الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماضي جديد، او وعيُ مستقبل.

قصي بن فرج

2021 / 3 / 1
مواضيع وابحاث سياسية




يبدو انّني مجبر على جعل العنوان بهذا الشكل، لا اعرف ان كان مُستفزًا، مغريّا جاذبًا للإنتباه او لا، لكنّي اعرف انّي غير مهتمّ حاليّا بأن ابيعه لمن يتلقّى بقدر ما اكتبه لنفسي وللمهتمّين بالإطلاع على افكار مخالفة او المعنيّين بجعل كلّ الحجج حتى البديهيّة منها على صفيح النقد والجدال، املاّ في جعل الحاضر اقلّ عبثًا والمستقبل اكثر منطقيّة، اكتبه لاُعيد تصفّحه بعد سنوات واعيد تقييم ما تعلّمته من التجارب وما راكمت من معارف، مدى جديّتها كأُطروحات، ومدى اهليّتها وتماسكها وربّما تأثيرها ايضا.

لازال الحسّ والموضوعيّة داخلي منحازان لكوننا في هذه اللحظة في عمليّة نقلة فارقة، فارقة ليس اجتماعيًا او طبيّا ولا سياسيّا فحسب، بل بشكل اعمق ربّما، قد يُفهم الآن من خلال تمظهرات نفسيّة، فيسيولوجيّة، وربّما اجتماعيّة ايضا ان ما كانت الذهنيات المنغمسة في فهم الواقع متمكّنة من التاريخ البشري ولها ما يكفيها من الذكاء لفهم انه وحتى ان لم تكن اللحظة فارقة فإن انعكاساتها ستكون فارقة داخل المربعات الاجتماعيّة الصغيرة (داخل البشر ذاتهم، العائلات، الروابط الوجدانيّة والاجتماعيّة.. إلخ) وايضا في علاقة بالمفاهيم الاجتماعيّة المشتركة، والتي إلى الآن يعجز اساتذة علوم الاجتماع ومفكّرو هذا العصر على ضبط ايقاع مُستحدث يجعل المفاهيم متماهيّة وهذه اللحظة ان لم يكن وهذا العصر، فأدوات تقييم الحاضر لازالت الى الآن ادوات قديمة، من المُفردات المستعملة والتي تُكرّر عادة، وصولا الى الذهنيات والتي تكون بدورها نتاج لهذه التكرار المفاهيمي القديم، والذي يعيد في كلّ مرّة افراز نفس الازمة والتعاطي معها بنفس الذهنيّة وبالتالي من المنطقي جدّا ان يُكرّرَ نفس الحلّ لنصبح بفعل قوةّ الحركة وتسارعها داخل دائرة مُفرغة وربّما مُستنْزِفة بطرحٍ منطقيّ واحد : التكرار واعادة الإنتاج : حضاري - اجتماعي - علمي - سياسي، دائرة لا يمكن الوعي بها الى حينما تغادرها او تشاهدها وانت في موقف حياد بديهي تجاهها.

اظن ان التاريخ في دائرة متأزّمة في هذه اللحظة، وهذه الازمة يمكن فهمها من زاويّتي نظر، الزاوية الاولى هي ادوات معاينة التاريخ وفهمه، وهذه النقطة تحديدا احدى النقاط التي دفعتني لكتابة هذه المقالة، واقصد بمعاينة التاريخ وفهمه ادوات تحليله ومعاينته وفهمه بشكل مباشر، والتي بقيت -لسوء الحظ- في سنوات طفرتها التاريخيّة، -من الكوجيتو وصولا الى بداية العقد الماضي- دون تجديد يذكر، واعتبر هذه النقطة بالتحديد ازمة بنيويّة عميقة، يمكن ان تسمى بإعتبارها ازمة "استنساخ مغرور" و حاد، وفي جزء كبير نجد هذا الاستنساخ في الجامعات حاضرًا، وما تفرزه -في جزء كبير- من مادّة علميّة متجدّدة وناقدة خاضعة لقواعد الغائيّة العلمية (الغاية من العلم ..) وخاضعة ايضا لمبدأ مهام العِلم (بإعتبار العلم مادّة ذات حركيّة نقديّة وبالتالي متطوّرة..)، وكدليل على ذلك، فإن اكثر من ثمانين بالمائة من المصطلحات المُستعملة في الخطب السياسية حاضرًا وفي قاعات الجامعات وفي حالة التجادل ايضا في فهم الميولات الفرديّة للاشخاص ثلثاها مفاهيم عُمرُها اكثر من مائة وخمسين سنة لم تفرز مع الوقت غير اشتقاقات حاولت تفكيك الماضي وعجزت عن تفكيك الحاضر وفي حالة انسداد منطقي تجاه المستقبل.

فإن تناولت مقالة بطريقة عشوائية، او استمعت لخطاب سياسي هذه الايام، واشرت بقلم الرصاص تحت المصطلحات العلميّة، وبعمليّة حسابية بسيطة قمت بقيس معدّل اعمار المصطلحات وطرحته من المحصّلة التاريخيّة (هذه السنة الزمنيّة) ستجد نفسك في كومونة باريس قبل مائة وخمسين سنة او حانة في فيّينا او برلين قبل مائتي سنة، وهذا ما وددت تسميته اعلاه ب"غرور الماضي" او الغرور الماضيويّ، غرور الماضي الذي يجعلُ الواقع واقعا ماضويّا على المستوى المفاهيمي، فما معنى ان لا يتم تحيين مفاهيم حيويّة ك "مجتمع" "شعب" "تاريخ" "ايديولوجيا" "حريّة" "اخلاق" "عدالة" "دولة" "سيادة" "قيمة" "مفهوم" "سياسة" وغيرها من المفاهيم والتي قد تكون لا تحصى وليس في علوم الاجتماع فحسب، بل ايضا يمكن تعميم هذا على الماهيات المُشكّلة لعلم الاجتماع كعلم او التي يُشكّل علم الاجتماع جزءًا منها وبالتالي فإن مجال التقييم وربما التعميم شائع، وخاصّة ان الوعي الحاضر لازال مُصرًا على التعاطي معها وتناولها بذات الشكل القديم بإعتباره يمنح لنفسه نوعًا من التفاخر الديكي اثر استعمالها في اطار التقييم او التوصيف. والازمة ليس تحيين هذه المفاهيم فحسب، بل الازمة بالتحديد تكمن في الاصرار على إلحاقها ومقارنتها بمفاهيم جديدة ومُستحدثة لم تأتي من ذات انساق هذه الطفرة الفلسفيّة القديمة، والقيام اثرها بتقييمات وتحليلات وربّما اسقاطات، لهذا نجد انه صار من الطبيعي ان يجد المُثقفون والسياسيون والنخبة بصفة عامة انفسهم في ثنائية مع الجمهور، الجمهور يتجاوزهم وهم يتجاوزون الجمهور، ولهذا ايضا يتكلم الجميع كثيرا ولا يفهمهم احد ولهذا يُفضّل الناس مشاهدة افلام كوميديا بدائية على حساب افلام كوميديّة او تراجيدية اكثر عمقًا ولهذا عمّت التفاهة ولهذا السبب ايضا ينفُر الجيل الحاضر من المعرفة داخل قوالب جاهزة مسبقا وتمظهرات كبيرة اخرى، عائدة بالاساس الى حالة موازية بين النظري والتطبيقي، ولهذا السبب ايضا يلتجئ كثيرون الى البحث عن يا امّا عن ادوات اسهل لا تتطلب محاولة كثيرة او محاولة كثيرة لا تطلّب ادوات اصلا، ويصير التعاطي السياسي ايضا تعاطي اكثر جفافًا واقلّ ذكاءً ولهذا السّبب وغيرها نعجز امام سياقات حاضرة، والسؤال الذي يكشف هذا هو هل المجتمع الذي يتحدث عنه "روسو" مثلاً، هل هو نفس المجتمع الحاضر؟ و "الايتيقا" التي كتب عنها هيغل هل هيّ ذات "ايتيقا" الحاضر، و"الجمهوريّة" مفاهيميا التي كتب لها افلاطون هي نفسها جمهوريّة الحاضر ؟ هل "الوباء" في عالم يحتاج فيها ابن بطوطة او ماركو بولو لعشرات السنين للتنقل بين قارّتين هو نفس "الوباء" الذي قد يعمّ في العالم في اشهر معدودات؟ طبعا لا، فطبيعي ايضا ان هذه المفاهيم قد حققت حالة نضجها وربما شيخوختها ان لم يكن موتها او عزلتها. هذه الازمة لم تشمل السياسة فقط، او العلوم فقط، او الفلسفة ايضا، بل يمكن تفسيرها ايضا في اطار الدور الذي انحسرت اثره الفلسفة وتكمّشت، بل ايضا في عمليّة جعل اقواس ويافطات واحيانا تذاكر وعناوين اثناء الجدال او اثناء التحليل كما قد يصل الامر في احيان الى تصنيف "العلوم الاجتماعية" او "العلوم الانسانية" كعبئ على الطفرة الفكرية الحاليّة، لانها فعلاً عبئا نظرا لسرعتها البطيئة مقارنة بمعطى الوقت.

ماذا تقصد حينما تقول انك "اشتراكي" "ليبرالي" "شيوعي" "قومي" "شعبوي" "ايديولوجي" "لا ايدولوجي"... ؟ حينما تتكلّم هذه الايام ؟ ماذا تقصد بالضبط حينما تقول انك تمنح لافكارك هذه الصفات او صفة اخرى مشابهة ؟ خاصة ان كانت المرتكزات الفكريّة التي تبني ماهية هذه السرديات قائمة على مفاهيم بدورها قديمة، ان لم يكن ل"ماركس" موقف من "البيتكون" مثلا ماذا يعني ان اكون ماركسيّا ؟ لا شيء، يعني انك عاجز وتعيش في التاريخ. ماذا يعني ان تكون "ليبرالي" في فترة وباء وشلل وظيفي لحركة الاقتصاد ؟ لا شيء ايضا. وهذه هيّ عمليّة الازمة الحقيقية، الازمة التي انطلقت منذ اكثر من مائة سنة لم يتم فيها استحداثات فكريّة قادرة على معالجة الحاضر معالجة منطقيّة جدا، موضوعيّة ايضا. كما هو.

والآن كيف سنتصرف في المُستقبل؟ لا اعرف، لكني لست مسرورًا، ولكن هذا غير مهم. المهم هو ان يتمّ تعميق مفهوميّ "تقييم" "تقدّم"، لانهما وحدهما يمكنهما نفض الغبار على مفهوميّ "تغيير" و"حريّة" الذي يصيران مفهومان مخيفان في عالم في حالة عبثيّة، لان هاذين المفهومين ان تحرّرا علميّا فقط، سيمكنان الجميع من اريحيّة واسعة ايضا اثناء التعاطي المشترك وبالتالي ليس لصالح احد في هذه اللحظة ان يكون في وجه ازمة تقييم، لأن ازمة في التقييم تعني خللاً على المستوى المتوسّط وتعني ازمة على المستوى البعيد تزيد ازمة مضاعفة على ازمة الحاضر، وتجعل الملايين في خطوط متقدّمة من اللامنطقيّة والعجز تجاه حاضر يعجزون عن قرائته ومستقبل في اغلب الاحيان مجهول.

انني اتحدّث عن عالم افضل، عن عالم حقيقي وممكن وليس لصالح احدٍ اعاقته لانه سيمكّن الجميع من اريحيّة في الفهم وفي التعامل وربما ايضا في التنافس والتميّز والتمايز، هذا العالم الافضل قد يكون عالما مخيفا اذا ما حاولت قراءة ما اقول بذات المفاهيم القديمة والادوات والذهنية القديمة، ولكنك قد تكتشف بعد مُدّة اطول انك عجزت عن قراءة هذه اللحظة لان المُستقبل في حدّ ذاته يتطلب مجهودا مضاعفا للتنبؤ به وبالتالي وعي به بدرجة اولى وصناعته بدرجة ثانية وخسارة معركة المُستقبل تعني خسارة الماضي ايضا.

ان كل جيل يحلّ يظن نفسه اذكى من الجيل الذي سبقه واكثر حكمة من الجيل الذي سيأتي بعده، ولكن كيف سيتمّ التعامل مع حركة سريعة للوعيّ البشري خاصة الشاب منه مع ميكانيزمات مُشكلّة لشيخوخة المعنى والقيمة ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمود ماهر يخسر التحدي ويقبل بالعقاب ????


.. لا توجد مناطق آمنة في قطاع غزة.. نزوح جديد للنازحين إلى رفح




.. ندى غندور: أوروبا الفينيقية تمثل لبنان في بينالي البندقية


.. إسرائيل تقصف شرق رفح وتغلق معبري رفح وكرم أبو سالم




.. أسعار خيالية لحضور مباراة سان جيرمان ودورتموند في حديقة الأم