الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فى بيتنا كلب -قصة قصيرة-

سليم صفي الدين

2021 / 3 / 11
الادب والفن


يا أسماء.. الساعة 9 يا بنت.. 

دق منبه بابا، كل يوم فى تمام الساعة التاسعة يجب علىَّ الاستيقاظ بحسب التوقيت المحلى لمنزلنا. كنت أقوم يوميًّا بصعوبة بالغة، كارهةً لحياتى برمتها، ولا أريد أن تمر علىَّ ساعة أخرى وأنا أعيشها. لكن كل هذا كان قبل وجود صغيرى وحبيبى "مو". حياتنا كلها فى منزلنا البسيط تحولت تدريجيًّا إلى الأفضل بعد قدومه، كأن أرضًا بورًا غمرتها المياه من السماء دون سابق إنذار، مقررةً أن تروى عطشًا استمر لعقود من الكلح والهوان وعِشْرة الموت.
تزوج أبى فى سن كبيرة، وكانت أمى تصغره بأكثر من عشرين عامًا، ولم ينجبا إلا أنا وإسلام. أمى لم تكمل تعليمها، فقد أقعدها أبى فى المنزل مكتفيًا بأنها "تفك الخط" وكان دائمًا ما يقول إن العلم إنما هو للرجال، أما المرأة فهى ناقصة عقل مهما تعلمت. الغريب فى الأمر أنه أدخلنى كلية الدراسات الإسلامية، وسمح لى بالتعليم، لكن هدفه كان حصولى على العلم الشرعى من أجل إنجاب ذرية صالحة. لم أحب دراستى قط، فهى ضد فطرتى، أنا صاحبة صوت عذب، لطالما استطربت به أمى، وشجعنى دائمًا على الغناء إسلام، الذى يقدر قيمة الفن بفضل عشقه للرسم.

المرة الأولى التى دخل فيها أخى بـ"مو" كانت مصيبة طرقت بابنا، فأبى أستاذ متقاعد للشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، لا يعرف فى حياته غير قال الله وقال الرسول، ويضيف إليهما "حرام" و"مكروه" فقط لا غير. وقدوم كلب إلى منزل رجل لا يكف عن الصلاة إلا فى أوقات الكراهة كان فاجعة لا يمكن احتمالها، والمعروف عند أهل السنة والجماعة أن الكلب نجس، وروى فى الأثر أن الصحابة كانوا إذا مر خيال كلب على ملابسهم تطهروا وغيروها. 
دخل أخى إسلام إلى المنزل يحمل فى يده كلبًا ذهبى اللون من نوع "جولدن"، كان صغيرًا وخائفًا للغاية، ومليئًا بالحشرات. عندما رآه أبى تحول وجهه الأبيض إلى كتلة من الجمر، وجحظت عيناه، وتشعثت لحيته المهندمة بعدما قبض عليها بيده كأنه يشنق نفسه، وتعرق من هول الموقف، وصرخ فى وجه أخى: 

إيه دا؟ 

أجابه إسلام بصوت خافت جدًّا، وخائف للغاية:

دا كلب! 

صاح أبى: 

يطلع برة حالاً، يا تطلع برة إنت وهو! 

فخرج أخى دون تردد، ولم نعرف له طريقًا لمدة يومين كاملين.

أمى التي لا تزال فى ثلاثيناتها، نحيفة الجسد، مهلهلة المظهر، حين تراها تشعر كأنها ابنة الخمسين، لا تخلع الإسدال عنها، ولا تضع أى مساحيق تجميل، ولا تفارق المطبخ، ولا تغادر المنزل من الأساس.. لم تتحمل أمى غياب ابنها عن البيت، واتصلت بإسلام ترتجيه أن يعود، ولعبت دور الوساطة بينه وبين أبى، فانتهوا إلى اتفاق على عودة أخى ولكن مع ترك الكلب فوق سطح العمارة. 
رغم ممانعة إسلام فى البداية، وافق على مضض، فهو لن يستطيع الاستغناء عن المنزل أكثر من هذا وهو فى عامه الجامعى الثانى بكلية الآداب قسم اللغة العربية، التى دخلها مرغمًا بسبب ضغط أبى عليه. 

إسلام فنان من نوع فريد رغم صغر سنه، يمتلك موهبة خرافية فى الرسم، وكان طموحه أن يدخل كلية الفنون الجميلة، ولكن بما أن الرسم فى مفهوم أبى حرام، وتجسيد الشخوص فيه أشد حرمة، فكان يحارب موهبة إسلام بكل قوته، حتى لا تهوى به فى قاع جهنم كما كان يقول دومًا.

عندما عاد إسلام بـ"مو" كان الكلب نظيفًا وخاليًا من الحشرات، وعندما سألته قال إنه ذهب به إلى طبيب بيطرى، وأعطاه جرعة تطعيم ضد الحشرات، فعاد للحياة مرة أخرى. شعره الذهبى بدا لامعًا برّاقًا، وتبدد خوفه، وكان إن تأخر إسلام فى الصعود إليه ينزل هو ويطرق باب شقتنا. ذات مرة، فتح له أبى دون أن يعرف أنه "مو" فقفز عليه الكلب مداعبًا، فصرخ أبى بصوت عالٍ جدًّا: 

إنت يا بن الكلب يا اللي نايم انت.. تعالى خد الكلب دا من هنا. 

انتفض إسلام وجرى مسرعًا نحو الباب، واحتضن "مو" وصعد به إلى السطح، وذهب أبى ليستحم ويغير ملابسه ليتخلص من نجاسة "مو" كما يعتقد.

مر شهر كامل على هذه الحال، صار "مو" خلاله جزءًا من كيان الأسرة، فقد كان أبى ينبه إسلام بمواعيد طعامه حال تأخره عنه، ويقول معللاً: 

دى روح.. ما تشيِّلنيش ذنبها!

كان عندما يشترى لنا اللحوم يأتى بطعام مماثل للكلب. كنا ننتظر خروج أبى من المنزل كل صلاة، ونُدخِل مو إلى المنزل ليلعب معنا، وبالأخص يوم الأربعاء، فهو موعد الدرس الذى يلقيه فى المسجد أمام الحضور، كان المسجد يكتظ عن آخره، فأبى له منزلة عظيمة عند الناس بسبب علمه وظهوره الإعلامى فى كثير من البرامج منذ أن كان يدرس فى الأزهر. تعلقتُ بالكلب كثيرًا، وكذلك أمى، كنت أصطحبه إلى حجرتى وأضع سماعتى الضخمة التى أخفيها عن أبى حول رأسى، وأستمتع بطربيات أم كلثوم وعبد الوهاب،  ويأتى "مو" ويجلس بين ساقىّ المفتوحتين، وينكمش فى بعضه، ويضع رأسه على صدرى الرطب، وينظر إلىّ بحب لم أرَ مثله ولم أشعر به من قبل. 
ذات يوم، عاد أبى يوم الأربعاء مبكرًا على غير عادته، فقد منعت الشرطة دروسه فى المسجد لما تحمله من تطرف وعنف ضد غير المسلمين، وتحديدًا ضد المسيحيين واليهود. اقتحم علىّ غرفتى وأنا مغمضة العينين، وبكل عنف نزع سماعتى وألقى بها على الأرض فتكسّرَت، وصرخت أنا من تصرفه العنيف الذى أصابنى بالرعب، ووقف "مو" على السرير ينبح فى وجه أبى كأنه يعلن رفضه لما فعل، وعندما صرخ فيه أبى سكت وانكمش على بعضه. وبعد توبيخى، حمل أبى الكلب بكل عنف وألقى به على السلم.

جاء أخى مسرعًا من حجرته، واشتبك مع أبى بالأيدى للمرة الأولى، كان قويًّا وشجاعًا وعنيفًا فى الوقت نفسه، باح أخى بكل ما كنا نحمله جميعًا من غضب. لطمه والدى على وجهه، فصرخ فيه إسلام: 

عارف بنحب الكلب ليه؟ عشان لقينا معاه الحب اللي مش لاقيينه منك! 

وخرج من المنزل وهو يبكى. يومها كسر إسلام كل قواعد المنزل الصارمة التى وضعها الدكتاتور القائد صاحب القرار الأوحد والمنفرد، الذى يكيل الويل والعذاب لمن يعصى قراراته. 
عاد إسلام نحو الساعة الثانية عشرة فى منتصف الليل، ففتح له أبى، الذى كان يقيم الليل وعلامات البكاء ظاهرة على لحيته المبتلة. وجد إسلام يحمل فى يديه فرشة وألوانًا، وللمرة الأولى لم يكسر أبى فرشة إسلام ولم يُلقِ بأدوات رسمه إلى خارج المنزل.
دخل إسلام إلى غرفته وظل سهران حتى الفجر يرسم لوحة عظيمة، خلفيتها حمراء بلون الدم، بطلها كان يشنق نفسه، وكلب ذو لونٍ ذهبى يقطع الحبل! 
دخل أبى حجرة إسلام فلم يجده بها، فظل يتطلع إلى لوحته بحسرة، وأنا خلفه أتلصص عليه، كان ذلك نحو الساعة السادسة صباحًا.. اتصل أبى به كثيرًا لكن الرسالة المسجلة بأن الهاتف مغلق كانت تأتيه، وتصل إلى مسمعى حتى بعدما تراجعت إلى الصالة. من مكانى رأيت على وجه أبى قلقًا لم أره عليه من قبل. 
لم يلبث أبى طويلاً حتى فتح باب المنزل وصعد السلم إلى السطح، تاركًا الباب مفتوحًا، ربما لأنه لا يزال أسيرًا للقلق.. أدركتُ أنه صاعد إلى السطح لعله يجد أخى مع "مو".. تسللت خلفه بلا نعلين، وعندما وصلت إلى مكان يسمح لى بالرؤية وجدت أبى منحنيًا إلى الأرض، ويوقظ إسلام النائم فى حضن "مو"، أو ربما العكس، فكلاهما كان يعطى الآخر حبًّا غير مشروط، ويستقبل الأمان الذى افتقده فى العالم. 
عندما فتح إسلام عينيه بدت عليه أمارات الفزع بمجرد رؤية أبى، فقال له أبى: 

نايم هنا ليه؟ انزل نام على سريرك.. وممكن تاخد الكلب معاك! 

ثم أشار بإصبعه وقال بحسم: 

لكن مايخرجش من أوضتك! 

لمحت ابتسامة فرح على وجه إسلام قبل أن أنزل مسرعة إلى الشقة، ثم رأيت إسلام يدخل من الباب المفتوح سابقًا أبى صاحب الستين عامًا. 

منذ أن سكن مو معنا تغير كل شىء، فرويدًا رويدًا بدأ أبى يضع له الطعام بنفسه، وبعد مرور نحو عشرة أيام كان يلاعبه ويجرى وراءه ومعه كالطفل، ثم صار يحضّر له الأكل فى المنزل. قال أمامنا ونحن نقعد إلى السفرة لتناول الغداء: 

الكلب دا رجّعنى شاب تانى، أنا بقيت أجرى وراه زى العيال! 

ضحكنا جميعًا، ولا أبالغ إذ أقول إنها المرة الأولى التى نتكلم فيها على الطعام، والأغرب أن نضحك بصوت عالٍ. 

جَنّ الليل، نادانى أبى فخرجت له مسرعة، فقال: 

مالِك بتجرى ليه كده؟ بالراحة على نفسِك! 

في ما سبق كان إن تأخرت بعد ندائه ثوانى معدودة يوبخنى ويكسر خاطرى. سأل عن إسلام، فقلت له إنه فى الخارج، فقال: 

اتصلى عليه؛ عايزه! 

ونادى أمى: 

نرجس.. يا نرجس! 

جاءته مسرعة فقال بصوت عطوف: 

تعالى جنبى هنا، بقى لنا كتير ما قعدناش ولا اتلمينا سوا! 

تعجبت أمى من قول أبى، ودُهِشْت أنا أكثر، نحن نقعد معًا على الأقل ثلاث مرات وقت الإفطار والغداء والعشاء، فكيف يقول أبى إننا لم نقعد معًا منذ فترة؟ 
لم تطل دهشتنا، فقد أضاف بسرعة: 

أومال فين "مو"؟ ابن الكلب دا ما لعبش معايا خالص النهاردا. 

وناداه أبى فجاء مسرعًا واحتضنه. 
حضر إسلام، وتجمعنا فقال لى أبى: 

ما تسمّعينا حاجة للست بقى يا أسما! الواحد بقى له كتير ما سمعش طرب!


وقتها سرحت بخيالى؛ كل هذا بفعل الكلب؟ ثم رد علىّ قلبى وهو يخفق بالفرح والسعادة: بل إنه بفعل الحب، فقد أضفى مو سحابًا فى يوم شمس حارقة، أو جاء بدفء الشمس فى يوم برد قارس، كان مثل المياه التى تروى جذور شجر شاخ بفعل التصحر، فكانت قلوبنا الخاوية على عروشها كارهة للحياة ولا تعرف لها قيمة ولا معنى، وكل المفاهيم عندنا جميعًا منحصرة فى الموت والظلام والكآبة، لكن كان للحب رأى آخر، وفِعْل من عمل السحرة أو الآلهة، لقد ضخ العشق فى شرايين أجسادنا المهترئة، فبدأت قلوبنا تنبض بمعانٍ جديدة ومفاهيم مغايرة وسعادة لم نعرف لها مذاقًا منذ نشأتنا. 
قطع أبى حبل أفكارى وهو يقول مبتسمًا:

أخوكى عدى اختبار القدرات فى كلية الفنون الجميلة، وبكرة هيروح أول محاضرة.. هتشوفى لك درس موسيقى والا يبقى عندنا فنان واحد فى البيت؟ 

سكنت حضن أبى والفرح يتقافز فى قلبى مثل طفل منتشٍ بملابس العيد، ويتوسطنا مو، وفى داخلى أتساءل مع أم كلثوم وهى تصدح: "هو صحيح.. صحيح.. صحيح الهوى غلاب؟ ما اعرفش أنا!"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب