الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن مفهوم حقوق الإنسان ومراحل تطوِّره

حيدر جليل خلف

2021 / 3 / 9
حقوق الانسان


تُشير حقوق الإنسان إلى مفهوم البشر إنَّه يستند على أنَّهم يتمتّعون بحقوق أو وضع عالمي موحّد، بغض النظر عن الولاية القضائية القانونية، وكذلك عوامل التوطين الأخرى، مثل العرق والجنسية، وهذا التفسير لمصطلح ومستوى حقوق الإنسان له درجة معينة من التباين بين استخداماته في مختلف الولايات القضائية المحلية حول العالم؛ والاختلاف في كل من المواد ذات المعنى وكذلك في بروتوكولات وأنماط التطبيق. وبشكل عام، فإنَّ حقوق الإنسان هي تلك الحقوق المُعترف بها على أنّها متأصلة في كل إنسان وجزء لا يتجزأ منه بحكم ولادته وهي أساسية بشكلٍ مطلق لجوهر الحياة البشرية وتطورها.
يمكن وصف الفكرة العامة لحقوق الإنسان من خلال تحديد بعض الخصائص المُحدّدة، والهدف هنا هو الإجابة على سؤال حول ماهية حقوق الإنسان من خلال وصف عام للمفهوم بدلاً من قائمة حقوق محددة. ويمكن أن يكون لدى اثنين من المفكرين أو الباحثين نفس الفكرة المشتركة لحقوق الإنسان على الرغم من اختلافهما حول ما إذا كانت بعض الحقوق المعينة من حقوق الإنسان. وتخلق حقوق الإنسان فكرة عن الحرّية، حيث يمكن للبشر أن يتصرَّفوا بطريقة مستقلة دون الوقوع في شرك نظام قمعي من الأوامر والمحظورات، والافتراض الأساسي هو أنَّ مثل هذا النوع من الحرّية سوف يُستخدم ليس فقط لتعزيز المصلحة الفرديّة، ولكن أيضًا من أجل التأثير العام.
إنَّ المعنى الأكثر عمومية للمصطلح هو المعنى الذي لا يمكن تطبيقه إلا على المستوى العالمي، وبالتالي فإنَّ مصطلح "حقوق الإنسان" غالبًا ما يكون في حد ذاته نداءً لمثل هذا المبدأ المتجاوز، دون الاستناد إلى المفاهيم القانونية القائمة. ويشير مصطلح "الإنسانية" إلى العقيدة النامية لمثل هذه القيم القابلة للتطبيق عالميًا؛ وعلى المفهوم الأساسي المتمثل في أنَّ البشر لديهم حقوق فطرية، والتي غالبًا ما تستند إلى مفاهيم قانونية محلّية أكثر تحديدًا ووضوحًا.
ونجدُ عادةً في داخل مجتمعات معيّنة، مؤشرات تُشير إلى أنَّ "حقوق الإنسان" تقوم وتستند على معايير السلوك المقبولة في الأنظمة القانونية الخاصّة بكلٍ منها، وهي بلا شك تتمثل في كل واحدة من النقاط التالية:
1- رفاهية الأفراد.
2- حرية واستقلالية الأفراد.
3- تمثيل المصلحة الإنسانية في الحكومة.
تشمل هذه الحقوق بشكلٍ عام الحق في الحياة، الحق في مستوى معيشي لائق، حظر الإبادة الجماعية، التحرُّر من التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، حرُّية التعبير، حرُّية التنقل، الحق في تقرير المصير، الحق في التعليم والحق في المشاركة في الحياة الثقافية والسياسية. وتستند هذه المعايير إلى التقاليد القانونية والسياسية للدول الأعضاء في الأمم المتّحدة وهي مدمجة في الصكوك الدولية لحقوق الإنسان.
في التقاليد السياسية الغربية تُعتبر حقوق الإنسان "غير قابلة للتصرّف" وأنَّها مُلك لجميع البشر، وهي ضرورية للحرّية والحفاظ على نوعية حياة "معقولة"، وأساس هذا التقليد السياسي الذي ربما يكون أفضل تمثيل في دستور الولايات المتحدة (1783) والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن (1793) حيث يكون تكافؤ الفرص بين الأفراد.
إذا كان الحق غير قابل للتصرّف فهذا يعني أنّه لا يمكن منحُه أو مقايضتُه أو بيعُه، وقد تكون الحقوق أيضًا غير قابلة للتقييد (لا تقتصر على أوقات الطوارئ الوطنية)؛ وغالبًا ما تشمل هذه الحق في الحياة، الحق في المحاكمة فقط وفقًا للقوانين السارية وقت ارتكاب الجريمة، الحق في عدم التعرّض للعبودية والحق في عدم التعرّض للتعذيب.
إنَّ كلمة "إنسان" تعني أن كل الناس مستحقون للحياة؛ وكلمة "حقوق" تعني أنَّ هذه استحقاقات يمكن إنفاذُها بموجب القانون، ونحن ننظر إلى القيم الكامنة وراء حقوق الإنسان وكيف تتطور باستمرار، وهي تظهر عادةً نتيجة النضالات الشعبية المستمرة ضدَّ المظالم.
إنَّ حقوق الإنسان هي تلك الحقوق المتأصِّلة في الإنسان والتي بدونها لا يمكنهم العيش كبشر، إنَّها الحقوق التي تأتي مع ولادة كل شخص، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو حالته، يستحقها لمجرد أنَّه إنسان، وبالتالي فإنَّ حقوق الإنسان هي حقوق عالمية أصيلة وغير قابلة للتصرّف ولا تُمس لجميع أعضاء الأُسرة البشرية.
وفي الشريعة الإسلامية فإنَّ حقوق الإنسان تعني تلك الحقوق التي منحها الله ولا يمكن تعليقها أو إلغاؤها، حيث لا يوجد هدف أسمى يخضعون له، وهذه الحقوق التي تمَّ بيانُها في كثيرٍ من المواقف هي جزءٌ لا يتجزّأ من مبادئ العقيدة الإسلامية الأصيلة.

الأُسس التاريخية لحقوق الإنسان
إنَّ أقدم ميثاق مسجَّل لحقوق الإنسان في العالم حُفر على أسطوانة قورش الشهيرة، كتبه وأكده الإمبراطور الفارسي كورش الكبير في حوالي عام 538 قبل الميلاد، ويُعتقد أنَّ ميثاق كورش الذي تبنته الإمبراطورية الفارسية الأولى، متقدِّم جدًا بالنسبة لعصره، حتى أنَّه يُقارن بشكلٍ إيجابي بالإعلانات الحديثة لحقوق الإنسان، والتي يتناقض معها أيضًا على أنَّها أكثر روحانية، ولا شكَّ أنَّه يتضح أنَّ التطور من فترة رموز حمورابي لبابل القديمة إلى ولايات عصبة الأمم، يُظهر الوعي بحقوق الإنسان وتقدّمه ببطء.
وبصفتنا البشرية الفردية فإنَّ لدى كلِّ واحدٍ منا شعور فطري بالحقوق والحرّيات الأساسية التي تخصُّنا، والتي لا يمكن أن تنكرها أي حكومة، وإنَّ الفهم الأساسي والاعتراف بحقوق الإنسان من طبيعتنا، ويمكن تتبع فكرة حقوق الإنسان بنجاح من خلال الهياكل اللغوية والأدبية والثقافية والسياسية لجميع المجتمعات.
إنَّ جميع الأنظمة القانونية الرّئيسية في العالم تقدّم مساهمات مهمَّة في فهمنا لحقوق الإنسان كما تفعل المعتقدات الدينية الأكثر ممارسة على نطاق واسع، بما في ذلك التقاليد البوذية والمسيحية والكونفوشيوسية والهندوسية والإسلامية واليهودية.
يمكن إرجاع محاولات التعبير عن هذا الفهم الفطري إلى القوانين القديمة، مثل رموز حمورابي في بابل، وإلى المذاهب اليونانية والرومانية ومن خلال أعمال الفلاسفة والإنسانيين مثل القديس توما الأكويني، وباروخ سبينوزا، وجوتفريد فيلهلم ليبنيز، وهوجو، وغروتيوس وجون لوك، وجان جاك روسو، فقد ساهم جميع هؤلاء الفلاسفة في مفهوم "القانون الطبيعي" الذي مهَّد الطريق لاعتراف واسع بحقوق الإنسان وحرّياته، ويرى القانون الطبيعي أنَّ الناس يُولدون في حالة "جيدة" بالفطرة، وأنَّ بعض الحقوق الأساسية يمكن استنتاجُها بشكٍل معقول من هذه الحقيقة.
على الرَّغم من أنَّ فلسفة القانون الطبيعي أعطت الكثير من الأساس المفاهيمي لحقوق الإنسان، ومع مرور الوقت، أصبح من المهم بشكلٍ متزايد ترجمة المفاهيم الغامضة للحقوق المستمدة من الطبيعة إلى قوانين مكتوبة محدَّدة من شأنها أن توفر حماية ملموسة لحقوق الفرد داخل المجتمع الأكبر وهو الإطار المجتمعي، وتكمن السوابق الكبرى في الاعتراف بحقوق الإنسان وحمايتها في وثائق مثل ماجنا كارتا البريطانية، وقانون الولايات المتّحدة للحقوق، والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان.
بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الأولى، تمَّ تأسيس عصبة الأمم، وأنشأ ميثاق العصبة "نظام انتداب" يُلزم أعضاء العصبة بتعزيز "رفاهية وتنمية" الشعوب في الأراضي التي كانت لهم ولاية عليها، وكانت هذه كلُها تطورات دولية مهمة في الواقع، فهي ساعدت العديد من المفاهيم والقناعات والأحداث والقوانين والمؤسسات في النهوض بقضية حقوق الإنسان قبل الأربعينيات، لكنَّ تقدير حقوق الإنسان كأساس لعالم حر وعادل وسلمي لم يكن ناضجًا، وكان الالتزام ضعيفًا، وعزَّز ذلك الوضع أن أثبتت عصبة الأمم أنَّها منظمة غير فعالة ـ وسرعان ما انهارت، مما أدَّى إلى حربٍ عالمية أخرى.
إنَّ أفضل التواريخ المعروفة لحركة حقوق الإنسان تميل إلى أن تبدأ بالأديان والمجتمعات القديمة، وتُظهر تطوّر مفاهيم ومؤسسات حقوق الإنسان عبر الحضارات، حيث يمكن إرجاع جذور فكرة حقوق الإنسان إلى العصور القديمة (دور الفرد في الدولة) لكن فكرة الحقوق المدنية والسياسية تنبع من الحريات الليبرالية التي دعا إليها جون ستيوارت ميل في كتابه (عن الحرية (On Liberty، ويمكن أيضا إرجاع مفاهيم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى عناصر هيجل في كتاب "أصول فلسفة الحق".
أمّا أصل الحقوق الإيجابية الحديثة في القانون الدولي فيمكن إرجاعها إلى إنشاء منظمة العمل الدولية في عام 1919 كرد فعل غربي على الإيديولوجية الاشتراكية للثورة الروسية عام 1917.

الأساس الفلسفي لحقوق الإنسان
يرتكز هذا الفهم ويتّضح من خلال نظرية عملية التطور البيولوجي والاجتماعي المرتبطة بهيوم، وهي تتجلّى كنمطٍ اجتماعي لوضع الأسس والقواعد كما في النظرية الاجتماعية للقانون عند ويبر.
يتضمّن هذا النهج فكرة أنَّ الأفراد في المجتمع يقبلون قواعد من السّلطة الشرعية مقابل ميزة أمنية واقتصادية، وقد تمَّ تطوير العديد من المناهج النظرية لشرح كيف تصبح حقوق الإنسان جزءًا من التوقعات الاجتماعية. وتنظر النظرية البيولوجية في الميزة الإنجابية النسبية للسلوك الاجتماعي البشري على أساس التعاطف والإيثار في سياق الانتقاء الطبيعي. وهناك نظريات أخرى ترى أنَّ حقوق الإنسان تقنّن السِّلوك الأخلاقي الذي هو نتاج إنساني اجتماعي تمَّ تطويره.
وتؤسّس نظريات القانون الطبيعي حقوق الإنسان على النظام الأخلاقي "الطبيعي" القائم على التعاليم الدينية، أو الفهم المشترك المفترض للعدالة، أو الاعتقاد بأنَّ السِّلوك الأخلاقي هو مجموعة من الوصفات الصّالحة موضوعيًا، في حين تميل المجتمعات الدينية إلى محاولة تبرير حقوق الإنسان من خلال الحُجج الدينية، على سبيل المثال، حاولت الحركات الليبرالية داخل الإسلام استخدام قصة آدم في القرآن لدعم حقوق الإنسان في سياق إسلامي.
وتستند نظريات أخرى على الفاعلية البشرية، وتطرح مثل هذه البنى للاتفاق على القواعد المتعلقة بالمبادئ النفعية التي يتوسّط فيها التفكير العام، ويعتمد نموذج التطوّر الاجتماعي على احتياجات الإنسان والنضال الذي يتضمّن تحليلاً لعملية وضع القواعد والمعايير. وقد تأخذ هذه المعايير شكل القانون من خلال شكل معين من أشكال اتخاذ القرار الرّسمي للمؤسّسات المرتبطة بنظام قانوني، وإنَّ عملية التفكير العام من خلال وضع معايير حقوق الإنسان التي تقضي تدريجيًا على السّلوك المرتبط ثقافيًا الذي لا يتوافق مع حقوق الإنسان المعاصرة، وبهذا المعنى، تتكيَّف القواعد الثقافية الخاصّة مع معايير حقوق الإنسان المتطوِّرة على النحو المحدَّد في الدّساتير الوطنية والصّكوك الدّولية لحقوق الإنسان.

تطوّر حقوق الإنسان
لم تكن مفاهيم الحق في الحياة والحق في الحرّية وحقوق الإنسان الأساسية الأخرى غير معروفة لشعوب الفترات السّابقة، يُخبرنا شيشرون، الفقيه الروماني العظيم، أنَّ الرواقيين اليونانيين - حوالي 200-300 سنة قبل الميلاد - طوروا على أساس ما نعتبره الآن حقوقًا أساسية للإنسان، نظرية حقيقية للقانون الطبيعي، تقضي بعدم انتهاك هذه الحقوق، وتمثل حقوق الإنسان الأساسية هذه النسخ المحدثة من الحقوق الطبيعية التقليدية.

1- تطور حقوق الإنسان في الحضارة اليونانية القديمة
بالنسبة لبعض المؤلفين، تعود أصول حقوق الإنسان إلى العصور القديمة اليونانية، وهم يعتبرون أنَّ حقوق الإنسان يجب أن تخضع للقانون الطبيعي، والمثال الكلاسيكي المأخوذ من الأدب اليوناني هو مثال أنتيجون: وفقًا لوفوكليس، عندما يوبّخ جريون أنتيجون على دفنها لأخيها على الرغم من منعها من القيام بذلك.
لذلك، ردَّت أنتيجون بأنَّها تصرَّفت وفقًا لقوانين الجنة غير المكتوبة وغير المتغيرة، وهذا هو الاتجاه العام في الفلسفة الذي هو النظر إلى مشكلة حقوق الإنسان - أو بشكل أكثر دقّة مشكلة الحقوق الطبيعية للإنسان من منظور عقيدة الرواقية.
ومع ذلك، يجب ملاحظة أنَّ مفهوم الحقوق الطبيعية قد تغلغل حتى في تطوّر نظريات القانون الطبيعي، واستفاد مواطنو دول المدن اليونانية من بعض الحقوق التي اعتبروها أساسية بالنسبة لهم. وهذه الحقوق على وجه الخصوص هي:
1- الحق في حرِّية التعبير (isogoria).
2- الحق في المساواة أمام القانون (isonomia).
3- الحق في المساواة في الاحترام للجميع (isptimia).
وتمَّ تطوير نظرية القانون الطبيعي، في واقع الأمر، بشكلٍ منهجي بعد انهيار دول المدن اليونانية وفقًا لقانون الطبيعة، وكانت الفكرة المركزية للفلسفة الرواقية هي أنَّ مبادئ القانون الطبيعي كانت عالمية بطبيعتها، لكن كان تطبيقُهم لا يقتصر على أي فئة من الأشخاص في دولة معينة؛ بل ينطبق على الجميع في كل مكان في العالم، ولم تكن الحقوق الطبيعية للإنسان تجسيدًا لها، ولم تكن الامتيازات الخاصّة لمواطني دولة معينة، ولكنَّها شيء يستحقه كلُّ إنسان، في كل مكان، بحكم حقيقة كونه إنسانًا وكونه قوميا. لقد أوضحوا كذلك أنَّ الرِّجال يمكن أن يفهموا ويطيعوا هذا القانون حسب الأمور الطبيعية بسبب امتلاكهم المشترك للعقل والقدرة على تطوير وتحقيق الفضيلة، وبهذه الطريقة تمكَّن الفلاسفة الرّواقيون من التبشير بفكرة الأخ العالمي للبشرية وشدَّدوا على المساواة والحرّية للجميع.

2- تطور حقوق الإنسان في الحضارة الرومانية
كانت الصياغة الرواقية للقانون الطبيعي هي الأنسب للمزاج الروماني، لأنَّهم اعتقدوا من حيث المبدأ، أنَّ الإنسان يجب أن يُحسِّن نفسه على الصعيدين الوطني والأخلاقي، وفي الكتابة عن القانون الطبيعي - شيشرون (106-43) قبل الميلاد - مثل الفلاسفة الرواقيين، فهم ركَّزوا على الطبيعة العالمية له وقالوا إنَّ القانون الطبيعي له تطبيق شامل، لا يتغيَّر ودائم، إنَّه خطيئة لمحاولة تغيير هذا القانون، ولا يجوز محاولة إلغاء أي جزء منه ومن المستحيل إلغاؤه بالكامل.
ولن يكون هناك قانون مختلف في روما وأثينا أو قوانين مختلفة الآن في طبيعتها، لكن قانونًا داخليًا واحدًا غير قابل للتغيير سيكون صالحًا لجميع الأمَّة أو في جميع الأوقات، وقد طبَّق الرومان المفهوم الرواقي للقانون الطبيعي في تشكيل مجموعة من القواعد القانونية لإدارة العدالة، وهذه كانت أبرز مساهمة فكرية للرومان.
لقد طوَّروا هذه المجموعة من القواعد على أساس العُرف وكذلك من خلال منطلق تسخير العقل، وهم يتصرَّفون بهذه الطريقة ولم يكتفوا بتحديث قانونهم القديم، بل أكَّدوا أيضًا على دمج المعايير الأخلاقية العالية في الإجراءات القانونية، ولا ينبغي أن ننسى، خاصة عند الحديث عن الأهمية الحالية لحقوق الإنسان، أنَّ كل ما يُستمد من عالم Graeco-Rornan يرتبط بنظام اعترف فيه أرسطو بشرعية العبودية، في ذلك العالم، حيث كان من الطبيعي تمامًا أن يكون هناك اختلاف اجتماعي يستبعد الفكرة المركزية لحقوق الإنسان؛ المتمثلة في المساواة بين الرجل والمرأة.

3- تطور حقوق الإنسان في الحضارة الحديثة
يمكن القول إنَّ الاهتمام الدولي بحقوق الإنسان كظاهرة تستحق الوقوف عليها ودراستها والتركيز فيها هي ظاهرة حديثة المنشأ نسبياً، على الرغم من أنَّه من الممكن الإشارة إلى عدد من المعاهدات المتعلِّقة بالاتفاقيات الدَّولية التي تؤثر على القضايا الإنسانية قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أنَّه بمجرد دخول ميثاق الأمم المتَّحدة حيز التنفيذ عام 1945، فإنَّه يمكن لنا الحديث عن ظهور الحماية "المنهجية الواضحة" لحقوق الإنسان داخل النظام الدولي.
وهذا لا ينفي بالطبع جهود الأسلاف الذين سَعَوا من أجل إيجاد آليات الحماية الدَّولية لحقوق الإنسان، سواء كانت هذه الجهود محلّية لتأمين الحماية القانونية للأفراد ضدَّ التجاوزات التعسّفية لسلطة الدولة أو أعلى من ذلك، لأنَّ هذه المحاولات الداخلية لها تاريخ طويل ومميَّز وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنشاط الثوري الموجَّه نحو إنشاء نظام دستوري قائم على الشرعية الديمقراطية وسيادة القانون في دول مختلفة من العالم.
ورغم أنَّ بعض العلماء يدعون لاقتفاء أثر مفاهيم حقوق الإنسان في أوليات حقوق الإنسان والرجوع في ذلك إلى الوراء، وبالتحديد إلى الفلسفة الرواقية في العصور القديمة عبر فقه القانون الطبيعي من غروتيوس الآمرة للقانون الروماني، لكن يبدو واضحا أنَّ أصول المفهوم الحديث المرتبطة بتأصيلات تلك الفترة القديمة هي التي يمكن العثور عليها في اللغة الإنجليزية والفرنسية وقد ظهرت جليّة مرافقة لأغلب الثورات التي حصلت في نهايات القرن السادس عشر وفي القرنين السّابع عشر والثّامن عشر.
خلال عصر النهضة المتأخر، كان مفهوم حقوق الإنسان يُعزّى فقط في كتابات فقهاء مثل بودان (فرنسا)، غروتيوس (إيطاليا)، فاتيل، جون لوك (إنجلترا)، جان جاك روسو (فرنسا)، بلاكستون (إنجلترا)، كارل ماركس (ألمانيا) الذي في الواقع لاحظ أنَّ جميع الأشخاص يستحقون حقوقًا طبيعية معيَّنة كإنسان منذ أن أصبحت حقوق الإنسان شعارًا ضدَّ الظلم والإهانات التي ترتكبها الحكومات الاستبدادية أو التعسفية، والتي ساهمت في تطوِّر حقوق الإنسان إلى حدٍ كبير نتيجة للاستبداد السياسي. ومن أجل الحد من سلطة مثل هذه الحكومات الاستبدادية، بدأت المحاولات من قبل قادة الثورة في أجزاء مختلفة من العالم لوضع حدٍ أدنى معيَّن من الحقوق في المواثيق أو القوانين أو الالتماسات أو التَّصريحات التي يمكن أن يُطالب بها جميع المواطنين.

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ميثاق البشرية الأعظم
لقد انقضى أكثر من سبعين عامًا منذ اعتماد الأمم المتَّحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول 1948، وكان هذا الإعلان أحد الإنجازات الرَّئيسة الأولى للأمم المتَّحدة، والآن وبعد مرور كل هذه الفترة، يبقى هذه الإعلان أداة قوية تستمر في إحداث تأثير هائل على حياة الناس في جميع أنحاء العالم، وقد كانت هذه هي المرَّة الأولى في التاريخ التي يتم فيها اعتماد وثيقة تُعتبر ذات قيمة عالمية من قبل منظمة دولية.
ينبع اعتماد الإعلان العالمي في جزءٍ كبير منه من الرّغبة القويّة في السَّلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أنَّ الدُول الأعضاء البالغ عددها 51 التي شكّلت الأمم المتَّحدة في ذلك الوقت كانت متنوِّعة في أيديولوجياتها وأنظمتها السياسية وخلفياتها الدّينية والثقافية ولديها أنماط مختلفة من التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فإنَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمثّل بيانًا مشتركًا للأهداف والتّطلعات وهو يمثّل أيضا "رؤية للعالم الجديد كما يريده المجتمع الدولي".
منذ عام 1948، تمَّت ترجمة الإعلان العالمي إلى أكثر من 200 لغة ولا يزال أحد أشهر وثائق حقوق الإنسان وأكثرها استشهادًا به في العالم، وعلى مرِّ السِّنين، تم استخدام الإعلان في الدِّفاع عن حقوق الناس والنهوض بها، وتمَّ تكريس مبادئه في التَّشريعات الوطنية ودساتير العديد من الدّول المستقلة حديثًا ولا تزال تلهمُها، وقد وردت إشارات إلى الإعلان في مواثيق وقرارات المنظّمات الحكومية الدّولية الإقليمية وكذلك في المعاهدات والقرارات التي اعتمدتها منظومة الأمم المتّحدة. وقد سلَّط الإعلان الضَّوء بشكلٍ مباشر على عالمية جميع حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة وترابطها، وعزَّز فكرة أنَّ حقوق الإنسان - المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية - يجب أن تُؤخذ في مجملها ولا تنفصل عن بعضها البعض.

المَهمَّة الطّويلة والشاقّة لصياغة الإعلان واعتماده
عندما أُنشئت لجنة الأمم المتَّحدة لحقوق الإنسان في عام 1946، كانت تتألَّف من 18 دولة عضو، وكان البند الرّئيس على جدول الأعمال في جلساته الأولى هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وشكَّلت اللجنة "لجنة صياغة" كرَّست نفسها بشكلٍ حصري لإعداد مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتألَّفت لجنة الصِّياغة من ثمانية أشخاص من أستراليا وشيلي والصين وفرنسا ولبنان واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية والمملكة المتَّحدة والولايات المتَّحدة الأمريكية، وقامت الأمانة العامة للأمم المتَّحدة، بتوجيه من جون همفري، بصياغة المخطط (بواقع 400 صفحة) ليكون بمثابة ورقة عمل أساسية لهذه اللّجنة.
خلال عملية صياغة الإعلان العالمي التي استمرَّت عامين، حافظ واضعو المُسَوَّدَة على أرضية مشتركة للمناقشات وهدف مشترك، يتمثّل في احترام الحقوق والحرِّيات الأساسيَّة، وعلى الرغم من تضارب وجهات نظرهم حول بعض الموضوعات، فقد اتّفقوا على تضمين الوثيقة مبادئ عدم التّمييز، والحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، كما اتّفقوا على أنَّ الإعلان يجب أن يكون عالميًا.
في العاشر من كانون الأول 1948، في قصر شايو بباريس، تبنّت 51 دولة عضو في الجمعية العامة للأمم المتَّحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مع تأييد 48 دولة وامتناع ثماني دول عن التصويت (لم يكن هناك دولتان حاضرتان في ذلك الوقت)، وأُعلن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أصول حقوق الإنسان: ما قبل عام 1945
كانت المواثيق الأوروبية المبكِّرة التي دعمت فكرة بعض الحريات هي Magna Carta Libertatum أو ما يُصطلح على تسميتها بالعربية "الوثيقة الأعظم" لعام 1215، واتحاد أوترخت في عام 1579 (هولندا)، ووثيقة حقوق المملكة المتَّحدة في عام 1689.وعلى مدى القرون القليلة التالية، انفصلت فكرة الحرِّية تدريجيًا عن فكرة المكانة وكان يُنظر إليها على أنَّها حق لجميع البشر.
كانت الخطوة الرَّئيسة التالية هي عصر التنوير والعقل، وهو الوقت الذي تمَّ فيه تطوير مفاهيم حقوق الإنسان على نطاقٍ واسع. وقد عمل جون لوك، الذي طوَّر فكرة الحقوق الطبيعية، وجان جاك روسو الذي طوَّر عمل لوك وشرح فكرة "العقد الاجتماعي" حيث يتنازل الفرد عن بعض ما لديه، رغم أنَّ الحقوق الطبيعية لجهاز الدولة مقابل حماية الدولة ومساعدة الدولة في حماية الملكية "أفكار ذلك الوقت" كانت برجوازية للغاية.
كان هذا أيضًا هو الوقت الذي سعت فيه المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية من أجل الاستقلال، ووضعت إعلان الاستقلال الخاص بها عام 1776، بناءً على فكرة المساواة العالمية، ووجود بعض الحقوق غير القابلة للتصرُّف، وتمَّ دمج هذه الوثائق في نهاية المطاف في وثيقة الحقوق الأمريكية التي تُعدُّ جزءًا من دستور البلاد، ويمكن إثبات النُمو الدّولي لهذا المفهوم من خلال الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان (والمواطن) في عام 1789.
يمكن وصف حقوق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على أنَّها حقوق "كلاسيكية" تتعلَّق بحرِّية الفرد، وتمَّ إدراجُها في العديد من الدساتير الوطنية التي تمَّ إنشاؤها في هذا الوقت، إلى جانب الأدوار الأخرى للحكومات في مجالات التوظيف، التعليم، الصحة والرفاهية - وتُسمّى هذه الحقوق اليوم بأنَّها حقوق اجتماعية.
ومن المفارقات، أنَّه بدلاً من اعتبار الحقوق الكلاسيكية ذات أهمية دولية، كانت الحقوق الاجتماعية هي التي تجسَّدت لأوَّل مرَّة في اللوائح الدّولية، على سبيل المثال، تأسَّست منظَّمة العمل الدولية (ILO) في عام 1919 وكانت مُنشئ أنظمة العمل المختلفة ذلك الحين.

بعد عام 1945
في السّادس والعشرين من حزيران 1948، بعد سلسلة من الاجتماعات، وضع توقيع ميثاق الأمم المتَّحدة حقوق الإنسان بقوَّة في مجال القانون الدولي، ووافقت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتَّحدة على اتخاذ إجراءات معيَّنة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان، كما يتَّضح من الفحص الدَّقيق لميثاق الأمم المتَّحدة.
في عام 1946، تمَّ إنشاء لجنة الأمم المتَّحدة لحقوق الإنسان، وبعد أقل من عامين، قامت بصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (UDHR) الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتَّحدة (UNGA) في عام 1948، توالى بعد ذلك إعلان العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ICESC). إلى جانب البروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشأن إلغاء عقوبة الإعدام، تشتمل هذه الوثائق الخمس على الشَّرعة الدَّولية لحقوق الإنسان.
في يونيو 1993، تمَّ الاتِّفاق على إعلان وبرنامج عمل فيينا، وكانت هذه نتيجة للمؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان ويمكن القول إنَّها تمثّل مفهوم "المجتمع العالمي" لحقوق الإنسان في ذلك الوقت وهي سرد نهائي لتاريخ حقوق الإنسان من منظور أولئك الذين يكافحون من أجل الحصول عليها، باستخدام التنوير والتصنيع والحرب وتقرير المصير القومي والعولمة كعدسات يمكن من خلالها النظر إلى تطوِّرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية الأيرلندي: 100% من الفلسطينيين بغزة يواجهون شب


.. ثورات في الجامعات الأمريكية.. اعتقالات وإغلاقات وسط تصاعد ال




.. French authorities must respect and protect the right to fre


.. تحقيق مستقل: إسرائيل لم تقدم إلى الآن أدلة على انتماء موظفين




.. البرلمان البريطاني يقر قانونا مثيرا للجدل يتيح ترحيل المهاجر