الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تراجيديا المسيحيين وزيارة البابا للعراق

خسرو ساية

2021 / 3 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


في الايام القليلة المنصرمة، وبعد موجة الدعاية الاعلامية الصاخبة، اتى البابا ورحل. في الوقت ذاته، راينا في تلك الايام القليلة كيف اصطف جميع رجالات الطبقة الحاكمة وصف من ممثلي الاحزاب والاطراف القومية والطائفية سواء في العراق او كردستان! اصطفوا ملوحين بأسمى آيات الترحيب بالبابا. وبعدها خلفوا غمامة قذرة وموغلة بالكذب تحت عنوان "السلام والتسامح وتعايش الاديان" واتفاق طائفي واثني.

ولكن ما جعلَ موضوعا بهذا الخصوص هو مشاعر العطف بحق المسيحيين ووسيلة سياسية هم المواطنون المسيحيون ومأساة غلفت حياتهم لأكثر من عقد من التشرد والهجرة والدمار والارهاب والقتل الجماعي. واذا كان الامر كذلك ما سر هذا المديح والثناء ومباركة سفر البابا للعراق، وماهي الحقائق التي تقف خلف هذه الزيارة؟ هل ان هذه الزيارة هي فعلاً من اجل سلام الاديان وارساء التعايش بين الجماعات الدينية والفئوية التي مسكت بخناق المجتمع وخلفت حمامات دم ودمار؟ او على الاقل ان زيارة البابا هذه تنزع اهات من افئدة هذا القسم من المواطنين الذي الحق به مأساة باسم "المسيحية"؟

على النقيض من تلك الدعايات والاكاذيب التي يطلقها ساسة احزاب الطبقة الحاكمة، ويعتقدون ان البابا حضر للعراق "من اجل السلام والتسامح وتحسين اوضاع المسيحيين" وينشد مليء هذه الهوة والشق التي في حياتهم والتي هي نتيجة الحرب الداخلية للجماعات الدينية والطائفية وحرب داعش، ان زيارة البابا في جوهرها ذات بعد سياسي وذات صلة مباشرة بأوضاع العراق وكردستان والمنطقة. وفي هذا الاطار، جُعِلَ من مأساة المسيحيين ورقة سياسية بيد الجميع. حتى ان البابا نفسه يعرف جيداً ان اناساً من امثال برهم صالح، الكاظمي، المالكي، الحلبوسي، العامري، واولاد عائلة البرزاني والطالباني و... الذين باركوا زيارته، هم ليس اهل سلام وتعايش، ليس هذا وحسب، بل هم انفسهم من صنع وخلق هذا المستنقع الجاري الذي يمر به المجتمع في العراق، وانهم غارقون في النهب والفساد. وطالما تقتضي مصالح الرأسمال وتجارة التهريب وشركاتهم وتجارتهم فانهم على استعداد للدوس على اي مبدأ انساني وخنق المجتمع في الدماء والدمار والحروب والصراعات الاثنية والدينية.

وعليه، فان الكلام المعسول والمديح والثناء الذي قوبل به البابا وزيارته، وصولاً الى ذرف دموع التماسيح على المسيحيين هو بهدف ان ينجدهم ويحقن روح اخرى لسلطتهم وحكمهم الموشكة من ابواب الانهيار التام. وعليه، فان الدور الذي يتعقبه من زيارته هذه، وتحت ستار دعاية السلام والتسامح، هو ان يمد طوق النجاة بالتدخل في الوضع السياسي للعراق وكردستان ونجدة الطبقة الحاكمة واحزابها التي تغرق في دوامة وازمة عميقتين. وبالأخص امتداداً للصراعات السياسية وصراع المصالح العالمية والاقليمية، تأتي هذه الزيارة في اوضاع يمر العراق وكردستان في العديد من المعضلات الاقتصادية والسياسية والامنية. فبالإضافة الى مشكلة الثروات، وبالتالي الازمة الاقتصادية ومشكلة كورونا، هناك الصراعات ما بين الاطراف الشيعية، الصراع مع الاطراف السنية، صراع مابين اقليم كردستان وبغداد، نفوذ وتدخل ايران ودور الجماعات المسلحة في انعدام الامان، وصولاً الى صراع امريكا وايران والتدخل العسكري التركي و... هذه كلها الى جانب احتجاجات الجماهير وامكانية اندلاع هبة جماهيرية اجتماعية كبيرة، رمت كلها مجمل سلطة الطبقة البرجوازية سواء في العراق او كردستان في مستنقع سياسي وامني. في وضع مثل هذا، وتلبية لنداء حكومة الكاظمي، اصر البابا على السفر وتحقيق وتنفيذ اصراره عملياً.

ولكن ثمة عامل اخر يطرح نفسه هنا، وهو عامل سياسي، تدخل امريكا ودول اوروبا. ان الحملات الصاروخية للجماعات المسلحة الموالية لإيران لم تعرض وجود القوى الامريكية الى ضيق، بل بينت عن العجز التام لحكومة الكاظمي عن السيطرة على الوضع والملف الامني، وبهذا الخصوص، سعى البابا، من جهة، تحت عنوان سلام الاديان، ان يضع ايادي الممثلين السياسيين لـ"المكونات" بيد بعض، كي يعدل كف الميزان "للديمقراطية والتعددية السياسية في العراق"، ومن جهة اخرى، ليفصلهم عن الجماعات الموالية لإيران. ان زيارة البابا الى السيستاني نفسها هي رسالة للأحزاب الشيعية بان المركز المسيحي العالمي، الذي تقف من خلفه دول اوربا، يعتبر ان مركز التشيع هو العراق وليس ايران. وان هذا سيكون دون شك شرط التعامل السياسي والتجاري وايصال المساعدات الامنية مابين امريكا واوربا وتلك الاحزاب والحكومة العراقية، بحيث لا يستطيعون الحيد عنه. والاكثر من هذا، لم تطأ اقدام البابا ارض روما بعد ، حتى وجه الكاظمي نداء سلام وطني لجميع الاطراف، ومن ضمنها اقليم كردستان. وان هذا بذاته هو فرض احد مساعي البابا لتوحيد الحكومة والاطراف المكونة لها.

ولكن فيما يخص الاهداف السياسية لاوربا، تم اعطاء البابا دوراً اكبر، دوراً يرتبط بـ"ملف المسيحيين" والمأساة التي يغرقون فيها. كان مفهوم "حقوق الانسان" دوما اساساَ للتدخل السياسي للحكومات الاوربية في اوضاع البلدان التي هي ليست على استعداد للتقيد بشروط "النظام الامني للاتحاد الاوربي". وبهذا الصدد، فان قضية الهجرة واللجوء، هو عامل يعرض هذا النظام للخطر. ولكن الدول الاوربية لا تنظر في ماساة المسيحيين، اذ انه في غضون عقد من السنين الاخيرة، تشرد وتهجر اكثر من مليون مسيحي للخارج، كما لاتضع في بالها ان اكثر من 180 الف مسيحي قتل او تم ترحيلهم، ودمرت عشرات الكنائس والقرى والمراكز، بل وضعت رأسمالها في تقلص نسبة المسيحيين من مليون و400 الف شخص الى 250 الف شخص، وبالتالي، فان النظام الديمقراطي في العراقي الذي ارسي على اساس التعددية الاثنية والدينية وتقسيم السلطة بين "المكونات" يواجه اختلال توازن ودمار واضمحلال احد مكوناته وعناصره.

ان تعديل هذا الاختلال قد تم في البدء عبر السعي الحثيث من اجل اعادة المسيحيين الى اماكنهم واعادة اعداد منهم من اوربا الى العراق، ولكن اخفقت كل هذه المساعي. ولهذا، ومن اجل ملئ هذا الفراغ الذي جرى في مايسموه حياة المسيحيين، ذهبت انظارهم الى طرح مشروع اكثر استراتيجية، وهو اللجوء الى تأسيس اقليم في منطقة سهل نينوى يدار من قبل المسيحيين انفسهم ويصان عبر الاستناد الى قوة مسلحة خاصة بهم، او على الاقل، يتم تنفيذ هذا عبر اجبار الحكومة العراقية على عقد اتفاقية على غرار ما قامت به في سنجار. وسيطلق عمل مثل هذا دون شك ايادي البابا والفاتيكان في ان يكون له حضور في العراق بوصفه مراقب.

ان مشروع مثل هذا لا يغير الوضع المأساوي للمسحيين نحو الافضل دون شك، ولاينقذهم من وضع الضيق وانعدام الامان الذي يمرون به، بل ستضاف قوة مليشياتية وطائفية اخرى الى قائمة القوى الاخرى ويفتح جرحاً اخراً في جسد مجتمع العراق. ان هذه هي الحقائق التي تقف وراء دعاية السلام الديني والتسامح التي يطلقها البابا ومن في ركبه ليصموا بها آذان المواطنين.

ولكن ما تبين من زيارة البابا الى كردستان هو الموقف الذليل والمتبجح لحكومة الحزب الديمقراطي وقادته، والذين سعوا كثير بالاستعراض الديني والدعاية الكاذبة الى اخفاء طابعهم القمعي والظالم والتغطية على تيار حقد وغضب واحتجاج الجماهير وافهام البابا ان كوردستان اصبحت مركز الصلات بالعالم وان هذا سيجلب للكرد الخير لهم. بموازاة هذا الدفع بممثلي المسيحيين والاشوريين والتركمان والشبك والكاكيين الموالين للحزب الديمقراطي، وتحت مسميات "الاقليات" يدعون البابا الى ممارسة الضغط على حكومة العراق للقبول بمشروع ارساء اقليم في سهل نينوى، وان هذا يضعف من ناحيته خصوم الحزب الديمقراطي وحكومة بغداد! وان هذا يدلل لنا على ان الحزب الديمقراطي وحكومته، كما هو الحال دوما، يريا مصالحهما في الصراع القومي والديني والتضحية بسلامة وامان الجماهير العمالية والكادحة في العراق.

في الختام، تؤكد زيارة البابا لجماهير العراق وكردستان على حقيقة مفادها ان مجمل القوى والاطراف البرجوازية، سواء المحلية او الاقليمية او العالمية، وعلى الرغم من الصراعات التي بينها، فإنها موحدة في الوقوف بوجه حياة ومصير الجماهير العمالية والكادحة وتدفع بأجندة تتمثل بفرض الفقر، الحرمان، الدمار، الحرب، الارهاب وتدمير امان المجتمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه


.. حماس تعلن عودة وفدها إلى القاهرة لاستكمال مباحثات التهدئة بـ




.. مكتب نتنياهو يصيغ خطة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب


.. رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي: الجيش يخوض حربا طويلة وهو عازم




.. مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين