الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلك الزهرةُ البريّة

صباح محسن جاسم

2006 / 7 / 27
كتابات ساخرة


قصة قصيرة
صباح هذا اليوم وفيما أنا أهم عبور الشارع الرئيس المؤدي الى سوق مدينتنا المهذبة اعترضتني عربة ٌ خشبية يجرها حمارٌ أبلق على غير ما ألفته في قريتنا الوديعة.
العربة منبسطة مفتوحة الجوانب استعارت دواليبها القديمة المستهلكة من مركبات كـثــُرَ حضورهن مؤخرا وما عاد سائقوها يبالون بأجازة سوق أو ضوابط مرورية. واذا ما انتبه حوذي العربة الخشبية الى ِقدَم الأطارات وعتقها ، حشر داخلها حاصرات مطاطية شوّهت شكل الدواليب ومن ثم أفقدت العربة توازنها فتأثرت بعرج ملحوظ.
تجاوزتني العربة بإيقاع صرير الواحها الخشبية المتراخية مساميرها . انتبهت أنها تجر وراءها حمارا آخرا مربوطا بحبل طويل نسبيا ، يهرول حثيثا خلفها .
ثمة من يقف ماسكا رسن القيادة بيد فيما الأخرى تلوّح بعصا غليظة بآلية تعودها الحوذي لاكزا حماره فيندفع هذا نشيطا.
على أني حسبت الحمارَ غيره الجواد دونما حاجة الى تدريب! وفي كل الأحوال يبدو أنه أمر مسلّم به سيما زمن الحروب فما سلم من هاجس التدريب أنسان أو حمار.
تأملت مليا أن الحال يختلف أحيانا حين تتدخل المصالح وتتنوع الغايات.
يأخذ التدريب حدود آليته مبدأ التطبيع أيضا. والتطبيع له سياسات وسبل عديدة! يبدو أن تفاهما مسبقا حصل بين الحمارين ، فقوائمهما تتحرك بإيقاع منتظم دون أن يعي الحمار الجديد مقصد الجهة التي تسعى اليه العربة. ما يهم في تلك الحركة الجماعية المتناسقة إيقاعها الذي يفضي الى راحة تستطيبها النفس.
قادتني قدماي إلى مكان عملي الجديد ولما يزل ذلك الأيقاع يتصادى داخل رأسي بآليته المجردة.
همس الحمار الأبلق:
- إيه يا زميلي .. لعلك تدرك أن لا راحة لنا ، ذلك قدرنا!
أجابه الآخر لاهثا:
- لكأنما ُقدّرعلينا أن نهرول هكذا دون غاية ترجى!
استدرك الأبلق :
- هل أطعموك جيدا؟!
- ليس كثيرا.. كأن صاحبي قد بدا عليه الأستعجال!
- وهل شربت كفايتك ؟
- لا أخفيك كانت وجبة طعامي جلها من قشور البطيخ.
- ترى ما سر قدومك معي .. ايعتزم صاحبنا إنهاء خدماتي؟
- ليس من هذا شيء. ربما أنعم الله عليه بوسع من رزقه.
العربة تغذ السير .. على قارعة الطريق وقف أطفال وصبية يحيّون الموكب البهي .. وان تجاوزهم لفت نظرهم الحمار ذو الحبل فتبعوه حذرين يرشقونه بخفيف حجارة الطريق وان ابتعد مسافة مالوا الى ما هو ثقيل. العربة تهرول لا تلوي على شيء وحوذيها الصغير ينشدّ مأخوذا بلوحة السماء وما خلفته الشمس من الوان عجيبة. بدا له صف الأشجار البعيدة يدور ، مستغربا كيف لا تحرك الطيور اجنحتها وهي تلف وتدور في كبد السماء. وجوه الناس تنظره دون اكتراث ، ما تبقى في ذهنه ملابسهم الرثة الباهتة .وجوههم التعبى التي لا تنافس لون ملابسهم تدور أيضا ولكن ليس كبقية صف الأشجار عند الأفق.
لفحت الشمس وجه الحوذي فطبعت عليه قسوتها.ربما استطاع أن يرد على تلك الوجوه الكالحة بابتسامة من عنده دون مقابل. ينهر حماره بين الفينة والأخرى بلازمته المعتادة التي تنفلت من زاوية فمه بشكل جعل فكّه يبدو معوجّا. ينتبه أخرى الى أذني الحمار المنتصبتين على غير عادتهما فيعاجله بضربة من عصاه ، يشد هذا الأخير العربة الى أمام.
أن ينسحب الرسن جهة اليمين وقليلا الى وراء يتجه الحمار يمينا . حالا تقف العربة بأنين صريرها النشاز. ترجّل الحوذي فبدا أكبر مما هو عليه .
مضى تجاه ممر طويل من كثيف قصب ودغل وهو ينق وينط كضفدعة. نادى بصوت عال فأجابه آخر من بين أحراش واكوام لاقراص عملت من روث الأبقار مؤونة وقود. دلف الى الداخل تاركا خلفه صوت إجتيازه لحشائش كثيفة وقصب مزدحم.
التفت الحمار الأبلق وقد بدا عليه تعب الطريق:
- لا بأس عليك يا صديقي.. ستتعود على مشاق الحياة.
- لولا هذا الحبل اللعين لكان بمقدوري تناول شيء من تلك الحشائش الطازجة!
- هوّن عليك سيعود صاحبنا بشيء منها فلا تستعجل.
إن هي الآ لحظات حتى عاد الحوذي بصحبة شخص آخر لا يظهر منهما سوى أقدامهما حيث غطت أجسامهم كوَم حصاد الحشائش..
نفضا حملاهما تباعا. عادا ثانية. امتلآت العربة . ما عاد الحمار الثاني يرى صاحبه الأبلق. قبل أن يعتليا ظهر العربة تقدم الحوذي عابثا بزهرة برية بلقاء يشممها للحمار ثم ليثبتها قريبا من عينه في ثنية اللجام . في طريق عودة الجميع كانت فرصة طيبة اغتنمها الحمار المتدرب ليأكل مما تراكم أمامه من حشائش. انتبه الحوذي فنزل مسرعا ليعاجله بضربات تأديبية من عصاه الغليظة ولسانه يقذف منفلتا بأقذع الشتائم.
انتفض الحمار قيد التدريب لما أصابه من ألم مبرّح رافسا بقائمتيه الخلفيتين في الهواء. فتح الأبلق فـَيه ناهقا بأعلى ما يستطيع. أطال نهيقه وهوعلى ذلك الحال فعلـّق الحوذي ملتفتا لصاحبه:
- هل رأيت حمارا يضحك كثيرا كهذا !؟ نحى صاحبه جانبا يتفحص الحمار مضيفا :
- أفاتكَ إنه الآن يرى العالم أبلقا!
رحلة العودة سريعة. وصلت العربة الى مستقرها أخيرا عند منهل للأبقار في منطقة واسعة الخضرة أحيطت بسياج منيع . ألقت حمولتها قرب أبقار شرهة جائعة أتت على كامل حمولة العربة فيما واصلت فكوكها تعمل كمحركات آلية مدرعة. ظلت عيونها الجاحظة بلادة ً شاخصة ًصوب العربة طلبا في المزيد!
تململ الحوذي قبل أن يقفل راجعا وهمهمة من كلمات ضاع اغلبها بين شتائم يائسة مرددا:
- كل هذا الطعام وشحّة في الحليب ! كم اشتهي أن أذبح الجميع!
عاد الى العربة . قبل أن يقفزالى سطحها انهال على الحمار المتدرب بالضرب ، عاونه صاحبه كأنما استهوته اللعبة . بالمقابل مضى الأبلق يصيح غارقا في ضحكة عميقة!
كانت تلك تجربته الأولى ، ما عرف بعدها الحمار المتدرب كم سيكلفه درسه الأول في أدب تناول الطعام من بين دروس أخرى آتية ولا ريب في الطريق.
نوديّ عليّ من غرفة مجاورة. استغربت كيف تسنى لهم معرفة مكان عملي الجديد! رفعت السماعة مترددا. بدا الخط مشغولا. أصخت السمع منزعجا، واذا بضحكة منكرة تخترق صدغي كطلق مباغت . صعقت فزعا متلعثما راميا بسماعة الهاتف من يدي وانا ادور من حولي وصوت قادم من السماعة يلح : ألم تهاجر بعد ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل