الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعلم والشاعر -عباس المهجة.

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2021 / 3 / 14
الادب والفن


وجوه غابت عن الديوانية

تعود معرفتي بعباس إلى فترة مبكرة من حياتي فهو يكبرني بعدة سنوات وعائلته "بيت المهجة" من أعرق وأقدم عائلات الديوانية ومحلة الجديدة، وبيتهم وسط المحلة وامتداده باتجاه الشط بيت جدي عبود يعقوب النجار "أبو صبري" والد أمي، وكنت اسلك في طفولتي هذا الطريق كل يوم في ذهابي وإيابي من وإلى عمي خليل الحلاق،
سأسكن الجديدة في مراهقتي مسحوراً بشوارعها وصباياها الفاتنات، فأتعلق كل موسم بواحدة، ومنذ ذلك الوقت نهاية ستينيات القرن المنصرم، نشأت بيننا مودة بالسلام وسؤاله عن أحوالي من باب الأخ الكبير المتابع، وكنت جريئاً غير هياب أقيم علاقات مع من يكبرونني سناً، وأفضي لهم بأحلامي وأفكاري ومغامراتي الغرامية، وعباس كان ينصت لي بعينين مندهشين وقسمات مضرجة وأنا اسرد عليه تفاصيل علاقات جسدية أغلبها من نسج مخيلتي، فإذا أمسكت بكف حبيبتي خطفاً طورتها إلى خلوة وجحيم من القبل في الغرف والدهاليز المظلمة في عز الظهيرة ، وأحياناً اتخيل وأنا أطور ما أقص إلى تسلل لغرفة الحبيبة لأجوب عري الجسد بأصابعي تحت الثوب المنزلي الفضفاض، وكان عباس ينهمر في الضحك مرددًا:
- معقولة..معقولة، اشتعل بليسك!
بقيت العلاقة شفافة متباعدة مقتصرة على هذه اللقاءات الخاطفة وأنا أمخر عالم الجديدة العجيب فيلقطني عباس صدفة ويلح كي أقص عليه أخر مغامرة فأفعل منوعاً بالقصص والنساء ومنتشياً بانفعالاته وتضجر بشرته التي يكاد يطفر الدم منها كلما أفضتُ في وصفي هههههههههه، إلى أن أنغمرتُ في العمل السياسي سراً بتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي فاعتقلت أول أعتقال في 1971، فتغير وضعي تماماً ووجدت نفسي تحت الضوء والمدينة كلها تتحدث عني وعن المجموعة التي اعتقلت ناظرين إلينا وكأننا آلهة منقذة فيها الأمل والمستقبل وهذا ما صورته بدقة وتفصيل بالقسم الأول من روايتي "حياة ثقيلة" وفي حقيقة الأمر لم نكن سوى ذوات مكسورة ذاقت الذل الجسدي والنفسي تحت التعذيب، فخرجت من السجن لترفعها نظرة سكان المدينة إلى مصاف التقديس وتدفعها نحو الكفاح كذوات منذورة للتضحية.
يضاف إلى ذلك دخولي إلى الوسط الأدبي في المدينة، وعلاقة الصداقة المبكرة التي ربطتني بالشاعر علي الشباني والشاعر عزيز السماوي التي عادت علاقة يومية لصيقة،وكان عزيز يزور الديوانية بين الحين والحين ويشعل لياليها وجوهًا الأدبي، وبعد سهر الليل في نادي الموظفين حيث يتجمع مثقفو وفنانو المدينة، يصحبني في الصباح في جولاته في سوق المدينة حيث تربطه علاقة بشخصياتها الشعبية، وكان يحرص جداً على اللقاء بصديقنا "عباس المهجة" فكان يسر إيما سرور ويستمع إلى نكات عزيز التي يبدعها ساخراً من كل شيء، وفي هذه الجولات كنت اجد عزيز شخصا مختلفا عن شخصية جلساتنا الثقافية في النادي وفي بيوت الأصدقاء حيث كان يخوض في مواضيع فلسفية وجمالية تتعلق بالشعر والفن والحياة والمواقف والإنسانية، وكان يختلف تماماً عن عزلة علي الشباني وعالمه ، ومن عزيز اكتسبت هذه الصفة والسلوك بالغوص في بشر مدينتي وأرواحهم.
هذه العلاقة الإنسانية الثلاثية عباس عزيز وأنا توطدت،
في زيارة عزيز السماوي الأخيرة إلى الديوانية 1978، وكنتَ وقتها قد أكملت دراستي الجامعية وخدمة العلم، وعملت موظفًا في دائرة الزراعة سلمني عزيز مخطوطة ديوانه الشعري الثاني "لون الثلج والورد بالليل"كي أطلع عليه ونتحاور في زيارته التي لم تتحقق أبدا فقد هرب من حملة السلطة الدكتاتورية إلى الجزائر ليموت في منفاه بلندن 2001، وحينما صادفنا عباس في سوق التجار وخضنا أطراف الحديث طلب مني عزيز:
- سلام خلي عباس يقره الديوان!
وفعلاً أعرته الدفتر الذي تركته أنا الآخر بعد عدة سنوات هارباً إلى الثوار في الجبل.
*. *. *

في فترة الحملة على القوى الوطنية والديمقراطية والشيوعية 1978-1979، وتفرق الأصحاب بين هاربٍ إلى الخارج ومختفٍ ومعتقلٍ أمسينا نلتقي يومياً في مقهى بمدخل سوق التجار مقابل مكتبة شاكر الآن، نخوض في احاديث همساً عما جرى للصحاب والرفاق ما يجري خلف الكواليس، وكان عباس قد اعتقل واجبر على توقيع تعهد بعدم العمل السياسي بعد أن عمل بتنظيمات الحزب الشيوعي في فترة الجبهة الوطنية، وكنت اجلب لهم أخر الأخبار من خلال لقائي سراً بالرفاق الذين أختفوا في بغداد مثل أخي الصغير كفاح ورفاقه، لكن عقب اعتقالي الخامس في بغداد 1980، تفرق شملنا، وعاد عباس وصحاب المقهى حذرين من اللقاء بامثالي ممن يجلب لهم "طريق الشعب" ملفوفة بحجم أظفر الأصبع
ويعتقل.
لم نعد نلتقي، وعلى الرصيف أو في سوق التجار أقتصرت علاقتي بعباس على رفع اليد بالسلام دون خوض في حديث، وعباس حقه فقد كنت عبارة عن ورطة متنقلة، بينما هو إنسان مسالم يميل للهدوء والاستقرار ويحب الديوانية بجنون ويشعر بالغربة لو سافر إلى مدينة أخرى، مرة قال لي لاهثاً عقب عودتي بعد الأحتلال:
-سلومي ماتگلي اشلون صبرت على فراگ الديوانية كل هذي السنين!
هو لا يدري أية أهوال رأيت وأي أشواق عانيت
لم نعد نلتقي إلى أن التحقت بالثوار في الجبل 1982، الذي أفضي إلى غربة كنا نظن أنها ستنتهي مع سقوط الدكتاتور ، لكنها تعمقت مع تحكم الأحزاب الطائفية ومليشياتها بمصير العراقي والعراق.
في زياراتي السنوية إلى رحمي الدامي، أجد عباس المهجة في نفس المكان، على الرصيف المواجه لفرع بيتهم القديم في الجديدة في الشارع العريض لعلوة السمك القديمة وسط الزحام والضجيج تحت شمس الظهيرة الساطعة، يصرخ حال رؤيتي:
- سلومي حبيبي سلومي
يشدني بقوة إلى صدره، ويغمرني بفيض مشاعره العميقة التي لا يخجل من التعبير عنها بالكلمات:
- حبيبي سلومي ابد ابد ماتگدر تتصور اشگد احبك ابد
فابتهج بين ذراعيه من الأعماق وأظل مبتسماً طوال اليوم.
أخر لقاء كان في نفس المكان وسط الزحام على الرصيف مقابل فرع الجديدة الذي شهد اول تعارفنا في شارع بيت جدي لامي واهله، 2018 أمسكني من ذراعي وهو يخبرني بأنه كتب قصيدة تخبل ويريد سماع رأيي فيها، سألته وينها ، فجاوبني بالبيت بالبيت بأم الخيل وهي المنطقة التي انتقل إليها، وأشار إلى صاحب مكتبة تبيع القرطاسية قائلا:
- سلومي. هنا تلگيه باچر
مررت في اليوم التالي فلم اجدها
ولم نلتقِ أبداً
لم أتمكن من النزول إلى بقعتي الدامية منذ ذلك العام بسبب وضعي الصحي
وبقينا نتحاور عبر الفيس بوك وأسجل له ملاحظاتي على قصائده القصيرة كان يتقبل اقتراحاتي وملاحظاتي بروح أريحية حتى الشهر التاسع 2020
كنت في المقبرة المجاورة في نزهة الظهيرة، وقبل ساعة قرأت له قصيدة نشرها للتو لانصعق بخبر وفاته بعد ساعتين من نشره
جلست على أقرب مصطبة أنشج بصمت مثل طفلٍ مكسور الخاطر.
12-3-2021
دنمارك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث