الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمع ما بعد فوكوي : كورونا وصدأ الانضباط

علي عزت

2021 / 3 / 13
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


تخيل معي عزيزي القارئ انك في قلعة فيكتورية يتوسطها برج له نوافذ واسعة تفتح على الجانب الداخلي لحلقات من الغرف المعزولة في كل غرفة نافذتان ؛ احدهما تفتح للخارج وتسمح بدخول الضوء والاخرى تفتح للداخل (في اتجاه البرج ) تسمح للجالس في البرج برؤية تحركات الظلال الاسيرة . تسمى هذه الالة الرقابية الهندسية ب البانوبتيكون او المشتمل / الاشراف في الترجمة العربية وتنسب لعالم القانون و الفيلسوف الانجليزي جيرمي بنتهام . في احد اعماله التى لم تلقى نصيبها من الترجمة يشدد ميشيل فوكو على ان بنتهام اشد نفعا واهمية لفهم المجتمع من هيجل وكانط * ويناقش في كتابه ( المراقبة والمعاقبة : ميلاد السجن ) هذا البناء الهندسي الذي يكتسب اهميته من نزعه الطابع الفردي للسلطة وتحويلها لالة تصنع مفاعيل متجانسة للسلطة وحاملين لها وبذلك تنتفي الحوجة لاستخدام وسائل الاكراه بالقوة والعنف المباشر بتحويل مفاعيل السلطة لمراقبين على الدوام مجبرين على السلوك الحسن لاعتقادهم الجازم بان المراقب يراهم الان وان لم يكن يراهم الان فقد يراهم في اي لحظة اتية الى اجساد طيعة بتعبيره . في مشتمل بنتهام يتفتت المجتمع الي افراد كل فرد منهم بطل لمسرح صغير ينعكس في عين المراقب الذي يمكن ان يكون اي احد (اي حرفيا يمكن لاي اي احد ان يشغل دور المراقب في هذا التصميم الهندسي ) فالمشتمل لا يقوم على رابطة السيادة بين عاهل /ملك له حق متعالي وسيادة بامر السماء ورعايا بل على علاقات الانضباط التى تعتمد في المقام الاول على الرقابة الدائمة وفخ الرؤية . مفعول السلطة هنا يُرى ولا يَرى موضوع استعلام وكتابة باستمرار وممنوع في الوقت نفسه من ان يخلق رابطة اتصال مع مفاعيل السلطة الاخرين بامر جدران الغرف التى تشكل فضاءا مغلقا و حاجزا متينا ضد انتقال الضوء و الصوت , والسلطة هنا في وضع انتصار دائم تتفادى كل صدام جسدي او تمرد جماعي وهنا ايضا يبلغ اقتصادها ذروته حيث يقل عدد الممارسين و يتضاعف عدد الممارس عليهم و يتاح للممارس التدخل في كل لحظة ( ويعلم الممارس عليه ذلك فينتج ضغط ثابت يمنع ارتكاب الاخطاء والجرائم )، و تبرز علاقة السلطة بالمعرفة وتُفرض الطاعة بشكل سريع وتلقائي تسجل كل لحظة ومن كل جانب اي تعرض السلطة نفسها كمراقبة وتحكم وتسجيل مع فرصة للتدخل السريع المدروس . وجد المشتمل بصيغته المجازية السلطوية لا العمرانية فضاءه التجريبي في المدينة الموبوءة بالطاعون حيث تجري الرقابة مجرى الجراثيم في اوردة المرضى فهم محبسون في غرف او عنابر مغلقة مراقبون من كل جانب تخط عنهم التقارير كل لحظة وتنتقل بين المكاتب الادارية كل يوم . تزدهر السلطة في فترة الطاعون وتنبعث هياكلها الانضباطية من كل فج لترسم فضاء الحبس الكبير المصقول بالاعين والاقلام وتمتزج علاقات السلطة والمعرفة وتطلق السلطة صرختها العالية اما الخضوع او الموت وتكرر التهديد بكثرة وتداعب غريزة البقاء بلا حشمة .
يرى الفيلسوف الفرنسي امكانية رد مشتمل بنتهام الي حديقة الحيوانات التى بناها لوفو في قصر فرساي , زريبة بنتهام البشرية اخذت بالاتساع في العهد الكلاسيكي وصارت تغطي سطحا يزداد اتساعا يوما بعد يوم حتى اصبحت الصيغة العامة في الجيوش والمدارس والمستشفيات , سعى بنتهام لتحويل صيغة الانضباط /الحصار في المؤسسات المغلقة والموجهة نحو وظائف سلبية (ايقاف المرض ، قطع الاتصالات ، ايقاف الزمن ) لتصبح شبكة اجهزة في تيقظ دائم وفي كل مكان ولتصبح انضباطات اولية تحسن عملية ممارسة السلطة وتجعلها اسرع واخف واشد فعلا واقل تكلفة ويصف فوكو الصيغة الجديدة بانها "مخطط ضغوطات مرهفة لمجتمع مستقبلي " مطيع وبالتالي تنتقل من هيكلة انضباط استثنائي الي هيكلة مراقبة معممة تنتج مجتمع انضباطي وظيفي ، فلا تسعى انضباطات بنتهام لتحييد المخاطر وتثبيت الجماهير المضطربة فقط ولكن تلعب دورا ايجابيا لجلب المنفعة وتنمية الكفاءة وزيادة الانتاجية والارباح وتتخلل هذه الانضباطات جسد المجتمع بسلاسة وتنفكك عن طابعها المؤسسي لتصبح وسائل مرنة للرقابة يسهل نقلها وتبنيها ، وتتكاتف وتتناوب اجهزة الدولة المرنة كالسجلات الحكومية و الاجهزة الامنية والشرطية الموزعة بعناية لتنوب عن سيادة العاهل مع مراكز المراقبة المدنية كالمجموعات الدينية والجمعيات الخيرية على الاشراف الدائم والحضور الكلي والرقابة الدقيقة الشاملة . وقبل ان نقفز من الي ما بعد فوكو ننوه الى ان وصفه للانضباط لا يتطابق مع مؤسسة ولا جهاز فهو نمط من انماط السلطة ونموذج من نماذج ممارستها يشمل ادوات وتقنيات ووسائل ومستويات تطبيق وغايات انه تكنولوجيا السلطة .
ان كتاب المراقبة والمعاقبة من اعمال فوكو المبكرة نسبيا ولم يشر الى المشتمل في محاضرات الكوليج "المتاخرة نوعا ما " ولكن ظل بنتهام النهر الذي يروى عطش فوكو لدراسة علاقات السلطة و حديقته المخضرة لدراسة المجتمع وهو في اعمال فوكو المبكرة مدخل تكنيكات المراقبة ومنظر الحوكمة الاول في اعماله المتاخرة .
استجابت معظم الدول لجائحة كورونا بفرض حظر تجوال وحجر صحي بمستويات مختلفة ومتغيرة زمانيا في محاولة لاطلاق صرخة اما الخضوع او الموت و رفع العلم الاسود ذو الجمجة والعظمتين في وجه المواطنين ، وكسانحة قل ما يجود بها الزمان لممارسة السلطة الانضباطية والقمعية بحدها الاعلى فرضت حالة طوارئ على مستوى العالم : توقفت حركة الطيران بين الدول والقطارات بين المدن والبصات في الاحياء واغلقت المرافق الحكومية والشركات الخاصة والمحلات التجارية وتم حبس المواطنين في منازلهم وطُلب منهم بالابتعاد عن بعضهم البعض وارتداء ملابس وملحقات معينة (الكمامات) وتم امرهم بالقيام بسلوكيات محددة (غسل اليدين ..الخ ) اي تم استدعاء هياكل الانضباط المنظمة ذات الهدف المشترك الواضح من مرقدها ، المفاجاة الكبرى انها فقدت قدرتها الانضباطية فليس للعطار القدرة على اصلاح ما افسده الدهر فبين كسر لحظر التجوال بعفوية صرفة و المظاهرات المنظمة للاعتراض على الحجر الصحي ورفع شعارات الحرية تبخرت مقدرات السلطات على فرض نموذج الحبس الكبير بتكلفة قليلة وبكفاءة عالية فبرغم التطورالتكنولوجي ووسائل المراقبة الالكترونية المتعددة وجدت السلطات نفسها مجبرة على استخدام الاجهزة الشرطية والامنية وربما الجيوش ايضا بشكل مباشر وبتكلفة عالية وفي حالة كر وفر دائما وتقدم وتراجع وترنح بين درجات الحظر المتفاوتة زمانا وكيفية وبفشل متكرر في تطبيق نموذج المدينة الموبوءة بالطاعون . والحديث هنا عن تأبين للانضباطات برز كنشاط مصاحب لجائحة كورونا حال دون فعالية الانضباط المباشر العنيف او الرقابة المرهفة ، وهز السلطة في ميدانها المفضل (المدينة الموبوءة ) ، اجادل بحذر ان ثقافة ما بعد التصنيع اصبحت حاجزا يمنع تجسدها في الشكل المؤسسي الصارم المنظم او الرقابي بفعالية اضافة لبنية مجتمعات المابعد الحداثة والراسمالية المتاخرة بتجلياتها المختلفة المنتشرة هنا وهناك رافضة للانضباط والمقاومة للرقابة عبر النشاط المدني الحقوقي المدافع عن الحريات الذي وجد بيئته المناسبة بعد تاكل نموذج الدولة القومية المتسلطة دون ان انفي ان بقايا السلطة الانضباطية على الافكار والاجساد لازالت متغللة على استحياء في دور الرعاية و الجمعيات والسجلات المدنية والاجهزة الاستخبارتية والهواتف الذكية و مواقع التواصل الاجتماعي بنموذج دولوزي قائم على الشبكات المشتتة ولكن بنص ثقافي به براح لرفض هذه الرقابة وتجريمها مجتمعيا و قانونيا
يصف مارك فيشر في كتابه الواقعية الراسمالية هذا النموذج في تعقيبه على النموذج الفوكوي للانضباط المدرسي انه نموذج اقرب للتبادل التجاري المعتمد على التحفيز الذاتي فالطالب لن يتغيب عن المدرسة لانه سيتعرض لعقاب جسدي او الحبس او استدعاء اولياء الامر ولكن لتثير ذلك على درجاته مباشرة بالنقصان او الحرمان من الامتحان ف معرض حديثه عن الراسمالية المتاخرة اي راسمالية الخصخصة اي ان اجبارية التعليم تبرز من الحوجة للعمل مستقبلا ويشير للحرية النسبية للطالب في اختيار المقرارات التى يرغب في دراستها واوقات هذه الدراسة فهو مشتري للخدمة التعليمية وله حرية التفاوض في شروطها نسبيا .بينما تجادل هارواي بان فوكو يحدد شكلا من السلطة عند لحظة انهيارها مستصحبة ملاحظة دولوز ان الجداول البيانية الفوكولديانية تصف ما توقفنا اصلا ان نكونه ( نترجمه بان فوكو يؤرخ لما كانته السلطة الاحيائية في القرن التاسع عشر ومجتمعه الصناعي) وتضيف انه تم تفككه من قبل التكنلوجيات الجديدة في النظام الما بعد الصناعي اللامركزي.
نخلص الي ان الانضباطات لم يعد بامكانها التوحد في شكل هندسي موحد ولا تشتها في شكل رقابي نتيجة لبروز مجموعة كبيرة وموزعة بعشوائية من نقاط المقاومة (الوعي الحقوقي والنضال المستمر ) ضافة لتغير قواعد اللعبة السياسية الاجتماعية والاقتصاد المخصخص (المجتمع ما بعد الصناعي , توقف منح الدولة فكل خدمة من صحة وتعليم وعلاج نفسي يدفع تكلفتها المواطن فكما ان دفع الضرائب يستوجب المشاركة السياسية فتوقف دورة الدولة الامومي يستوجب تهاكل سلطتها الانضباطية ) واي خطوة سلطوية للوراء هي خطوة نحو جسر سقطت اخشابه اي انتحار لم تملك السلطة بدا من الاقدام عليه للتعامل مع جتئحة كورونا .
و ننوه ان كاتب المقال يعلم جيدا خطورة فيروس الكورونا الصحية والتداعيات الاقتصادية المصاحبة له وهي خارج ما تم مناقشته
.
الهوامش
* Foucault, Dits et écrits, vol. 1, p. 1462
المصادر
المراقبة والمعاقبة ميلاد السجن ميشيل فوكو ت علي المقلد مركز الانماء القومي بيروت 1990
Capitalism And Schizophrenia Deleuze and Guattari 1972/1980
Cyborgs and women : the reinvention of nature 1990
Capitalist Realism Mark Fisher 2009
Beyond Foucault: New Perspectives on Bentham s Panopticon : anne Brunon-ernst 2012
Thinking Corona measures with Foucault Matthew Hannah with Jan Simon Hutta and Christoph Schemann 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا