الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصدع

عبد العزيز المسلط
سياسي وباحث اكاديمي

(Abdulaziz Meslat)

2021 / 3 / 8
السياسة والعلاقات الدولية


انهيت للتو في تمام الساعة التاسعة مساء بالتوقيت المحلي لمدينة كليفلاند، مسودة الكتاب الذي عملت عليه تقريباً لسنتين والذي كان مشروع بحثيّ متقدم في السياسات المقارنة!
أسلط في هذا المؤلف الجديد الضوء على أركان تشكل الدولة الليبرالية الحديثة تحت تأثير الاتجاه النيوليبرالي، والذي استحوذ على تفكير منظري العولمة ومآلاتها ومواطن التأثير العولمي في أجهزتها واتجاهاتها المؤسسية، ونمط وطبيعة التحولات في بنية الليبرالية الجديدة إنطلاقاً من ثلاثة مقولات رئيسية نادت بها المدرسة النيوليبرالية!
تمثلت المقولة الأولى في "معضلة العقيدة" حسبما جاء بها توماس رايت في كتابه (كل التدابير ما عدا الحرب! التنافس على القرن الحادي والعشرين ومستقبل القوة الأمريكية)، الذي اشار فيه بوضوح إلى أن التحولات في السياسة الأمريكية تسببت في عدم استقرار النظم الإقليمية المختلفة حول العالم بسبب "معضلة العقيدة"، والتي تمثلت بالتحالفات الأمريكية التاريخية التي لم تبنى على أسس أيديولوجية حيث أشار رايت الي أن هذه المعضلة ستسبب تراجع فاعلية الدور الأمريكي في دعم الاستقرار في هذه النظم وتوتر علاقات الولايات المتحدة بحلفائها أكثر فأكثر، وتراجع جاذبية النموذج الليبرالي الديمقراطي الذي يعد الدعامة الأساسية للدور الأمريكي في العالم.
رايت سبق له أن سلط الضوء على هذه المسألة من خلال نشراته الجامعية التي كانت تصدر عن جامعات جورج واشنطن، وجامعة كولومبيا بالذات في أن خسارة الدور الأمريكي في العالم سيكون بسبب ابتعادها عن عقيدة تحالفها الديني المسيحي مع أوربا، إضافة الى التركيز على الجرعات الديمقراطية في مؤسسات الدولة، وفتح آفاق التعليم بشكل ليبرالي ما يعني أن هذا سيقود امريكا الى أن تصبح "روسيا بيضاء ثانية"!
المقال الآخر هو ما تناوله عبقري الليبرالية الجديدة فينبار ليفزي في مؤلفه (من العالمي إلى المحلي: صناعة الأوضاع ونهاية العولمة From Global to Local: The Making of Things and the End of Globalisation
حيث حدد في رؤيته للعالم الجديد تفسيراً لإنهيار النظام العالمي الجديد وتشكل نظام أكثر تعقيداً يقوم على تحالف ثنائي المصير يرهن المنظومة العالمية بقوانينه ويتقاسم النطاق العالمي ما بين شرق وغرب.
كما ويرى ليفزي أن انهيار النظام العالمي لن يكون رهن بسقوط الدولار، أو بتراجع التبادلات التجارية العالمية، او بانكماش اقتصاديات السوق، بل سيكون من خلال (آلية شديدة الإحكام فيما بين الاقطاب الاكثر تأثيراً في زمن النظام العالمي الحالي)! وهنا ستؤدي هذه الآلية الى وضع قوانين جديدة لنهاية التقسيم العالمي للاقتصاد، وتصدع نموذج "مصنع آسيا" الذي قام على انتقال الشركات العالمية للتصنيع في الدول الآسيوية، وهو ما يطلق عليه العودة للنطاق
الجغرافي الأقرب (nearshore) بالتناقض مع اتجاهات نقل التصنيع للخارج سابقًا (offshore).
ومما لاشك فيه أن هذا الاتجاه قد يؤدي الى ازدياد الفقر العالمي، والدفع باتجاه خلق شروط "كونية" عالمية جديدة للدول الاخرى لاعادة ربط مصيرها في تلك الموجة الجديدة من الاقتصاد، وبالتالي لن يكون هناك أية قوانين محلية "وطنية" تتمتع باستقلالية سيادية لتلك الدول!
واشار ليفزي بدلالة عجر منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي عن امكانية تحقيق "فائض الرخاء الاجتماعي" أو العدالة الاجتماعية العالمية بسبب سلطات القطب الواحد، وسيادته المطلقة على مؤسسات النقد العالمية التي يحكمها الدولار. إلى أن أثار مصير العولمة سيتضاءل بعد صعود التيارات القومية والشعبوية التي تنتهجها الدول التي تنادي بالانغلاق والحمائية ما ستتطلب الحاجة إلى نظام يتماشى مع تلك المتغيرات والمعطيات العالمية، ومن هنا سيتشكل النظام العالمي الجديد على أنقاض النظام العالمي الحالي الذي انتهت صلاحية بقاءه وشروط استمراريته!
وكان ليفزي من أبرز المفكرين الذين بدأوا بالشروع لتأسيس النظرية الجديدة للمدرسة الاقتصادية الحديثة والتي عللها بفكرة اقتصاد ما بعد النيوليبرالية، ما يدلل على وجود ارتداد عن الليبرالية الجديدة على مستوى العالم، وصعود للسلطوية السياسية التي جاءت كأحد أبرز تركات النيوليبرالية مع أزمة البقاء التي يمر بها الغرب بصفة عامة، إضافة إلى تأثيرات صعود اليمين المتطرف في أوروبا وإعادة بعث للعقيدة الدينية لدى اليمين المتطرف وتأثيرها على الشارع الاوربي.
ومما لاشك فيه أن هناك توقعات غير متفائلة عبرت عنها معاهد دراسات ومؤسسات إعلامية مختلفة لما بعد 2020، هيمنت عليها صورة لعالم مضطرب يموج بالتحولات المتسارعة وغير المتوقعة، والصراعات الداخلية، وتهديدات صراعات القوى الكبرى، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، مع تصدع الدعائم المؤسسية والقيمية لحالة الاستقرار العالمي التي سادت على مدار عقود طويلة نتيجة اضطراب النظام العالمي وتهاوي البنى المؤسسية الدولية فيه وعجزها عن لعب دور أكثر استقلالية في حماية وتحصين المجتمع الدولي، وشعوب العالم من الفقر والمرض والصراعات البشرية!
في كتابي هذا سلطت الضوء بشكل نقدي على إعلان ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الأمريكية والدبلوماسي الأمريكي السابق، في دعوته لوضع حد للنظام العالمي الحالي الذي تشكل منذ نهاية الحرب الباردة وبداية "عصر الفوضى" والذي تسوده التهديدات والتحولات السريعة المتوقعة وغير المتوقعة، واعلان وفاة هذا النظام وذلك كما جاء في كتابه المعنون "عالم تسيطر عليه الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم.
World in Disarray: American Foreign Policy and the Crisis of the Old Order".
حيث قال ريتشارد هاس بوضوح؛ "أنه لم يعد النظام العالمي الذي لا نريد للولايات المتحدة أن تقوده، أية قابلية للاستمرار بعد انهيار أركانه الأساسية"، وطبعاً كانت هذه هي المقولة المركزية التي تأسست عليها أطروحة هاس. ويرصد كتابه عملية التفكيك التي شهدتها أركان النظام العالمي ودعائمه مع انتشار "فواعل عصر العولمة" وصعود الظواهر والتهديدات العابرة للحدود، مثل: الأوبئة، والتهديدات الإرهابية، والقرصنة البحرية، بالإضافة لتصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وأزمات الثقة بين الحلفاء، وتزايد النزاعات المسلحة، وعدم الاستقرار الداخلي الذي وصلت تجلياته إلى الولايات المتحدة".
ودعا هاس إلى تأسيس "نسخة جديدة من النظام العالمي" (World Order II)، يقوم على إعادة إنتاج المبادئ التقليدية التي حكمت النظام الدولي وكفلت له الاستقرار، مثل: السيادة، والشرعية، وتوازن القوى، وفي هذا النظام تركز الدول ذات السيادة على أداء واجباتها تجاه النظام الدولي الجديد بقدر ما تسعى لتحقيق مصالحها".

أما في المقولة الثالثة التي تناولتها في كتابي هي في ما دعت إليه رائدة الحداثة والتنمية آن ماري سلوتر في كتابها "رقعة الشطرنج والشبكة"
The Chessboard and the Web: Strategies of Connection in a Networked World
والتي دعت فيه إلى ضرورة إعادة هيكلة التفاعلات الدولية كي تسودها علاقات التعاون والمكاسب المتبادلة (Win-Win Relations) والاستفادة من الشبكات العالمية في تحفيز التعاون وتحجيم المباريات الصفرية (Zero- Sum Game) التي تحكم علاقات القوى الكبرى والتي من شأنها أن تقود إلى" تعطيل رؤية مشتركة أكثر وضوحاً لنظام قائم على مهارات التنمية والتطوير"، ودعت الى إمكانية جعل العالم كله شبكة واحدة تتبارى فيما بينها كرقعة الشطرنج من اجل خدمة الانسانية ودعم أكبر لمنسوب العدالة الاجتماعية وتحقيق مؤشرات أكثر مصداقية للتنمية العالمية، وزيادة فرص الفرد في تحقيق ذاته من خلال العمل والتعليم والمستوى المعيشي اللائق.

واعتبرت آن ماري سلوتر أن نهج الشعبوية الجديدة والانفرادية، إنما تمكّن الانعزاليين حول العالم من [إغلاق منافذ الهواء على البشرية] وبالتالي ستقود استراتيجياتهم هذه الى زيادة خطر التطرف، والارهاب، والكراهية، والتمرد على القواعد والمؤسسات والقوانين وبالتالي فقدان الأخلاق والرؤى الصحيحة لمجتمعات متطورة وأفراد متحضرين!
ورأت بأن ثورة الاتصالات الرقمية ومنافذ التواصل الاجتماعي المتعددة إنما كسرت هوة الاختلاف بين البشر انفسهم، واذابة كرة الثلج التي كانت عائقاً ثقافياً بين الشرق والغرب، وعلمت المواطن العالمي أن يكون له [جواز سفر عالمي من خلال هوية رقمية وكلمة سر على شبكة الانترنت العالمية]، وأصبحت التكنولوجيا ظاهرة متحضرة جداً سبقت كل التحالفات السياسية والصراعات الدموية بين الشعوب! ما يعني أن التكنولوجيا هي الجهة الاخرى من (صراعات الهوية) لانها لا تؤمن بالتحالفات، ولا تؤمن بالقوة، ولا تبدي الإعجاب بالقادة الأقوياء والمؤثرين. لأنه وبكل سهولة اصبحت شبكة الانترنت هي العالم الموازي الجميل والأقوى لكل العالم الذي أنتجه النظام العالمي الحالي!
واعتبرت آن ماري سلوتر أن انحسار مد العولمة السلبية ستكون بداية النهاية لعولمة جديدة أكثر عدلاً يشكلها التطور التكنولوجي والمعرفة الرقمية، وبالتالي تصنعها أيدي تلاميذ المدارس والجامعات وشباب المقاهي ورفاق المسرح!

وفي بعض الفصول قدمت في كتابي افكار ومقاربات مختلفة لكتاب ومفكرين مؤثرين مثل ستيف ريتشارد ورؤيته حول حتمية وضرورة صعود الشعبوية. وايضاً إدوارد لوس في كتابه "تراجع الليبرالية الغربية" وحالة "الارتداد الديمقراطي المأمول الذي يجب أن يتيح المجال لآلة ليبرالية من نوع آخر وذلك بسبب الخلل في النموذج الديمقراطي الليبرالي الكلاسيكي، وانفصال التيارات الليبرالية عن المواطنين في دولهم نتيجة دفاعهم المستميت عن العولمة واقتصاديات السوق وتوظيفهم للغة باردة غير تفاعلية تم استخلاصها من قواميس المستشارين الإداريين وشركات الاستشارات وحوارات منتدى دافوس الاقتصادي".
وتناولت بعض مما قدمه ديفيد غودهارت في كتابه "الطريق إلى مكان ما: ثورة الشعبويين ومستقبل السياسة"، حيث يرى أن صعود الشعبوية يُعد بمثابة "ثورة مضادة صامتة" (Silent Counter Revolution) لمواجهة تهديدات العولمة للهوية والمصالح الاقتصادية للطبقات المهمشة وغير المستفيدة من الانفتاح الاقتصادي.
كما وتناولت من زاوية جدلية بعض تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي على السياسة والمجتمعات، في إطار ما أطلق عليه عصر نهاية التنوير (The age of Unenlightenment) كما جاء في كتاب"وهم المعرفة" والذي يُشير إلى أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي قامت بتغذية الوهم لدى الأفراد بمعرفة كل شيء، وهو ما يتنافى مع التقسيم الإدراكي للعمل (Cognitive Division of Labor)، وتوزيع معرفة الأفراد بين نطاقات مختلفة.

لم اكن ارغب فى الاطالة والاسهاب بهذا القدر عن كتابي الجديد إلّا من باب تسليط الضوء على اهمية مضامينه التي باتت ملّحة في هذه المرحلة الدقيقة في حياة مجتمعاتنا واوطاننا بالذات، وقد لا يعجب شخص بالطرح الذي تناولته في هذا الكتاب، لكنه يصب في تشخيص ورصد الحالة التي يمر بها العالم اليوم. وربما قد لا يتمكن بعض الاصدقاء من قراءته حين نشره لاحقاً، لذلك اردت تمريره على عجالة وهو بمسودته الاولية!
وبكل يقين سيكون عالم مابعد 2020، غير عالم ماقبل 2020 بكل تفاصيله وحيثياته، وهذا ما تناولته في هذا الكتاب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة