّـحكّـم لا للحكم ، وذلك مرضه.
بدعة التّراشق بسهام المراسلات لا تفوق في فداحتها بدعة التّـنابز بالقراءات الفتاويّة لفصول الدّستور والاتّكاء عليها لحجب الكارثة الحقيقية : الأزمة السّياسيّة كنتاج لفشل الطبقة الحاكمة خصوصا والنّخبة عموما . الأزمة إدانة موصوفة لكلّ الأطراف التي تتنازع السّلطة ولسياساتها اليمينيّة المتّبعة طيلة عشريّة الثورة كما تفضحه الاحتجاجات حجما وعددا وتنوّعا وشموليّة. وليست العلاقة المرضيّة التّـناحرية بين إمارة باردو وإمارة قرطاج غير الجزء الذي يحيل إلى الكلّ . .....................................................................................................
الهـرطقــات الإخوانيّـــة
مسلسل بِدع الأطراف الحاكمة لا ينتهي . صانعو الأزمة يحتجّون على الأزمة بالنّزول إلى الشّارع متسلّحين بالضّدّين : الشّكل الاستعراضيّ والمظلوميّة . الأطراف التي أعلت التّمثيليّة الانتخابيّة إلى مرتبة البيعة وشيطنت كلّ احتجاج في وجه " الشّرعيّة "باعتباره مروقـا علـى شرعيّـة المؤسّسات وتصدّت لتحرّكـات قيـل أنّ " خيـر دستور أُخـرِج للنّـاس " يضمنها ويحميها ، هــي نفسهـا التــي تستنجد بالشّارع للدّفـاع عـن الشّرعيّـة وفرضها. وهي نفسها التي كثيرا ما أدانت الاحتكام للشّارع في حسم ما ترى أنّ الفضاء الطّـبيعيّ للبتّ فيه هو المؤسّسات المنتخبة. سابقة قلّما عرفها التّاريخ إلاّ كنشاز ما دامت الاحتجاجات أيّـا كانت تمظهراتها مرتبطة في المخيّـلة العامّـة بالتّـذمّـر والتّـنديد والـرّفض والإدانة ، وغالبا ما تكون موكولة للمعارضة. أمّا أحزاب السّلطة ففعاليّاتها مرتبطة دوما بالنّزوع الاحتفاليّ الاستعراضيّ ، وحتّى نزولها إلى الشّارع في حالات اضطراريّـة ونـادرة فيكـون فـي قالـب ميليشيـويّ مرتهن بالدّفاع عن النّظام القائم [ البلطجة فـي مصـر واليمـن / الشبّيـحة فـي سوريا / رابطات حماية الثورة الجناح العنيف للنّهضة في تونس ].
..................................................................................................................
الحشد التي تؤثّـثه حركة النهضة أصالة عن نفسها وعن مريديها ونيابة عن الحزام الدّاعم للحكومة ولرئيسها أساسا، ضاهره الانتصار للشّرعيّة وهيبة المؤسّسات وحمل المتنطّعين على الالتزام بالدّستور والاحتكام إليه ، وحقيقته وجوهره تحجيم مؤسسة الرّئاسة وبالأخصّ الرّئيس وتأديب مريديه ممّـن كانـوا إلـى زمـن قريـب أحد أضلــع " الائتــلاف الثـّـوريّ" الـذي يشـدّ أزر النّهضة. .
سياسيّا يبدو أنّ احتجاج النّهضة تحكمه أبعاد وإكراهات، أوّلها تأديب الإخوة الأعداء ، حلفاء الأمس أعداء اليوم [ الكتلة الدّيمقراطيّة المرتهنة كلّيّا للرّئيس ] ، تأديب -- ككلّ إجراء عقابيّ -- لا يخلو من نزعة الانتقام من الآخر والانتصار للذات، وثانيها زعزعة المكانة الاعتباريّة التي يحوز عليها قيس سعيد بكثير من التّشفّي تكفيرا عن ذنب تزكيّـتها اللاّمشروطة واصطفافها القطيعيّ ورا ء العصفور النّادر الذي صار عصفورا شاردا يأبى أن يعود إلى " وكــره ". وثالثها نزعة التّميّــز والتّـفـرّد والظهور في صورة الطـّرف الوحيد المسؤول الغيور على إعلاء الدّستور والمؤسّسات. ورابعها طمأنة الأنصار والمريدين بأنّ عالم النّهضة -- والإسلام السّياسيّ -- بخير.
...............................................................................................................
متى يستفيق حكامنا من غيبوبتهم ؟ هو عنوان افتتاحيّة الشّروق التّونسية بتاريخ 24 / 2 / 1 202 -- جريدة شبه رسمية -- . سؤال يختزل الأزمة ويغني عن كلّ تعليق. وليس مستبعدا ولا مستغربا أن يجمع المؤرّخون في تحقيبهم لتاريخ تونس على إدراج مدّة حكم التّرويكات ضمن أحلك الفترات انسدادا.















" إذا كان الأمير عليك خصما فليس بقابل منك الشّـهودا "
" الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصمّ ولذلك يصفهم المثل : هم الغائبون رغم الحضور"
-- الفيلسوف اليوناني هيروقليطس ( 535 ق .م / 475 ق.م ) –
خلال أحداث أيلول [ أيلول الأسود 1970 ] لمّا قرّر اجتثاث المقاومة الفلسطينيّة بدعم من أمريكا وبمباركة من إسرائيل لم يخجل الملــــك حسين، ملــك الأردن، من التّصريـح : هذا البلد إمّا أن أحكمه أو أن أحرقـه. وفــي كتابــه " طبائـع الاستبــداد ومصــارع الاستعبــاد " أورد عبد الرّحمان الكواكبي [ 1855 /1902 ] التّعريف التّالي : " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشّـرّ وأبي الظـّـلم ، وأمّـي الإسـاءة وأخـي الغـدر، وأختـي المسكنـة وابنـي الفقـر، وبنتـي البطالـة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب . وأمّا شرفـي فالمـال المـال المـال". فماذا إذا كان المستبدّ هاوي سياسة وليس محترفا ، قدره الافتتان بالتّفرّج على حشد الأزمات تفرّخ وتتوالد حتّى أصبح الغرائبيّ غير مستغرب تجسيما لقول الشّاعر أبي تمّام " على أنّها الأيّام قد صرن كلّهـا // عجائب حتّـى ليس فيها عجائب ". ذلك هو حال نخبنا الحاكمة . فرضت اللاّاستقرار وأنبتت اللاّيقين. من أكبر المحن التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمع هو أن يُـبتلى بنخبة مفتونة بمرض الغباء ، متخرّجة مـن مدرسـة التّعلّــل، العملة المفضّلة للهوّات وسمة العقل البدائيّ المسكون بلازمة تدبّـر براءة ذمّة بها يتدثـّـر ويتحصّن ، مرتعبة من زمانها ومعادية له ، في تصالح مع الجنون وفي قطيعة مع العقل. العقليّة البدائيّة تنكر وجود الأزمة ، وإذا استفحلت فالتّهوين سبيلها إن لم ترجعها إلى عوامل برّانيّة [ نظريّة المؤامرة الطّبيعيّة أو البشريّة ، حصان طروادة الذي يبرّر كـلّ فشل ]. منذ 2011 لم تتجاوز الحكومات المتناسلة تناسل الأزمات عتبة التّــدرّب على تصريف الأعمال -- وبشكل هجين -- سرعان ما تحوّل إلى تصريف الأزمات حتّى أنّ مصائب الكورونا التي أربكت العالم ستـبدو تافهـة مقارنـة بالجوائــح والنّـوازل التي راكمتهـا التّـرويكـات المتعـاقبــة واستثمرت فيهـا خـلال عشريّـة سوداء منـذ سلّــمـت الثّــورة أمرها لمن ليس منها . تمترس أرعن ، استنطاح همجيّ، تحويل السّياسة وبشكل ممنهج ومقصود إلى كابوس فتك بالأبدان ويسابق الزّمن للفتك بالأذهان، تدمير لكلّ مجالات الحياة في ما يرقى إلى مستوى الجريمة ما دام التّـصحير على أيّام بن علي أقل فظاعة ممـّا هو عليه في ضيعة ، حرّاسها بعضهم معتصم بتشريعات حوزة باردو والبعض الآخر موزّع بين معتكف بقصر قرطاج ومستجير بحاكم قرطاج. الجامع بينهم التّجلّد لتقبّـل الوحي. ...................................................................................................................
السّياسة في تونس تدار بذهنيّة المخاتلة والمغالبة -- البدائيّة بطبعها والثّـاريّة في جوهرها-- حيث غياب -- إن لم يكن تغييبا – لأيّة رؤية سياسيّة ولأدنى تبصّر يجعل التّجريب بديلا عن التّجربة، وحيث التّـقارب -- إن وُجد – وليس التّحالف، فما أبعدنا عنه -- مشدود إلى عقليّة الوليمة والغنيمة و محكوم بالنّزوة وعصيّ على كلّ منطق. النّرجسيّة كضرورة للثّـقة بالنّـفس وكخاصيّـة من خاصيّات الاعتــداد بالذّات تحوّلت إلى عقدة ضارّة بالأنا وبالآخر . لعلّ ذلك ما يفسّـر الانقلابـات الكوبرنيكيـّة والتـّـزاوج السّياسيّ بين أطراف علاقاتها في ما بينها يفوق نكدها نكد تعــايش الضّـرائـر ويفـوق تنافـرها تنافــر الأضداد التي تكابر وتكابد لكسر قانون الثالث المرفوع . المتحكمون في المشهد السّيـاسيّ شعارهم أنا الدّولة والدّولة أنا ، وبعدي فلن يكن الطـّوفان. ومن لم يكن له في الوليمة نصيب رفع شعــاره البائـس: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر. ..
..............................................................................................................
التّــدافــع والتّــراســل
آخر التّـقليعات في تونس الثورة ، التي يُـراد لها أن تكون مريضة حسّـا ومعنى كمـا وصفها ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان .." زمن البايات ، ما جادت به قريحة الرّئاسات الثلاث من إحياء لفنّ عريق هو فنّ التّرسل مترجما في تهاطل المراسلات على شاكلة الأطباق الطـّائرة بين ثالوث الحكم -- الرّئاسة والبرلمان والحكومة -- . سياسة أكثر منها سلـوك تعكـس تصـدّع العلاقــة بيــن مؤسّسات سلط القرار والتّنفيذ . تقليد تراثيّ وفي نسخة مشوّهة ، يستهزئ بالتّونسيين ويمرّغ السّياسة في وحل الغربة عن العصر والحاجة . التّرسّل في المدوّنة التّراثيّة العربيّة فــنّ قـائم الـذّات جزء منه أملاه عسر الزّمان وبعد المكان . وديوان الرّسائل لا يصله إلاّ من حسنت سيرته وذاعت شهرته وكان فارس بلاغة وصاحب إتقان وجودة في تدبيج وتطريز الرّسائل. عـرّفته قـدامة ابـن جعفر بأنّــه "صناعة ومهنة لا يحترفها إلاّ من رسخت قدمه في الأدب". وقال عنه ابن خلدون في المقدّمة
" صاحب هذه الخطّة لا بدّ أن يُـتخيّـر من أرفع طبقات النّاس وأهـل المروءة والحشمة منهم ".
................................................................................................................
أمّـا مراسـلات حـاكم قرطـاج قيس السّعيد فترجمة أمينـة لتصوّر تقليـديّ محافظ لا مكان فيه للخيال السّياسيّ -- فما بالك بالخيال السّياسـيّ المحيـّن – يغلـّــب البهـرج على الجوهـر ، تصوّر تفصله عـن عصره مسافة ضوئيّة وتفصله عن إكراهات المسؤوليّة الأولى في الدّولة امتلاكه لكلّ مقومّات الفشل ، وهي إلى التّرسـّـل الدّيوانــيّ على عهد الخلفاء أقرب وأوفى ، مراسلات صادرة من الخليفة إلى ولاّته وعمّاله على الأقاليم ، عادة ما تكون مرتبطة بالجهاد وإنفاذ الأوامر. الفرق الوحيد -- ولكنّه جوهريّ -- أنّ عمّـال سعيّد " خوارج " يرفضون الاحتكام إلى الكتاب ( الدّستور ) كما يستنطقه شيعة الرّئيس فحُــقّ في شأنهم القصاص لأنّهم ككلّ عامّة العاطفة تغلبها والعقل يجافيها .
وأمـّا مراسلات حاكـم بـاردو فبالتّـرسّل الإخوانـيّ ألصــق بما تضمّنته من " تهان " في قالب اعتراف مجانيّ -- إذن استفزازي -- بهيبة رئيــس الدّولــة ورمـز وحدتهـا وضامن استقلالها واستمراريّتها والسّاهر على احترام الدّستور، وما تخللها من عتاب ورغبة في التّلاقي والمسامرة مع إصرار على أنّ النّصّ – الدّستور— مكتف بذاته أتى على كلّ شاردة وواردة ولا يحتاج من يؤوّله.
وأمّا مراسلات " المتزلّفين لهذه الجهة أو تلك فهي التّرسّـل الوعظـيّ بعينــه استئناسا بما كان يكتبه
الأتقياء إلى الخلفاء والأمراء والولاّة للحــثّ علـى التّقـوى والـورع والرّأفة بالرّعيّة في ما يُعرف بوعّاظ السّلاطين الذين يهمسون ولا يصرّحون ويحكمهم نزوع الخليفة وأهواؤه . ولكنّ الأكثر غرائبيّة في علاقة الرّئيسين -- رئيس قرطاج ورئيس باردو-- يكمن في ما بينهما من اختــلاف شكلّـيّ والتقاء جوهـريّ ، نفـس الذهنيّة الثّــقافيّـة التّـقليديّة ، نفــس الخلفيّـة المرجعيّـة المحافظة ، نفس الهوس بالسّلطة ، يلهج سعيّد بموجب وبدونه على أنّ لتونس رئيسا واحدا أوحد ، والحال أن لا أحد نازعه في ملكه الحصريّ ، ويباهي الغنّوشي بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين .أليس البرلمان تونسيّا لحما ودما أبا عن جدّ ، من الرّأس إلى أخمص القدمين ؟ . الأوّل يكابد لتكون السّلطة مدخله إلى القبض على عالم السياسة الذي اكتشفه متاخّـرا، وتلك عقدته، والثّـاني مسكون بامتطاء صهوة السّياسة لاغتصاب السّلطة وتطويعها للتّـحكّـم لا للحكم ، وذلك مرضه.
بدعة التّراشق بسهام المراسلات لا تفوق في فداحتها بدعة التّـنابز بالقراءات الفتاويّة لفصول الدّستور والاتّكاء عليها لحجب الكارثة الحقيقية : الأزمة السّياسيّة كنتاج لفشل الطبقة الحاكمة خصوصا والنّخبة عموما . الأزمة إدانة موصوفة لكلّ الأطراف التي تتنازع السّلطة ولسياساتها اليمينيّة المتّبعة طيلة عشريّة الثورة كما تفضحه الاحتجاجات حجما وعددا وتنوّعا وشموليّة. وليست العلاقة المرضيّة التّـناحرية بين إمارة باردو وإمارة قرطاج غير الجزء الذي يحيل إلى الكلّ . .....................................................................................................
الهـرطقــات الإخوانيّـــة
مسلسل بِدع الأطراف الحاكمة لا ينتهي . صانعو الأزمة يحتجّون على الأزمة بالنّزول إلى الشّارع متسلّحين بالضّدّين : الشّكل الاستعراضيّ والمظلوميّة . الأطراف التي أعلت التّمثيليّة الانتخابيّة إلى مرتبة البيعة وشيطنت كلّ احتجاج في وجه " الشّرعيّة "باعتباره مروقـا علـى شرعيّـة المؤسّسات وتصدّت لتحرّكـات قيـل أنّ " خيـر دستور أُخـرِج للنّـاس " يضمنها ويحميها ، هــي نفسهـا التــي تستنجد بالشّارع للدّفـاع عـن الشّرعيّـة وفرضها. وهي نفسها التي كثيرا ما أدانت الاحتكام للشّارع في حسم ما ترى أنّ الفضاء الطّـبيعيّ للبتّ فيه هو المؤسّسات المنتخبة. سابقة قلّما عرفها التّاريخ إلاّ كنشاز ما دامت الاحتجاجات أيّـا كانت تمظهراتها مرتبطة في المخيّـلة العامّـة بالتّـذمّـر والتّـنديد والـرّفض والإدانة ، وغالبا ما تكون موكولة للمعارضة. أمّا أحزاب السّلطة ففعاليّاتها مرتبطة دوما بالنّزوع الاحتفاليّ الاستعراضيّ ، وحتّى نزولها إلى الشّارع في حالات اضطراريّـة ونـادرة فيكـون فـي قالـب ميليشيـويّ مرتهن بالدّفاع عن النّظام القائم [ البلطجة فـي مصـر واليمـن / الشبّيـحة فـي سوريا / رابطات حماية الثورة الجناح العنيف للنّهضة في تونس ].
..................................................................................................................
الحشد التي تؤثّـثه حركة النهضة أصالة عن نفسها وعن مريديها ونيابة عن الحزام الدّاعم للحكومة ولرئيسها أساسا، ضاهره الانتصار للشّرعيّة وهيبة المؤسّسات وحمل المتنطّعين على الالتزام بالدّستور والاحتكام إليه ، وحقيقته وجوهره تحجيم مؤسسة الرّئاسة وبالأخصّ الرّئيس وتأديب مريديه ممّـن كانـوا إلـى زمـن قريـب أحد أضلــع " الائتــلاف الثـّـوريّ" الـذي يشـدّ أزر النّهضة. .
سياسيّا يبدو أنّ احتجاج النّهضة تحكمه أبعاد وإكراهات، أوّلها تأديب الإخوة الأعداء ، حلفاء الأمس أعداء اليوم [ الكتلة الدّيمقراطيّة المرتهنة كلّيّا للرّئيس ] ، تأديب -- ككلّ إجراء عقابيّ -- لا يخلو من نزعة الانتقام من الآخر والانتصار للذات، وثانيها زعزعة المكانة الاعتباريّة التي يحوز عليها قيس سعيد بكثير من التّشفّي تكفيرا عن ذنب تزكيّـتها اللاّمشروطة واصطفافها القطيعيّ ورا ء العصفور النّادر الذي صار عصفورا شاردا يأبى أن يعود إلى " وكــره ". وثالثها نزعة التّميّــز والتّـفـرّد والظهور في صورة الطـّرف الوحيد المسؤول الغيور على إعلاء الدّستور والمؤسّسات. ورابعها طمأنة الأنصار والمريدين بأنّ عالم النّهضة -- والإسلام السّياسيّ -- بخير.
...............................................................................................................
متى يستفيق حكامنا من غيبوبتهم ؟ هو عنوان افتتاحيّة الشّروق التّونسية بتاريخ 24 / 2 / 1 202 -- جريدة شبه رسمية -- . سؤال يختزل الأزمة ويغني عن كلّ تعليق. وليس مستبعدا ولا مستغربا أن يجمع المؤرّخون في تحقيبهم لتاريخ تونس على إدراج مدّة حكم التّرويكات ضمن أحلك الفترات انسدادا.








" إذا كان الأمير عليك خصما فليس بقابل منك الشّـهودا "
" الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصمّ ولذلك يصفهم المثل : هم الغائبون رغم الحضور"
-- الفيلسوف اليوناني هيروقليطس ( 535 ق .م / 475 ق.م ) –
خلال أحداث أيلول [ أيلول الأسود 1970 ] لمّا قرّر اجتثاث المقاومة الفلسطينيّة بدعم من أمريكا وبمباركة من إسرائيل لم يخجل الملــــك حسين، ملــك الأردن، من التّصريـح : هذا البلد إمّا أن أحكمه أو أن أحرقـه. وفــي كتابــه " طبائـع الاستبــداد ومصــارع الاستعبــاد " أورد عبد الرّحمان الكواكبي [ 1855 /1902 ] التّعريف التّالي : " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشّـرّ وأبي الظـّـلم ، وأمّـي الإسـاءة وأخـي الغـدر، وأختـي المسكنـة وابنـي الفقـر، وبنتـي البطالـة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب . وأمّا شرفـي فالمـال المـال المـال". فماذا إذا كان المستبدّ هاوي سياسة وليس محترفا ، قدره الافتتان بالتّفرّج على حشد الأزمات تفرّخ وتتوالد حتّى أصبح الغرائبيّ غير مستغرب تجسيما لقول الشّاعر أبي تمّام " على أنّها الأيّام قد صرن كلّهـا // عجائب حتّـى ليس فيها عجائب ". ذلك هو حال نخبنا الحاكمة . فرضت اللاّاستقرار وأنبتت اللاّيقين. من أكبر المحن التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمع هو أن يُـبتلى بنخبة مفتونة بمرض الغباء ، متخرّجة مـن مدرسـة التّعلّــل، العملة المفضّلة للهوّات وسمة العقل البدائيّ المسكون بلازمة تدبّـر براءة ذمّة بها يتدثـّـر ويتحصّن ، مرتعبة من زمانها ومعادية له ، في تصالح مع الجنون وفي قطيعة مع العقل. العقليّة البدائيّة تنكر وجود الأزمة ، وإذا استفحلت فالتّهوين سبيلها إن لم ترجعها إلى عوامل برّانيّة [ نظريّة المؤامرة الطّبيعيّة أو البشريّة ، حصان طروادة الذي يبرّر كـلّ فشل ]. منذ 2011 لم تتجاوز الحكومات المتناسلة تناسل الأزمات عتبة التّــدرّب على تصريف الأعمال -- وبشكل هجين -- سرعان ما تحوّل إلى تصريف الأزمات حتّى أنّ مصائب الكورونا التي أربكت العالم ستـبدو تافهـة مقارنـة بالجوائــح والنّـوازل التي راكمتهـا التّـرويكـات المتعـاقبــة واستثمرت فيهـا خـلال عشريّـة سوداء منـذ سلّــمـت الثّــورة أمرها لمن ليس منها . تمترس أرعن ، استنطاح همجيّ، تحويل السّياسة وبشكل ممنهج ومقصود إلى كابوس فتك بالأبدان ويسابق الزّمن للفتك بالأذهان، تدمير لكلّ مجالات الحياة في ما يرقى إلى مستوى الجريمة ما دام التّـصحير على أيّام بن علي أقل فظاعة ممـّا هو عليه في ضيعة ، حرّاسها بعضهم معتصم بتشريعات حوزة باردو والبعض الآخر موزّع بين معتكف بقصر قرطاج ومستجير بحاكم قرطاج. الجامع بينهم التّجلّد لتقبّـل الوحي. ...................................................................................................................
السّياسة في تونس تدار بذهنيّة المخاتلة والمغالبة -- البدائيّة بطبعها والثّـاريّة في جوهرها-- حيث غياب -- إن لم يكن تغييبا – لأيّة رؤية سياسيّة ولأدنى تبصّر يجعل التّجريب بديلا عن التّجربة، وحيث التّـقارب -- إن وُجد – وليس التّحالف، فما أبعدنا عنه -- مشدود إلى عقليّة الوليمة والغنيمة و محكوم بالنّزوة وعصيّ على كلّ منطق. النّرجسيّة كضرورة للثّـقة بالنّـفس وكخاصيّـة من خاصيّات الاعتــداد بالذّات تحوّلت إلى عقدة ضارّة بالأنا وبالآخر . لعلّ ذلك ما يفسّـر الانقلابـات الكوبرنيكيـّة والتـّـزاوج السّياسيّ بين أطراف علاقاتها في ما بينها يفوق نكدها نكد تعــايش الضّـرائـر ويفـوق تنافـرها تنافــر الأضداد التي تكابر وتكابد لكسر قانون الثالث المرفوع . المتحكمون في المشهد السّيـاسيّ شعارهم أنا الدّولة والدّولة أنا ، وبعدي فلن يكن الطـّوفان. ومن لم يكن له في الوليمة نصيب رفع شعــاره البائـس: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر. ..
..............................................................................................................
التّــدافــع والتّــراســل
آخر التّـقليعات في تونس الثورة ، التي يُـراد لها أن تكون مريضة حسّـا ومعنى كمـا وصفها ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان .." زمن البايات ، ما جادت به قريحة الرّئاسات الثلاث من إحياء لفنّ عريق هو فنّ التّرسل مترجما في تهاطل المراسلات على شاكلة الأطباق الطـّائرة بين ثالوث الحكم -- الرّئاسة والبرلمان والحكومة -- . سياسة أكثر منها سلـوك تعكـس تصـدّع العلاقــة بيــن مؤسّسات سلط القرار والتّنفيذ . تقليد تراثيّ وفي نسخة مشوّهة ، يستهزئ بالتّونسيين ويمرّغ السّياسة في وحل الغربة عن العصر والحاجة . التّرسّل في المدوّنة التّراثيّة العربيّة فــنّ قـائم الـذّات جزء منه أملاه عسر الزّمان وبعد المكان . وديوان الرّسائل لا يصله إلاّ من حسنت سيرته وذاعت شهرته وكان فارس بلاغة وصاحب إتقان وجودة في تدبيج وتطريز الرّسائل. عـرّفته قـدامة ابـن جعفر بأنّــه "صناعة ومهنة لا يحترفها إلاّ من رسخت قدمه في الأدب". وقال عنه ابن خلدون في المقدّمة
" صاحب هذه الخطّة لا بدّ أن يُـتخيّـر من أرفع طبقات النّاس وأهـل المروءة والحشمة منهم ".
................................................................................................................
أمّـا مراسـلات حـاكم قرطـاج قيس السّعيد فترجمة أمينـة لتصوّر تقليـديّ محافظ لا مكان فيه للخيال السّياسيّ -- فما بالك بالخيال السّياسـيّ المحيـّن – يغلـّــب البهـرج على الجوهـر ، تصوّر تفصله عـن عصره مسافة ضوئيّة وتفصله عن إكراهات المسؤوليّة الأولى في الدّولة امتلاكه لكلّ مقومّات الفشل ، وهي إلى التّرسـّـل الدّيوانــيّ على عهد الخلفاء أقرب وأوفى ، مراسلات صادرة من الخليفة إلى ولاّته وعمّاله على الأقاليم ، عادة ما تكون مرتبطة بالجهاد وإنفاذ الأوامر. الفرق الوحيد -- ولكنّه جوهريّ -- أنّ عمّـال سعيّد " خوارج " يرفضون الاحتكام إلى الكتاب ( الدّستور ) كما يستنطقه شيعة الرّئيس فحُــقّ في شأنهم القصاص لأنّهم ككلّ عامّة العاطفة تغلبها والعقل يجافيها .
وأمـّا مراسلات حاكـم بـاردو فبالتّـرسّل الإخوانـيّ ألصــق بما تضمّنته من " تهان " في قالب اعتراف مجانيّ -- إذن استفزازي -- بهيبة رئيــس الدّولــة ورمـز وحدتهـا وضامن استقلالها واستمراريّتها والسّاهر على احترام الدّستور، وما تخللها من عتاب ورغبة في التّلاقي والمسامرة مع إصرار على أنّ النّصّ – الدّستور— مكتف بذاته أتى على كلّ شاردة وواردة ولا يحتاج من يؤوّله.
وأمّا مراسلات " المتزلّفين لهذه الجهة أو تلك فهي التّرسّـل الوعظـيّ بعينــه استئناسا بما كان يكتبه
الأتقياء إلى الخلفاء والأمراء والولاّة للحــثّ علـى التّقـوى والـورع والرّأفة بالرّعيّة في ما يُعرف بوعّاظ السّلاطين الذين يهمسون ولا يصرّحون ويحكمهم نزوع الخليفة وأهواؤه . ولكنّ الأكثر غرائبيّة في علاقة الرّئيسين -- رئيس قرطاج ورئيس باردو-- يكمن في ما بينهما من اختــلاف شكلّـيّ والتقاء جوهـريّ ، نفـس الذهنيّة الثّــقافيّـة التّـقليديّة ، نفــس الخلفيّـة المرجعيّـة المحافظة ، نفس الهوس بالسّلطة ، يلهج سعيّد بموجب وبدونه على أنّ لتونس رئيسا واحدا أوحد ، والحال أن لا أحد نازعه في ملكه الحصريّ ، ويباهي الغنّوشي بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين .أليس البرلمان تونسيّا لحما ودما أبا عن جدّ ، من الرّأس إلى أخمص القدمين ؟ . الأوّل يكابد لتكون السّلطة مدخله إلى القبض على عالم السياسة الذي اكتشفه متاخّـرا، وتلك عقدته، والثّـاني مسكون بامتطاء صهوة السّياسة لاغتصاب السّلطة وتطويعها للتّـحكّـم لا للحكم ، وذلك مرضه.
بدعة التّراشق بسهام المراسلات لا تفوق في فداحتها بدعة التّـنابز بالقراءات الفتاويّة لفصول الدّستور والاتّكاء عليها لحجب الكارثة الحقيقية : الأزمة السّياسيّة كنتاج لفشل الطبقة الحاكمة خصوصا والنّخبة عموما . الأزمة إدانة موصوفة لكلّ الأطراف التي تتنازع السّلطة ولسياساتها اليمينيّة المتّبعة طيلة عشريّة الثورة كما تفضحه الاحتجاجات حجما وعددا وتنوّعا وشموليّة. وليست العلاقة المرضيّة التّـناحرية بين إمارة باردو وإمارة قرطاج غير الجزء الذي يحيل إلى الكلّ . .....................................................................................................
الهـرطقــات الإخوانيّـــة
مسلسل بِدع الأطراف الحاكمة لا ينتهي . صانعو الأزمة يحتجّون على الأزمة بالنّزول إلى الشّارع متسلّحين بالضّدّين : الشّكل الاستعراضيّ والمظلوميّة . الأطراف التي أعلت التّمثيليّة الانتخابيّة إلى مرتبة البيعة وشيطنت كلّ احتجاج في وجه " الشّرعيّة "باعتباره مروقـا علـى شرعيّـة المؤسّسات وتصدّت لتحرّكـات قيـل أنّ " خيـر دستور أُخـرِج للنّـاس " يضمنها ويحميها ، هــي نفسهـا التــي تستنجد بالشّارع للدّفـاع عـن الشّرعيّـة وفرضها. وهي نفسها التي كثيرا ما أدانت الاحتكام للشّارع في حسم ما ترى أنّ الفضاء الطّـبيعيّ للبتّ فيه هو المؤسّسات المنتخبة. سابقة قلّما عرفها التّاريخ إلاّ كنشاز ما دامت الاحتجاجات أيّـا كانت تمظهراتها مرتبطة في المخيّـلة العامّـة بالتّـذمّـر والتّـنديد والـرّفض والإدانة ، وغالبا ما تكون موكولة للمعارضة. أمّا أحزاب السّلطة ففعاليّاتها مرتبطة دوما بالنّزوع الاحتفاليّ الاستعراضيّ ، وحتّى نزولها إلى الشّارع في حالات اضطراريّـة ونـادرة فيكـون فـي قالـب ميليشيـويّ مرتهن بالدّفاع عن النّظام القائم [ البلطجة فـي مصـر واليمـن / الشبّيـحة فـي سوريا / رابطات حماية الثورة الجناح العنيف للنّهضة في تونس ].
..................................................................................................................
الحشد التي تؤثّـثه حركة النهضة أصالة عن نفسها وعن مريديها ونيابة عن الحزام الدّاعم للحكومة ولرئيسها أساسا، ضاهره الانتصار للشّرعيّة وهيبة المؤسّسات وحمل المتنطّعين على الالتزام بالدّستور والاحتكام إليه ، وحقيقته وجوهره تحجيم مؤسسة الرّئاسة وبالأخصّ الرّئيس وتأديب مريديه ممّـن كانـوا إلـى زمـن قريـب أحد أضلــع " الائتــلاف الثـّـوريّ" الـذي يشـدّ أزر النّهضة. .
سياسيّا يبدو أنّ احتجاج النّهضة تحكمه أبعاد وإكراهات، أوّلها تأديب الإخوة الأعداء ، حلفاء الأمس أعداء اليوم [ الكتلة الدّيمقراطيّة المرتهنة كلّيّا للرّئيس ] ، تأديب -- ككلّ إجراء عقابيّ -- لا يخلو من نزعة الانتقام من الآخر والانتصار للذات، وثانيها زعزعة المكانة الاعتباريّة التي يحوز عليها قيس سعيد بكثير من التّشفّي تكفيرا عن ذنب تزكيّـتها اللاّمشروطة واصطفافها القطيعيّ ورا ء العصفور النّادر الذي صار عصفورا شاردا يأبى أن يعود إلى " وكــره ". وثالثها نزعة التّميّــز والتّـفـرّد والظهور في صورة الطـّرف الوحيد المسؤول الغيور على إعلاء الدّستور والمؤسّسات. ورابعها طمأنة الأنصار والمريدين بأنّ عالم النّهضة -- والإسلام السّياسيّ -- بخير.
...............................................................................................................
متى يستفيق حكامنا من غيبوبتهم ؟ هو عنوان افتتاحيّة الشّروق التّونسية بتاريخ 24 / 2 / 1 202 -- جريدة شبه رسمية -- . سؤال يختزل الأزمة ويغني عن كلّ تعليق. وليس مستبعدا ولا مستغربا أن يجمع المؤرّخون في تحقيبهم لتاريخ تونس على إدراج مدّة حكم التّرويكات ضمن أحلك الفترات انسدادا.









" إذا كان الأمير عليك خصما فليس بقابل منك الشّـهودا "
" الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصمّ ولذلك يصفهم المثل : هم الغائبون رغم الحضور"
-- الفيلسوف اليوناني هيروقليطس ( 535 ق .م / 475 ق.م ) –
خلال أحداث أيلول [ أيلول الأسود 1970 ] لمّا قرّر اجتثاث المقاومة الفلسطينيّة بدعم من أمريكا وبمباركة من إسرائيل لم يخجل الملــــك حسين، ملــك الأردن، من التّصريـح : هذا البلد إمّا أن أحكمه أو أن أحرقـه. وفــي كتابــه " طبائـع الاستبــداد ومصــارع الاستعبــاد " أورد عبد الرّحمان الكواكبي [ 1855 /1902 ] التّعريف التّالي : " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشّـرّ وأبي الظـّـلم ، وأمّـي الإسـاءة وأخـي الغـدر، وأختـي المسكنـة وابنـي الفقـر، وبنتـي البطالـة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب . وأمّا شرفـي فالمـال المـال المـال". فماذا إذا كان المستبدّ هاوي سياسة وليس محترفا ، قدره الافتتان بالتّفرّج على حشد الأزمات تفرّخ وتتوالد حتّى أصبح الغرائبيّ غير مستغرب تجسيما لقول الشّاعر أبي تمّام " على أنّها الأيّام قد صرن كلّهـا // عجائب حتّـى ليس فيها عجائب ". ذلك هو حال نخبنا الحاكمة . فرضت اللاّاستقرار وأنبتت اللاّيقين. من أكبر المحن التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمع هو أن يُـبتلى بنخبة مفتونة بمرض الغباء ، متخرّجة مـن مدرسـة التّعلّــل، العملة المفضّلة للهوّات وسمة العقل البدائيّ المسكون بلازمة تدبّـر براءة ذمّة بها يتدثـّـر ويتحصّن ، مرتعبة من زمانها ومعادية له ، في تصالح مع الجنون وفي قطيعة مع العقل. العقليّة البدائيّة تنكر وجود الأزمة ، وإذا استفحلت فالتّهوين سبيلها إن لم ترجعها إلى عوامل برّانيّة [ نظريّة المؤامرة الطّبيعيّة أو البشريّة ، حصان طروادة الذي يبرّر كـلّ فشل ]. منذ 2011 لم تتجاوز الحكومات المتناسلة تناسل الأزمات عتبة التّــدرّب على تصريف الأعمال -- وبشكل هجين -- سرعان ما تحوّل إلى تصريف الأزمات حتّى أنّ مصائب الكورونا التي أربكت العالم ستـبدو تافهـة مقارنـة بالجوائــح والنّـوازل التي راكمتهـا التّـرويكـات المتعـاقبــة واستثمرت فيهـا خـلال عشريّـة سوداء منـذ سلّــمـت الثّــورة أمرها لمن ليس منها . تمترس أرعن ، استنطاح همجيّ، تحويل السّياسة وبشكل ممنهج ومقصود إلى كابوس فتك بالأبدان ويسابق الزّمن للفتك بالأذهان، تدمير لكلّ مجالات الحياة في ما يرقى إلى مستوى الجريمة ما دام التّـصحير على أيّام بن علي أقل فظاعة ممـّا هو عليه في ضيعة ، حرّاسها بعضهم معتصم بتشريعات حوزة باردو والبعض الآخر موزّع بين معتكف بقصر قرطاج ومستجير بحاكم قرطاج. الجامع بينهم التّجلّد لتقبّـل الوحي. ...................................................................................................................
السّياسة في تونس تدار بذهنيّة المخاتلة والمغالبة -- البدائيّة بطبعها والثّـاريّة في جوهرها-- حيث غياب -- إن لم يكن تغييبا – لأيّة رؤية سياسيّة ولأدنى تبصّر يجعل التّجريب بديلا عن التّجربة، وحيث التّـقارب -- إن وُجد – وليس التّحالف، فما أبعدنا عنه -- مشدود إلى عقليّة الوليمة والغنيمة و محكوم بالنّزوة وعصيّ على كلّ منطق. النّرجسيّة كضرورة للثّـقة بالنّـفس وكخاصيّـة من خاصيّات الاعتــداد بالذّات تحوّلت إلى عقدة ضارّة بالأنا وبالآخر . لعلّ ذلك ما يفسّـر الانقلابـات الكوبرنيكيـّة والتـّـزاوج السّياسيّ بين أطراف علاقاتها في ما بينها يفوق نكدها نكد تعــايش الضّـرائـر ويفـوق تنافـرها تنافــر الأضداد التي تكابر وتكابد لكسر قانون الثالث المرفوع . المتحكمون في المشهد السّيـاسيّ شعارهم أنا الدّولة والدّولة أنا ، وبعدي فلن يكن الطـّوفان. ومن لم يكن له في الوليمة نصيب رفع شعــاره البائـس: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر. ..
..............................................................................................................
التّــدافــع والتّــراســل
آخر التّـقليعات في تونس الثورة ، التي يُـراد لها أن تكون مريضة حسّـا ومعنى كمـا وصفها ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان .." زمن البايات ، ما جادت به قريحة الرّئاسات الثلاث من إحياء لفنّ عريق هو فنّ التّرسل مترجما في تهاطل المراسلات على شاكلة الأطباق الطـّائرة بين ثالوث الحكم -- الرّئاسة والبرلمان والحكومة -- . سياسة أكثر منها سلـوك تعكـس تصـدّع العلاقــة بيــن مؤسّسات سلط القرار والتّنفيذ . تقليد تراثيّ وفي نسخة مشوّهة ، يستهزئ بالتّونسيين ويمرّغ السّياسة في وحل الغربة عن العصر والحاجة . التّرسّل في المدوّنة التّراثيّة العربيّة فــنّ قـائم الـذّات جزء منه أملاه عسر الزّمان وبعد المكان . وديوان الرّسائل لا يصله إلاّ من حسنت سيرته وذاعت شهرته وكان فارس بلاغة وصاحب إتقان وجودة في تدبيج وتطريز الرّسائل. عـرّفته قـدامة ابـن جعفر بأنّــه "صناعة ومهنة لا يحترفها إلاّ من رسخت قدمه في الأدب". وقال عنه ابن خلدون في المقدّمة
" صاحب هذه الخطّة لا بدّ أن يُـتخيّـر من أرفع طبقات النّاس وأهـل المروءة والحشمة منهم ".
................................................................................................................
أمّـا مراسـلات حـاكم قرطـاج قيس السّعيد فترجمة أمينـة لتصوّر تقليـديّ محافظ لا مكان فيه للخيال السّياسيّ -- فما بالك بالخيال السّياسـيّ المحيـّن – يغلـّــب البهـرج على الجوهـر ، تصوّر تفصله عـن عصره مسافة ضوئيّة وتفصله عن إكراهات المسؤوليّة الأولى في الدّولة امتلاكه لكلّ مقومّات الفشل ، وهي إلى التّرسـّـل الدّيوانــيّ على عهد الخلفاء أقرب وأوفى ، مراسلات صادرة من الخليفة إلى ولاّته وعمّاله على الأقاليم ، عادة ما تكون مرتبطة بالجهاد وإنفاذ الأوامر. الفرق الوحيد -- ولكنّه جوهريّ -- أنّ عمّـال سعيّد " خوارج " يرفضون الاحتكام إلى الكتاب ( الدّستور ) كما يستنطقه شيعة الرّئيس فحُــقّ في شأنهم القصاص لأنّهم ككلّ عامّة العاطفة تغلبها والعقل يجافيها .
وأمـّا مراسلات حاكـم بـاردو فبالتّـرسّل الإخوانـيّ ألصــق بما تضمّنته من " تهان " في قالب اعتراف مجانيّ -- إذن استفزازي -- بهيبة رئيــس الدّولــة ورمـز وحدتهـا وضامن استقلالها واستمراريّتها والسّاهر على احترام الدّستور، وما تخللها من عتاب ورغبة في التّلاقي والمسامرة مع إصرار على أنّ النّصّ – الدّستور— مكتف بذاته أتى على كلّ شاردة وواردة ولا يحتاج من يؤوّله.
وأمّا مراسلات " المتزلّفين لهذه الجهة أو تلك فهي التّرسّـل الوعظـيّ بعينــه استئناسا بما كان يكتبه
الأتقياء إلى الخلفاء والأمراء والولاّة للحــثّ علـى التّقـوى والـورع والرّأفة بالرّعيّة في ما يُعرف بوعّاظ السّلاطين الذين يهمسون ولا يصرّحون ويحكمهم نزوع الخليفة وأهواؤه . ولكنّ الأكثر غرائبيّة في علاقة الرّئيسين -- رئيس قرطاج ورئيس باردو-- يكمن في ما بينهما من اختــلاف شكلّـيّ والتقاء جوهـريّ ، نفـس الذهنيّة الثّــقافيّـة التّـقليديّة ، نفــس الخلفيّـة المرجعيّـة المحافظة ، نفس الهوس بالسّلطة ، يلهج سعيّد بموجب وبدونه على أنّ لتونس رئيسا واحدا أوحد ، والحال أن لا أحد نازعه في ملكه الحصريّ ، ويباهي الغنّوشي بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين .أليس البرلمان تونسيّا لحما ودما أبا عن جدّ ، من الرّأس إلى أخمص القدمين ؟ . الأوّل يكابد لتكون السّلطة مدخله إلى القبض على عالم السياسة الذي اكتشفه متاخّـرا، وتلك عقدته، والثّـاني مسكون بامتطاء صهوة السّياسة لاغتصاب السّلطة وتطويعها للتّـحكّـم لا للحكم ، وذلك مرضه.
بدعة التّراشق بسهام المراسلات لا تفوق في فداحتها بدعة التّـنابز بالقراءات الفتاويّة لفصول الدّستور والاتّكاء عليها لحجب الكارثة الحقيقية : الأزمة السّياسيّة كنتاج لفشل الطبقة الحاكمة خصوصا والنّخبة عموما . الأزمة إدانة موصوفة لكلّ الأطراف التي تتنازع السّلطة ولسياساتها اليمينيّة المتّبعة طيلة عشريّة الثورة كما تفضحه الاحتجاجات حجما وعددا وتنوّعا وشموليّة. وليست العلاقة المرضيّة التّـناحرية بين إمارة باردو وإمارة قرطاج غير الجزء الذي يحيل إلى الكلّ . .....................................................................................................
الهـرطقــات الإخوانيّـــة
مسلسل بِدع الأطراف الحاكمة لا ينتهي . صانعو الأزمة يحتجّون على الأزمة بالنّزول إلى الشّارع متسلّحين بالضّدّين : الشّكل الاستعراضيّ والمظلوميّة . الأطراف التي أعلت التّمثيليّة الانتخابيّة إلى مرتبة البيعة وشيطنت كلّ احتجاج في وجه " الشّرعيّة "باعتباره مروقـا علـى شرعيّـة المؤسّسات وتصدّت لتحرّكـات قيـل أنّ " خيـر دستور أُخـرِج للنّـاس " يضمنها ويحميها ، هــي نفسهـا التــي تستنجد بالشّارع للدّفـاع عـن الشّرعيّـة وفرضها. وهي نفسها التي كثيرا ما أدانت الاحتكام للشّارع في حسم ما ترى أنّ الفضاء الطّـبيعيّ للبتّ فيه هو المؤسّسات المنتخبة. سابقة قلّما عرفها التّاريخ إلاّ كنشاز ما دامت الاحتجاجات أيّـا كانت تمظهراتها مرتبطة في المخيّـلة العامّـة بالتّـذمّـر والتّـنديد والـرّفض والإدانة ، وغالبا ما تكون موكولة للمعارضة. أمّا أحزاب السّلطة ففعاليّاتها مرتبطة دوما بالنّزوع الاحتفاليّ الاستعراضيّ ، وحتّى نزولها إلى الشّارع في حالات اضطراريّـة ونـادرة فيكـون فـي قالـب ميليشيـويّ مرتهن بالدّفاع عن النّظام القائم [ البلطجة فـي مصـر واليمـن / الشبّيـحة فـي سوريا / رابطات حماية الثورة الجناح العنيف للنّهضة في تونس ].
..................................................................................................................
الحشد التي تؤثّـثه حركة النهضة أصالة عن نفسها وعن مريديها ونيابة عن الحزام الدّاعم للحكومة ولرئيسها أساسا، ضاهره الانتصار للشّرعيّة وهيبة المؤسّسات وحمل المتنطّعين على الالتزام بالدّستور والاحتكام إليه ، وحقيقته وجوهره تحجيم مؤسسة الرّئاسة وبالأخصّ الرّئيس وتأديب مريديه ممّـن كانـوا إلـى زمـن قريـب أحد أضلــع " الائتــلاف الثـّـوريّ" الـذي يشـدّ أزر النّهضة. .
سياسيّا يبدو أنّ احتجاج النّهضة تحكمه أبعاد وإكراهات، أوّلها تأديب الإخوة الأعداء ، حلفاء الأمس أعداء اليوم [ الكتلة الدّيمقراطيّة المرتهنة كلّيّا للرّئيس ] ، تأديب -- ككلّ إجراء عقابيّ -- لا يخلو من نزعة الانتقام من الآخر والانتصار للذات، وثانيها زعزعة المكانة الاعتباريّة التي يحوز عليها قيس سعيد بكثير من التّشفّي تكفيرا عن ذنب تزكيّـتها اللاّمشروطة واصطفافها القطيعيّ ورا ء العصفور النّادر الذي صار عصفورا شاردا يأبى أن يعود إلى " وكــره ". وثالثها نزعة التّميّــز والتّـفـرّد والظهور في صورة الطـّرف الوحيد المسؤول الغيور على إعلاء الدّستور والمؤسّسات. ورابعها طمأنة الأنصار والمريدين بأنّ عالم النّهضة -- والإسلام السّياسيّ -- بخير.
...............................................................................................................
متى يستفيق حكامنا من غيبوبتهم ؟ هو عنوان افتتاحيّة الشّروق التّونسية بتاريخ 24 / 2 / 1 202 -- جريدة شبه رسمية -- . سؤال يختزل الأزمة ويغني عن كلّ تعليق. وليس مستبعدا ولا مستغربا أن يجمع المؤرّخون في تحقيبهم لتاريخ تونس على إدراج مدّة حكم التّرويكات ضمن أحلك الفترات انسدادا.







" إذا كان الأمير عليك خصما فليس بقابل منك الشّـهودا "
" الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصمّ ولذلك يصفهم المثل : هم الغائبون رغم الحضور"
-- الفيلسوف اليوناني هيروقليطس ( 535 ق .م / 475 ق.م ) –
خلال أحداث أيلول [ أيلول الأسود 1970 ] لمّا قرّر اجتثاث المقاومة الفلسطينيّة بدعم من أمريكا وبمباركة من إسرائيل لم يخجل الملــــك حسين، ملــك الأردن، من التّصريـح : هذا البلد إمّا أن أحكمه أو أن أحرقـه. وفــي كتابــه " طبائـع الاستبــداد ومصــارع الاستعبــاد " أورد عبد الرّحمان الكواكبي [ 1855 /1902 ] التّعريف التّالي : " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشّـرّ وأبي الظـّـلم ، وأمّـي الإسـاءة وأخـي الغـدر، وأختـي المسكنـة وابنـي الفقـر، وبنتـي البطالـة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب . وأمّا شرفـي فالمـال المـال المـال". فماذا إذا كان المستبدّ هاوي سياسة وليس محترفا ، قدره الافتتان بالتّفرّج على حشد الأزمات تفرّخ وتتوالد حتّى أصبح الغرائبيّ غير مستغرب تجسيما لقول الشّاعر أبي تمّام " على أنّها الأيّام قد صرن كلّهـا // عجائب حتّـى ليس فيها عجائب ". ذلك هو حال نخبنا الحاكمة . فرضت اللاّاستقرار وأنبتت اللاّيقين. من أكبر المحن التي يمكن أن تصيب أيّ مجتمع هو أن يُـبتلى بنخبة مفتونة بمرض الغباء ، متخرّجة مـن مدرسـة التّعلّــل، العملة المفضّلة للهوّات وسمة العقل البدائيّ المسكون بلازمة تدبّـر براءة ذمّة بها يتدثـّـر ويتحصّن ، مرتعبة من زمانها ومعادية له ، في تصالح مع الجنون وفي قطيعة مع العقل. العقليّة البدائيّة تنكر وجود الأزمة ، وإذا استفحلت فالتّهوين سبيلها إن لم ترجعها إلى عوامل برّانيّة [ نظريّة المؤامرة الطّبيعيّة أو البشريّة ، حصان طروادة الذي يبرّر كـلّ فشل ]. منذ 2011 لم تتجاوز الحكومات المتناسلة تناسل الأزمات عتبة التّــدرّب على تصريف الأعمال -- وبشكل هجين -- سرعان ما تحوّل إلى تصريف الأزمات حتّى أنّ مصائب الكورونا التي أربكت العالم ستـبدو تافهـة مقارنـة بالجوائــح والنّـوازل التي راكمتهـا التّـرويكـات المتعـاقبــة واستثمرت فيهـا خـلال عشريّـة سوداء منـذ سلّــمـت الثّــورة أمرها لمن ليس منها . تمترس أرعن ، استنطاح همجيّ، تحويل السّياسة وبشكل ممنهج ومقصود إلى كابوس فتك بالأبدان ويسابق الزّمن للفتك بالأذهان، تدمير لكلّ مجالات الحياة في ما يرقى إلى مستوى الجريمة ما دام التّـصحير على أيّام بن علي أقل فظاعة ممـّا هو عليه في ضيعة ، حرّاسها بعضهم معتصم بتشريعات حوزة باردو والبعض الآخر موزّع بين معتكف بقصر قرطاج ومستجير بحاكم قرطاج. الجامع بينهم التّجلّد لتقبّـل الوحي. ...................................................................................................................
السّياسة في تونس تدار بذهنيّة المخاتلة والمغالبة -- البدائيّة بطبعها والثّـاريّة في جوهرها-- حيث غياب -- إن لم يكن تغييبا – لأيّة رؤية سياسيّة ولأدنى تبصّر يجعل التّجريب بديلا عن التّجربة، وحيث التّـقارب -- إن وُجد – وليس التّحالف، فما أبعدنا عنه -- مشدود إلى عقليّة الوليمة والغنيمة و محكوم بالنّزوة وعصيّ على كلّ منطق. النّرجسيّة كضرورة للثّـقة بالنّـفس وكخاصيّـة من خاصيّات الاعتــداد بالذّات تحوّلت إلى عقدة ضارّة بالأنا وبالآخر . لعلّ ذلك ما يفسّـر الانقلابـات الكوبرنيكيـّة والتـّـزاوج السّياسيّ بين أطراف علاقاتها في ما بينها يفوق نكدها نكد تعــايش الضّـرائـر ويفـوق تنافـرها تنافــر الأضداد التي تكابر وتكابد لكسر قانون الثالث المرفوع . المتحكمون في المشهد السّيـاسيّ شعارهم أنا الدّولة والدّولة أنا ، وبعدي فلن يكن الطـّوفان. ومن لم يكن له في الوليمة نصيب رفع شعــاره البائـس: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر. ..
..............................................................................................................
التّــدافــع والتّــراســل
آخر التّـقليعات في تونس الثورة ، التي يُـراد لها أن تكون مريضة حسّـا ومعنى كمـا وصفها ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان .." زمن البايات ، ما جادت به قريحة الرّئاسات الثلاث من إحياء لفنّ عريق هو فنّ التّرسل مترجما في تهاطل المراسلات على شاكلة الأطباق الطـّائرة بين ثالوث الحكم -- الرّئاسة والبرلمان والحكومة -- . سياسة أكثر منها سلـوك تعكـس تصـدّع العلاقــة بيــن مؤسّسات سلط القرار والتّنفيذ . تقليد تراثيّ وفي نسخة مشوّهة ، يستهزئ بالتّونسيين ويمرّغ السّياسة في وحل الغربة عن العصر والحاجة . التّرسّل في المدوّنة التّراثيّة العربيّة فــنّ قـائم الـذّات جزء منه أملاه عسر الزّمان وبعد المكان . وديوان الرّسائل لا يصله إلاّ من حسنت سيرته وذاعت شهرته وكان فارس بلاغة وصاحب إتقان وجودة في تدبيج وتطريز الرّسائل. عـرّفته قـدامة ابـن جعفر بأنّــه "صناعة ومهنة لا يحترفها إلاّ من رسخت قدمه في الأدب". وقال عنه ابن خلدون في المقدّمة
" صاحب هذه الخطّة لا بدّ أن يُـتخيّـر من أرفع طبقات النّاس وأهـل المروءة والحشمة منهم ".
................................................................................................................
أمّـا مراسـلات حـاكم قرطـاج قيس السّعيد فترجمة أمينـة لتصوّر تقليـديّ محافظ لا مكان فيه للخيال السّياسيّ -- فما بالك بالخيال السّياسـيّ المحيـّن – يغلـّــب البهـرج على الجوهـر ، تصوّر تفصله عـن عصره مسافة ضوئيّة وتفصله عن إكراهات المسؤوليّة الأولى في الدّولة امتلاكه لكلّ مقومّات الفشل ، وهي إلى التّرسـّـل الدّيوانــيّ على عهد الخلفاء أقرب وأوفى ، مراسلات صادرة من الخليفة إلى ولاّته وعمّاله على الأقاليم ، عادة ما تكون مرتبطة بالجهاد وإنفاذ الأوامر. الفرق الوحيد -- ولكنّه جوهريّ -- أنّ عمّـال سعيّد " خوارج " يرفضون الاحتكام إلى الكتاب ( الدّستور ) كما يستنطقه شيعة الرّئيس فحُــقّ في شأنهم القصاص لأنّهم ككلّ عامّة العاطفة تغلبها والعقل يجافيها .
وأمـّا مراسلات حاكـم بـاردو فبالتّـرسّل الإخوانـيّ ألصــق بما تضمّنته من " تهان " في قالب اعتراف مجانيّ -- إذن استفزازي -- بهيبة رئيــس الدّولــة ورمـز وحدتهـا وضامن استقلالها واستمراريّتها والسّاهر على احترام الدّستور، وما تخللها من عتاب ورغبة في التّلاقي والمسامرة مع إصرار على أنّ النّصّ – الدّستور— مكتف بذاته أتى على كلّ شاردة وواردة ولا يحتاج من يؤوّله.
وأمّا مراسلات " المتزلّفين لهذه الجهة أو تلك فهي التّرسّـل الوعظـيّ بعينــه استئناسا بما كان يكتبه
الأتقياء إلى الخلفاء والأمراء والولاّة للحــثّ علـى التّقـوى والـورع والرّأفة بالرّعيّة في ما يُعرف بوعّاظ السّلاطين الذين يهمسون ولا يصرّحون ويحكمهم نزوع الخليفة وأهواؤه . ولكنّ الأكثر غرائبيّة في علاقة الرّئيسين -- رئيس قرطاج ورئيس باردو-- يكمن في ما بينهما من اختــلاف شكلّـيّ والتقاء جوهـريّ ، نفـس الذهنيّة الثّــقافيّـة التّـقليديّة ، نفــس الخلفيّـة المرجعيّـة المحافظة ، نفس الهوس بالسّلطة ، يلهج سعيّد بموجب وبدونه على أنّ لتونس رئيسا واحدا أوحد ، والحال أن لا أحد نازعه في ملكه الحصريّ ، ويباهي الغنّوشي بأنّه رئيس كلّ التّونسيّين .أليس البرلمان تونسيّا لحما ودما أبا عن جدّ ، من الرّأس إلى أخمص القدمين ؟ . الأوّل يكابد لتكون السّلطة مدخله إلى القبض على عالم السياسة الذي اكتشفه متاخّـرا، وتلك عقدته، والثّـاني مسكون بامتطاء صهوة السّياسة لاغتصاب السّلطة وتطويعها للتّـحكّـم لا للحكم ، وذلك مرضه.
بدعة التّراشق بسهام المراسلات لا تفوق في فداحتها بدعة التّـنابز بالقراءات الفتاويّة لفصول الدّستور والاتّكاء عليها لحجب الكارثة الحقيقية : الأزمة السّياسيّة كنتاج لفشل الطبقة الحاكمة خصوصا والنّخبة عموما . الأزمة إدانة موصوفة لكلّ الأطراف التي تتنازع السّلطة ولسياساتها اليمينيّة المتّبعة طيلة عشريّة الثورة كما تفضحه الاحتجاجات حجما وعددا وتنوّعا وشموليّة. وليست العلاقة المرضيّة التّـناحرية بين إمارة باردو وإمارة قرطاج غير الجزء الذي يحيل إلى الكلّ . .....................................................................................................
الهـرطقــات الإخوانيّـــة
مسلسل بِدع الأطراف الحاكمة لا ينتهي . صانعو الأزمة يحتجّون على الأزمة بالنّزول إلى الشّارع متسلّحين بالضّدّين : الشّكل الاستعراضيّ والمظلوميّة . الأطراف التي أعلت التّمثيليّة الانتخابيّة إلى مرتبة البيعة وشيطنت كلّ احتجاج في وجه " الشّرعيّة "باعتباره مروقـا علـى شرعيّـة المؤسّسات وتصدّت لتحرّكـات قيـل أنّ " خيـر دستور أُخـرِج للنّـاس " يضمنها ويحميها ، هــي نفسهـا التــي تستنجد بالشّارع للدّفـاع عـن الشّرعيّـة وفرضها. وهي نفسها التي كثيرا ما أدانت الاحتكام للشّارع في حسم ما ترى أنّ الفضاء الطّـبيعيّ للبتّ فيه هو المؤسّسات المنتخبة. سابقة قلّما عرفها التّاريخ إلاّ كنشاز ما دامت الاحتجاجات أيّـا كانت تمظهراتها مرتبطة في المخيّـلة العامّـة بالتّـذمّـر والتّـنديد والـرّفض والإدانة ، وغالبا ما تكون موكولة للمعارضة. أمّا أحزاب السّلطة ففعاليّاتها مرتبطة دوما بالنّزوع الاحتفاليّ الاستعراضيّ ، وحتّى نزولها إلى الشّارع في حالات اضطراريّـة ونـادرة فيكـون فـي قالـب ميليشيـويّ مرتهن بالدّفاع عن النّظام القائم [ البلطجة فـي مصـر واليمـن / الشبّيـحة فـي سوريا / رابطات حماية الثورة الجناح العنيف للنّهضة في تونس ].
..................................................................................................................
الحشد التي تؤثّـثه حركة النهضة أصالة عن نفسها وعن مريديها ونيابة عن الحزام الدّاعم للحكومة ولرئيسها أساسا، ضاهره الانتصار للشّرعيّة وهيبة المؤسّسات وحمل المتنطّعين على الالتزام بالدّستور والاحتكام إليه ، وحقيقته وجوهره تحجيم مؤسسة الرّئاسة وبالأخصّ الرّئيس وتأديب مريديه ممّـن كانـوا إلـى زمـن قريـب أحد أضلــع " الائتــلاف الثـّـوريّ" الـذي يشـدّ أزر النّهضة. .
سياسيّا يبدو أنّ احتجاج النّهضة تحكمه أبعاد وإكراهات، أوّلها تأديب الإخوة الأعداء ، حلفاء الأمس أعداء اليوم [ الكتلة الدّيمقراطيّة المرتهنة كلّيّا للرّئيس ] ، تأديب -- ككلّ إجراء عقابيّ -- لا يخلو من نزعة الانتقام من الآخر والانتصار للذات، وثانيها زعزعة المكانة الاعتباريّة التي يحوز عليها قيس سعيد بكثير من التّشفّي تكفيرا عن ذنب تزكيّـتها اللاّمشروطة واصطفافها القطيعيّ ورا ء العصفور النّادر الذي صار عصفورا شاردا يأبى أن يعود إلى " وكــره ". وثالثها نزعة التّميّــز والتّـفـرّد والظهور في صورة الطـّرف الوحيد المسؤول الغيور على إعلاء الدّستور والمؤسّسات. ورابعها طمأنة الأنصار والمريدين بأنّ عالم النّهضة -- والإسلام السّياسيّ -- بخير.
...............................................................................................................
متى يستفيق حكامنا من غيبوبتهم ؟ هو عنوان افتتاحيّة الشّروق التّونسية بتاريخ 24 / 2 / 1 202 -- جريدة شبه رسمية -- . سؤال يختزل الأزمة ويغني عن كلّ تعليق. وليس مستبعدا ولا مستغربا أن يجمع المؤرّخون في تحقيبهم لتاريخ تونس على إدراج مدّة حكم التّرويكات ضمن أحلك الفترات انسدادا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. تقارير: الحرب الإسرائيلية على غزة دمرت ربع الأراضي الزراعية




.. مصادر لبنانية: الرد اللبناني على المبادرة الفرنسية المعدّلة


.. مقررة أممية: هدف العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ البداية ت




.. شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي على خان يونس