الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشرق الأوسط الجديد: كيف يطرأ جديد على المفهوم القديم؟

صبحي حديدي

2006 / 7 / 29
العولمة وتطورات العالم المعاصر


حين شاء الرئيس الامريكي جورج بوش الانحناء أمام الإلهام الربّاني الذي راوده وأراده (وعلى ذمّته: كلّفه) أن يجتثّ شرور الشرق الأوسط من جذورها، وأن يرسل سعادة الحرّية وقوت الديمقراطية إلى شعوب المنطقة البائسة الجائعة، فإنّ أوّل خطوة خطاها بوش على درب تلك الحملة الصليبية الخيّرة كانت قراءة كتاب السياسي الإسرائيلي والمنشقّ السوفييتي السابق ناتان شارانسكي "حجّة الديمقراطية: جبروت الحرّية في التغلّب على الطغيان والإرهاب". ولعلّ بوش لم يجد في الأمر أية مفارقة أخلاقية، من نوع نصح المقهور باعتماد فلسفة القاهر، بل رأى العكس تماماً وعلى مبدأ: داوها بالتي كانت هي الداء!
واليوم حين ترطن وزيرة الخارجية الأمريكية عن "شرق أوسط جديد"، وفي الآن ذاته لا تكتفي بصمّ آذان الإدارة عن البربرية الإسرائيلية في سائر لبنان، بل تشجّع على المضيّ أبعد في الهمجية وأسرع في التدمير، هل يدهشنا أنّ مشروعها الجديد هذا ليس سوى طبعة متأخرة ـ لكي لا نقول: نسخة الكربون ـ من ذلك الشرق الأوسط الجديد الذي حلم به شمعون بيريس: رؤيوي السلام، وحامل ثلث نوبل السلام، وجزّار قانا، ومجرم حرب عملية "أعناب الغضب"... هنا، في جنوب لبنان ذاته؟ الطريف، إلى هذا، أنّ المرء لا يكاد يأتي بجديد حين يستعيد الك الدائرة المغلقة للتي تصنعها جدلية رسوخ القديم، وربما العتيق المتآكل المستهلَك، في كلّ تفكير أمريكي جديد حول شرق أوسط جديد!
ومن جانب آخر، ما الفارق بين هذا الشرق الأوسط الجديد، المرتجى، وذاك الذي كان حجر الأساس في ما أسماه الرئيس الأمريكي الاسبق جورج بوش الأب "النظام الدولي الجديد"، عشية عمليات "درع الصحراء" و"عاصفة الصحراء" ومؤتمر مدريد حول السلام العربي ـ الإسرائيلي؟ وفي صياغة أخرى: هل طُوي ذلك النظام؟ وإذا صحّ أنه طوي، فهل لأنّ النظام استنفد أغراضه جمعاء، ام لأنه لم يستنفد منها قسط الحدّ الأدنى، فكان محتماً أن يتآكل ويهترأ ويتفكك ذاتياً؟ وبالطبع، لا مناص من الصياغة الثالثة للسؤال ذاته: لماذا يتوجّب أن تنجح وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، بالتكافل والتضامن مع فريق إدارة بوش وجمهرة المحافظين الجدد مجتمعين، في تحقيق نظام شرق أوسطي جديد فشل في تحقيقه وزراء خارجية أمريكيون سابقون من أمثال جيمس بيكر، وارن كريستوفر، مادلين ألبرايت، وكولن باول؟
ليست هذه الأسئلة ميكانيكية، أو حتى مدرسية ومن قبيل تحصيل الحاصل، إلا عند الذين يعتقدون أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات حاسمة بمثابة منعطفات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية بمثابة انقلابات رأساً على عقب، أو ما أشبها وكان منها مدانياً. وعلى سبيل المثال، هؤلاء أوّل مَن ستصيبهم الصدمة ويأخذهم الروع إذا اكتشفوا أنّ اقتداء الرئيس بوش بديمقراطية شارانسكي، فضلاً عن جميع استلهاماته "الربانية" حول الخير والشرّ، تُطوى اليوم (حتى قبل أن تتجسد بأيّ معنى واقعي فعلي عملي) بلسان الوزيرة رايس، وطيّ تبشيرها بشرق أوسط جديد. وهؤلاء، في المقام الثاني، أوّل خائبي الرجاء من ذلك اللغط الأمريكي الذي تعالى عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق، حين أشاع البيت الأبيض أنه بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الإستبداد بذريعة ترجيح مبدأ الإستقرار حتى على حساب الشعوب، إلى سياسة الانفتاح على الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية، شاءت الشعوب استهلاك تلك الصادرات أم أبت!
ولأنّ إيران الراهنة تبدو عاملاً أساسياً، إذا لم تكن العامل الرئيسي والأكبر، في هذا التخطيط الأمريكي لاستئناف شرق أوسط قديم، تحت مسمّى "الجديد" القديم بدوره، فإنّ ما يشهده لبنان اليوم من بربرية إسرائيلية ليس منقطع الصلة عن تلك الحرب الإيرانية ـ الأمريكية التي تتكدس عوامل اندلاعها يوماً بعد يوم. وبهذا المعنى يفهم المرء سخط بعض الساسة الإسرائيليين لأنّ الدولة العبرية تبدو وكأنها، في قتال "حزب الله"، إنما تقاتل بالنيابة عن الولايات المتحدة، أو تخوض بالتفويض حرب البيت الأبيض ضدّ آيات الله الإيرانيين... في العراق! ولكن لأنّ إيران ليست جمعية خيرية لإغاثة المستضعفين في الأرض، وتسليحها النوعيّ العالي لـ "حزب الله"، كما يكتشف البعض اليوم ليس دون انبهار وعجب، أشبه بتسليحها لجيوشها الوطنية دون كبير نقصان، فإنّ آيات الله يسعون بدورهم إلى أن تكون معركة "حزب الله" ضدّ الاحتلال الإسرائيلي هي في الآن ذاته امتداد لمعاركهم ضدّ واشنطن. وتلك، كما هو معروف، ليست معركة تخصيب اليورانيوم وحدها، ولا معارك تصدير الديمقراطية إلى إيران فحسب، بل معارك قوس الإسلام العريض كما تسعى طهران إلى إعادة رسمه بما يكفل تحويله إلى ساحة استراتيجيات متصارعة.
المثير، لأننا نظلّ في الحقل التاريخي والدلالي لحكاية الجديد/ القديم هذه، أنّ الشطر الإيراني من تفاصيل مفهوم رايس عن الشرق الأوسط الجديد" قد يكون محض طبعة جديدة ـ وإنْ مبتذلة تماماً ـ من النظرية العتيقة الشهيرة حول الإحتواء المزدوج، الآن إذ يبدو عراق ما بعد صدّام حسين وكأنه جدير بطراز من الاحتواء لا يقلّ ردعاً عن عراق صدّام حسين، أو أشدّ ربما! و نتذكّر على الفور أن حصاد مفهوم الإحتواء المزدوج ظلّ يعتمد على أكثر من حرث وبذر واستنبات، ولكن الغلال ذاتها بقيت أسيرة المجهول، أو مستنقعات الوحول. لكنّ المفهوم كان جذاباً على الدوام، ولهذا تراخى وتمطى واتسع حتى اختلط في نطاقه الحابل بالنابل، واضطرّ صاحبه الاصلي (مارتن إنديك) إلى مراجعته مراراً، وإلى تسليحه بأسنان قاطعة حوّلها بعض المحافظين الجدد إلى حملات صليبية مستدامة.
وحين شاءت إدارة كلينتون فتح "حوار" مع طهران، صيف 1998 وبعد محاق مفهوم "الردع المزدوج" على يد أولبرايت وأنتوني ليك مستشار الأمن القومي الأسبق، كان البيت الأبيض يسعى ضمناً إلى اختراق قوس الإسلام الافتراضي ذاك، من خلال نزوع الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي إلى الحوار. آنذاك أطلقت أولبرايت تلك العبارة الشهيرة: «واضح أن عقدَين من انعدام الثقة لا يمكن محوهما في ليلة وضحاها. الهوّة بيننا ما تزال واسعة. ولكن الوقت قد حان لاختبار إمكانيات جسر الهوّة». و«بيننا» هذه كانت تعني الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية، وتعني في المدلول اللغوي المباشر إمكانية قيام حوار بين فريقين يتحاوران بوصفهما اثنين على وجه الدقة، وليس بوصف واحدهما دولة عظمى قيّمة على قِيَم الإنسانية وشرطية حارسة لأمنها واستقرارها، وثانيهما دولة «رجيمة» مشاغبة ضد تلك القِيَم وراعية للإرهاب ومصدِّرة للثورة.
ولقد توفرت إسهامات صامتة، أو مكتومة، من مستشار الأمن القومي آنذاك ساندي بيرغر، الذي امتدح ميل الرئيس الإيراني إلى الاعتدال والحوار، وذمّ ميل خصومه إلى التشدّد والخصام. كما توفرت إسهامات أخرى صاخبة صائتة من بروس ريدل المسؤول آنذاك عن ملفّ إيران في مجلس الأمن القومي، الذي كان يصبّ دلواً ساخناً تارة حين يذكّر إيران بمواقفها من الجماعات الاسلامية والسلام العربي ـ الاسرائيلي وبرنامج بناء الأسلحة الصاروخية، ودلواً بارداً طوراً حين يقول: ولكن إيران هي إيران أيها السادة، بموقعها ودورها وماضيها وحاضرها، بتطوراتها الحبلى! ومع ذلك فإنّ الحوار لم يسفر عن تجسيد أيّ من معنيَيْ مفردة "بيننا" تلك، وانتهى إلى فشل ذريع لعلّ أبرز نتائجه كانت إضعاف خاتمي وفريقه، وتمهيد الأرض لمجيء أمثال أحمدي نجاد.
كيف يمكن لشرق أوسط جديد، يولد بالضرورة من رحم القديم كما للمرء أن ينتظر منطقياً، أن يستوعب إيران الراهنة، وبأيّ الوسائل: الحرب، أم السلام؟ التسويات، حتى على حساب عذابات الآخرين وفي باحاتهم، أم المجابهة؟ في قُمْ وطهران، أم في كربلاء وبنت جبيل؟ هذه، على الأرجح، ليست أسئلة كوندوليزا رايس وحدها، بل هي كذلك أسئلة أصحاب القرار الأعلى في طهران (مرشد الثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي أولاً، ولكن ليس أحمدي نجاد ثانياً بالضرورة!)، وأسئلة بعض الحكام العرب الذين ستصيبهم مكرمة ـ أو شظية... حسب واقع الحال! ـ إذا ما انخرطوا في تصنيع هكذا شرق أوسط جديد.
الثابت، ريثما تتضح الإجابات، أنّ كوندوليزا رايس تستعير من شمعون بيريس، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، 1993، الحلم باتحاد شرق ـ أوسطي على غرار الإتحاد الأوروبي، ولكنها مثله لا تكترث بالحقائق الدامية على الأرض قدر اكتراثها بالكيمياء التي تقلب الكابوس الأسود إلى حلم وردي. وإذا كان قد أبدى استعداده للتضحية بأغلى الصور على قلوب الإسرائيليين الأوائل (صورة المقاتل الذي يحتضن رشاش الـ "عوزي" وسط حقل الشعير أو بيارة البرتقال)، فإنّ رايس تريد عكس الصورة تماماً: الغارات الإسرائيلية الهمجية على بيروت وصيدا وصور والنبطية.
وفي الاقتصاد السياسي لا يبدو الفقر مشكلة بحدّ ذاته في الشرق الأوسط الجديد كما يحلم به بيريس، بل السبب في سلسلة مشكلات على رأسها تنامي الصحوة الإسلامية وتحوّلها إلى عقيدة كفاحية يومية، شارعية وقاعدية ولصيقة بالهمّ المعاشي للعربي العادي. وله، في الردّ على هذا الطراز من الفقر، خيارات شاعرية حالمة: «أنختار سبيل ألسنة النار والدخان وأنهار الدم، أم الصحارى المورقة واخضرار الأرض؟ الخراب والنماء، أم التقدم والحرية؟ كلما ارتفع مستوى المعيشة، انخفضت مستويات العنف، وأفضل وسيلة لمجابهة المزاوجة بين خطر الأسلحة الحديثة وخطر الفقر هي فضّ الاشتباك بين هذا المزيج القاتل، وشنّ الحرب علي الفقر وكأنه تهديد عسكري محدق».
ولأنّ بيريس يعتبر الاستيطان في الجولان أمراً أقلّ مغزى (أي أعلى شرعية) من الاستيطان في الضفة الغربية (يهودا والسامرة، في عبارته)، فإنّ نسخته الخاصة من الشرق الأوسط الجديد لا تمتّ بصلة إلى الحقّ السوري في الجولان المحتلّ، وليس لهذا أية عاقبة على فلسفة تسعى إلى سحب نصف قرن من عمر دولة غاصبة (إسرائيل) على عدد من القرون (هي عمر الشرق الأوسط، القديم والحديث) يُراد لها أن تكون الزمن الوحيد لهذه الواحة الافتراضية التي تمتد من البحر الأحمر إلى البحر الميت. لها كذلك، هذه الدولة الغاصبة ذاتها، أن تخفي خيوط الحرير طيّ كتل الفولاذ القاذفة للهب، وأن تطمس أكبر قدر متاح من الدماء والجثث والقرى والأوطان والتواريخ.
وقبل سنوات من حيازته لقب «رؤيوي السلام»، كان شمعون بيريس قد تنبأ بأن الشرق الأوسط سيكون أمام احتمالين: سيناريو على الطريقة الشكسبيرية حيث يفنى الجميع في النهاية، وسيناريو على الطريقة التشيخوفية حيث يظلّ الجميع على قيد الحياة، ولكنهم أقرب إلى الأموات منهم إلى الأحياء. فإذا جاز أن وزيرة الخارجية الأمريكية استهدت به في اختلاق شرق أوسط جديد، فأيّ سيناريو تعيش المنطقة هذه الأيام؟ لا هذا ولا ذاك، لأنّ بيريس ليس في قلب الحكومة التي تشنّ الحرب البربرية عل لبنان فحسب، بل هو كما كان على الدوام: مهندس الخراب وقيثارة الجنرالات وشاعر حروب اسرائيل، ونبيّ التكنولوجيا النووية.
الجديد أنه لم يكن أقلّ شأناً من ناتان شارانسكي في تطوير عقول نساء، بعد رجال، البيت الأبيض!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من إدارة الطيران الأميركية بسبب -عيب كارثي- في 300 طائ


.. استشهاد 6 فلسطينيين بينهم طفلتان إثر قصف إسرائيلي على منطقة




.. كيف سيكون رد الفعل الإسرائيلي على إعلان القسام أسر جنود في ج


.. قوات الاحتلال تعتقل طفلين من باب الساهرة بالقدس المحتلة




.. شاهد: الأمواج العاتية تُحدث أضراراً بسفن للبحرية الأمريكية ت