الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقطع من يومياتي بعد موتي! (الجزء الثاني)

محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب

(Mohammad Abdelmaguid)

2021 / 3 / 2
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


هذا المقال لا يمكن فهمه بدون قراءة الجزء الأول.
المشهد هو من نسج خيالي حيث استعنت بمنظور إنساني، بكل ما فيه من ضعف وثغرات، وهو ليس وصفا ليوم الحساب.
********************************
لم أشعر بأدنىَ حاجة للنوم؛ فالتعب لم يطرق بابي، وأنا مثل الذي ينتظر موعدا يفصل الحياة والموت فلا تغفل عيناه لحظة واحدة.
شاب وسيم ككل شباب موقع الانتظار مرَّ بجانبي، مشيا أو طيرانا، ثم نظر إلى متسائلا: هل تبحث عن صحبة لتتعرف بالموقع أكثر؛ فأنا أراك في حيرة، ولا تدري أيَ مكان تتوجه إليه؟
بادلته الابتسامة، ومشيت أو طرت بجواره، وسألته عن ظروف موته في حياته الدنيوية، وكأنني فتحت الصفحة الأولى لرواية بطول عُمره!
كنت أعيش حياة سعيدة مع العائلة، قال لي: والد يحرسني من أي خطأ، ووالدة كأنها قطعتْ حبل السُرّة لتوها إثر ولادتي، لكنها متمسكة بي. أشقاء وشقيقات وأحلام في كل القيم المثالية، وتسامح مع الجميع فلا تقتحم كلمة طائفية حياتي أو يلفظها لساني أو يحتفظ بها قلبي!
ثم أكمل: اكتشفت فجأة أن انخراطي في هموم وطني هو القيمة الإنسانية الكبرى التي أريد أن يرثها عني جيل من صُلبي. في بلدي، ولن أذكر لكَ اسمَه لأن عشرات من الأوطان الكبرى تماثله في الظلم و.. صمتِ الناس.
اعتقلتني الشرطة ووضعتني أنا وأحلامي وآمالي في سجن يستقبل الأحياءَ فقط، ثم يلفظهم أمواتا مع شهادة مزوّرة من طبيب السلطة.
قضيت عدة سنوات تحت التعذيب والمهانة والجوع والعطش، وحُرمتْ أمي من زيارتي؛ فلما مرضتُ مُنع عني الدواء حتى لفظت أنفاسي الأخيرة، وها أنا في موقع الانتظار مُترقبا حساب يوم الحساب، بعدما أنزل عليَ ربي صبرا شديدا.
لم يبك أو يغضب أو يلعن سجّانيه فنحن في مكان نحاسب أنفسنا عن كل همسة خشية أن تؤثر في ميزان يوم الحساب بعدما تقوم الساعة ولو بعد مئات الآلاف من السنين.
ثم تذكّر أنه شاهد هنا ثلاثة من الذين مارسوا التعذيب على جسده الواهن، فشعر بقُرْب عدالة السماء.
التقينا شابا يبدو أن حديثنا وصله رغم أننا نتحدث بلغتين لم يفهم أيا منهما في الحياة الأرضية، فاستأذن مِنــّـا المشاركة، ورحبنا به.
قال بأنه وُلدَ في احدى جُزُر الباسيفيك إبان غزوات الاستعمار الأبيض في بدايات القرن الثاني عشر، وكان شابا طموحا، وقارئا نهما، وباحثا عن المعرفة في الحياة وبين أغلفة الكتب.
ثم أردف: طوال حياتي التي امتدت لنصف قرن لم أتمكن من استيعاب فكرة وجود إلَه للكون، لكنني كنت مواطنا مفعما بالإنسانية، وما أُعطي لي من عُمر لم يكن كافيا ليصل بي إلى مرحلة الإيمان، وهي مرحلة تحتاج، حسب قوله، إلى ذكاء مُشع أو.. إلى غباء حاد!
ظللت، على حدّ قوله، أبحث عن الله فلم أتمكن، أي لم أنكر ولم يعمّر الإيمانُ قلبي، إلى أن وشى بي أحد المؤمنين تماما كما كان زاعمو الإيمان في فرنسا يبلغون السلطات بالساحرات، فينتهي الأمر بهن إلى الحرق أحياءً أو المقصلة.
لا أدري إن كنت قد بقيت حتى تنتهي حياتي طبيعية ليدخل الإيمان قلبي أو يتثبت الإنكار مكانه!
ثم طرح عليَ سؤاله القنبلة: لماذا يشي المؤمنون بمن يختلفون معهم، ولا يكترث الملحدون بغيرهم؟
لم أُجب فقد كنت متلهفا لمعرفة حكايته الدنيوية!
قال: تم القبض علي، وشهد المؤمنون عملية إعدامي أمام عائلتي وأحبابي ، وبعضهم كان يهتف كأنه المحامي الأول عن الله!
مشى أو طار الملحد والمؤمن بجانبي وهما يتحدثان كأنهما صديقا طفولة.
سأل الثاني الأول بصوت خفيض: ماذا لو لم تقُم القيامة بعد الزمن اللا نهائي؛ فهل نظل في انتظار المجهول؟
لم يكن لدى أي منهما إجابة شافية.
حوار جعلني أسترجع آلافا من ذكرياتي الأرضية، كثير منها تساند المؤمن، وكثير منها تدعم الملحد، فالملحد هو شخص لم تسعفه الحياة بقطع حيرته والوصول إلى الأمان، والمؤمن أغلب الظن وارث للعقيدة، متشبث بالسلام فيها، يشعر بفوقية على غيره، وقد يكون مؤمنا عقلا وروحا وقلبا ونفسا!
تركتهما عندما رأيت فتيات جميلات كأنهن لؤلؤ منثور، يسرن الهوينا أو يطرن كفراشات فوق زهور بديعة في قلب حديقة غنّاء.
في وسطهن كانت هناك أربع فتيات تشبه كل واحدة الأخريات، فسألت إحداهن عن سبب هذا التشابه العجيب!
قالت عن يميني أمي، وعن يساري ابنتي، وهذه جدتي، وكلنا في نفس العُمر ، ونتبادل الذكريات في أمور التقىَ زمنُ واحدة بالأخرى، وباقي الذكريات فيها من الخصوصية ما لا تعرفه الأخريات.
قالت إحداهن: نحن نحاول العثور على أسلافنا اللائي عشن منذ مئات السنين أو آلافها، فقد يكون مثيرا للاهتمام أن تحكي كل واحدة منا عن زمنها، فلدينا من الوقت ما يكفي قبل أن تقوم الساعة، وينتهي زمن البشر ليبدأ يوم القيامة بما فيه من حساب عسير أو يسير، وأظنه يسير، وسهل، وهيّن، قالت هذا بثقة شديدة!
قلت لها: هل تؤمنين بأن الله قد يعذبك في جحيم أبدي لا تخرجين منه أبدًا؟
ردّت الجدّة الصبية: الإيمان يبدأ بالثقة أن العذابَ الذي أشارت إليه كل الكتب السماوية والأرضية وغيرها هو للتخويف وليس ليمارس القوي خالق الكون علينا قوته ورهبته بعدما منحنا حياة طويلة لم نُستَشر فيها، تألمنا، وتوجعنا، وفي النهاية كبرنا، ومرضنا، وألقى بنا حفّار القبور تحت التراب بفرض أن حيوانا مفترسا أو زلزالا أو فيضانا أو وباءً لم يقم بالمهمة.
سألتني احداهن: هل فضولك هذا لنفسك أم أنك ستُعْلــِـم من يعرفك أو يقرأ لك بما رأيته في موقع الانتظار؟ ثم ردّتْ على نفسها: لن تستطيع أن تكتب عما شاهدت بعد موتك، فسكان الأرض التي ما تزال تدور وتنفث بهجتها وغضبها، ويسكنها وحوش من البشر وودعاء منهم أيضا لن يتركوك تُكمل حكاياتك، فبنو آدم شخصانيون إذا انتفى العقل، ومفترسون إذا اختلفوا معك، ويظن أجهلهم أنه أوتي الحكمة كما لم تؤت لأحد في العالمين.
قلت لها: أنا أحد المؤمنين بأن للكون إلــَــهاً، وعلى يقين أن الحساب الأخروي آتٍ لا محالة، لكن بأية كيفية، لا أعرف!
تركتهن وجعلت أمشي أو أطير وذهني مشغول بتساؤلات لو جمعتها لاحتجت لسنوات حتى أستوعب الإجابة عليها.
ما يحيرني هو كيف أعطى الإنسان لرجال الدين في كل العقائد حق وصف ما بعد الموت؟
ترىَ كم كان التطور الفكري للإنسان سيستقيم لو أن تساؤلات عما بعد الموت أجاب عنها فنانون وموسيقيون ومثقفون وفلاسفة وكيميائيون وعلماء فضاء ومهندسون وأطباء ومفكرون وأدباء بدلا من احتكار قارئي الكتب العتيقة للحقيقة غير المعروفة، فأختلط العلم بالجهل في شؤون الدين؟
أكبر خسارة أصابت الجنس البشري هي منح رجال نطلق عليهم رجال الدين الحق في تفسير كتب مقدسة أو عتيقة أو موروثة فيعيدون تفسيرها كأنهم عاشوا أزمنة سحيقة، أو أنهم يقرؤون الغيب بأثر رجعي وسلفي.
أغلب رجال الدين في كل العقائد أعداء صرحاء للعقل، والعقل هو جوهرة الخلق، وهدية الخالق لنا بعد الروح، وأحيانا قبل الروح.
فكرت في البحث عن إبليس في موقع الانتظار، حيث أنه لم يُحاسَب بعد، ولكنني تأملت السلام والهدوء والمحبة التي عمّت المكان؛ ففهمت أنه ليس بيننا الآن؛ فمهمته في الأرض لم تنته بعد.
قلت لأحدهم ويبدو أنه من منطقة الشرق الأوسط وقد لوحت شمس البحر المتوسط بشرته: هل لك أن تقص علي من نبأ نزولك في القبر إلى أن انتقلتَ، روحا وجسدا روحيا إلى هذا المكان؟
ابتسم ابتسامة لطيفة وقال: أنت تريد أن تعرف ما حدث معي في القبر، وهل الحكايات والروايات التي تكدست بها عقول الناس لها من الصحة والحقيقة نصيب، أليس كذلك؟
لم يتركني أوافقه واستطرد: نزلت أو أُنْزلت إلى القبر في هدوء عجيب حتى أن المشيّعين التزموا الصمت. انفضّ المكان، وخيم صمت عليه قبل أن يحل ظلام لا يختلف كثيرا عن ظلام القبر.
لم أشعر بشيء إلا عندما انتقلت إلى موقع الانتظار، فالقبور ليست مكانا للتعذيب والخوف وتسليط حيوانات على الميّت أو لدغه، فكل هذه حكايات جهلة ساديين أرادوا تخويف الناس لكي ينشروا بينهم دعوة سادية الخالق، وحساب ما قبل الحساب، وطاعة ترهيبيين يعيشون على صورة قاتمة وقاسية وغليظة وعنيفة لإلــَه الرحمة. أصحاب هذه المرويات يتمادون في تشويه صورة الخالق العظيم فجعلوا من نهاية رحلة الحياة بداية تماثل يوم القيامة، وجعلوا الميت يحتفظ بروحه حتى يتألم، بل سلطت حكاياتهم عليه ثعبانا، أي مليارات من الثعابين في طول الكرة الأرضية وعرضها تكون مهمتها لدغ أتربة بأوامر من الله الرحمن الرحيم.
ثم قال: ينزل الميت في سلام، وتقوم الطبيعة بعملها على أكمل وجه، فيصبح ترابا، وتلتصق ذراته بالمكان، ولا يبقى منه شيء.
فقط الذين لا يعرفون أن الله أكبر يرسمون تلك الصورة ويضعون تفاصيلها على ألسنة حمقاء لمن قيل بأنهم رجال دين.
بعد ذلك وجدت نفسي في موقع الانتظار حتى يأذن الله بإنتهاء الحياة على الأرض، ويجمعنا، ويحاسبنا، ولا يمس الأشرارَ بأي سوء قبل أن تقوم الساعة.
استرحت لهذا الحديث وانتابتني رغبة أن أسحب الحديث عن الموت من رجال الدين، أقصد تجار الخوف.
لماذا ننتظر يوم القيامة ولا يُحاسَب الميت فور مغادرة روحه جسده؟ ولماذا لا يتجلى الله للإنسان بمجرد انتهاء حياته فيحاسبنا فردا.. فردا؟ ولماذا يتساوى الطيبون والخبيثون في موقع الانتظار وهم ينتظرون يوم القيامة؟ وماذا لو قال الله لنا اذهبوا فأنتم الطلقاء وها قد عرفتم أن إلــَــهكم حق؟ ولماذا لم تتنزل الأديان السماوية على أركان الأرض الأربعة بالتساوي؟ وهل يخلقنا الله ثم يُفضّل بعضنا أو يقرّب إليه أتباع مرسَل، ويُبعد الآخرين؟ وعشرات .. ومئات من التساؤلات الأخري التي ازدحم بها ذهني، وأريد أن أطرح في حلقات قادمة إن شاء الله عن يومياتي بعد موتي!
سألت نفسي بصوت مسموع هذا السؤال!
وإلى الحلقة الثالثة بإذن الله








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيتزا المنسف-.. صيحة أردنية جديدة


.. تفاصيل حزمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وأوكرانيا




.. سيلين ديون عن مرضها -لم أنتصر عليه بعد


.. معلومات عن الأسلحة التي ستقدمها واشنطن لكييف




.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE