الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مهجع الصور

راتب شعبو

2021 / 3 / 18
الادب والفن


"صدّق إنها المرة الأولى التي أدخل فيها إلى فرع أمن. دخلت دون أن يكون لدي أدنى فكرة عن سبب استدعائي. سألني المحقق ماذا أعمل قلت له إنني مهندس بناء. قال إن حذاءه يفهم في البناء أكثر مني. ارتبكت ولم أدر ما أقول، فجاءتني العبارة كأنها إلهام: حاضر سيدي! حدّق بي بوجه جامد ثم سألني إن كنت أحب سيادة الرئيس، فقلت: نعم بالتأكيد، وأضفت بفرح مجروح: في مكتبي توجد صورة كبيرة لسيادته. بقي وجهه جامداً، فنزف فرحي للتو آخر قطرة من دمه، وبدأت أشعر أنني على أرض من رمال لزجة رطبة تبتلعني دون قدرة لي على دفع مصيري المجهول القادم. قال بصوت بارد: من يحب سيادة الرئيس لا يهدم جداراً تحمل صورة سيادته دون إجراء المراسم اللازمة. في لحظة واحدة أدركت سبب استدعائي وأدركت في أي ورطة أصبحت، إنه بالتأكيد الشعور نفسه الذي يشمل حيوان في لحظة إطباق المصيدة عليه. لم أجد ما أقول، فنطق لساني تلك العبارة التي اكتشفت لاحقاً إنها تصلح كجواب ثابت على احتقار هؤلاء لك: أمرك سيدي! هذه العبارة قد تنجيك من الشر أحياناً، ولكني لم أنج.
"كان ذلك في مشروع منحوس لصالح الريجي. كنت رئيس المشروع وكان علينا أن نهدم جداراً قديماً صار مع الوقت محلاً للصق مختلف الصور والإعلانات والنعوات، ومن بين الملصقات كان ثمة صورة قديمة لسيادة الرئيس. لم يعن لي الأمر شيئاً، قلت في نفسي إنها مجرد ورقة وإن الجرائد التي تحمل صور سيادته كثيراً ما أراها مرمية على الأرض أو مستعملة كممسحة للزجاج أو كغلاف داخلي لعلبة قمامة حتى. طلبت من سائق الجرافة هدم الجدار.
"أكدت لذاك الرجل الذي تولى محاسبتي، إنني أحب سيادة الرئيس، ولا أحب من لا يحبونه، وأشارك في المسيرات وأهتف مع أخوتي السوريين عبارات الاستعداد لفداء سيادته. وقلت له إنني صاحب عائلة ولا هم لي سوى إعالتها. لم تتغير تعابير وجهه، كان يخرج من عينيه نظرة وعيد مخيفة. قال كأنه يحمل في نفسه ثأراً مبيتاً ضدي: كلكم تقولون الكلام نفسه حين تقعون. ثم سألني بصورة قطعية: هل تعترف إنك هدمت جداراً عليه صورة لسيادة الرئيس دون تقديم المراسم اللازمة؟ لم يكن لي بد من أن أقول: نعم. بعد ذلك وجدت نفسي بين أخوتي السوريين، زملائي السجناء. صحيح أن المحقق وعناصره شتموني، وهناك عنصر بصق في وجهي قائلاً: هذه للذكرى! ولكن أشكر الله أنني لم أتعرض للتعذيب الجسدي."
"في السجن التقيت بأحد العمال المسجونين بسبب صورة أيضاً، وحكى لي قصة مهندس آخر واجه جداراً يحمل صورة للرئيس فأوقف العمل وأخبر الشرطة التي أخبرت بدورها فرع الأمن الذي أخبر بدوره قيادة الجيش التي لم تعرف ما هي أصول التعامل مع حالة كهذه، ثم بعد الكثير من التواصلات والبحث في الأمر، تقرر تشكيل فصيل عسكري جاء إلى مكان تواجد الصورة إياها. أدى الفصيل مراسم عسكرية معقدة كأنها مراسم وداع، ثم قدم التحية للصورة قبل أن يسمح بمواصلة العمل. وهكذا واصل ذاك المهندس، الذي سبق له أن زار الفرع لخطيئة ما، عمله بعد ذلك بأمان. لو سبق لي زيارة الفرع، كما حدث لذاك المهندس، لما تفوق علي في التعامل مع الصورة.
"تسأل ما قصة ذاك العامل مع الصورة أيضاً؟ سأقول لك: هو عامل في شركة النصر التي كانت تصنع تلفزيونات سيرونكس. رأى في مكتب مدير القسم نقطة سوداء على صورة سيادة الرئيس المعلقة في المكتب، فقال مازحاً: ألم يرق للذبابة أن تعملها إلا هنا؟ بعد أيام قليلة وقف وقفتي تلك أمام المحقق الذي ذكّره بخطايا كثيرة سابقة تركها الفرع دون محاسبة كان آخرها الشكوى من ارتفاع سعر البيض. هكذا وجد نفسه بين أخوته السوريين السجناء. كانوا يسمونه في مهجع الصور سجين الذبابة.
"نعم هناك مهجع مخصص لجماعة الصور. صور سيادته موزعة في كل مكان والمرء لا يستطيع دائماً منه نفسه من الخطأ. في مهجع الصور التقيت يا أخي مديراً مهماً وناجحاً في وزارة النقل. جعل هذا المدير جدران مكاتب الموظفين من الزجاج الشفاف لكي يكون الجميع تحت نظره، فلا يقضون أوقاتهم في الثرثرة وحفلات الشاي. حين ضاق الموظفون بهذا المدير، غطوا زجاج مكاتبهم بصور متعددة لسيادة الرئيس، وعادوا إلى تراخيهم وعاداتهم القديمة. طلب الرجل إزالة الصور، لأن هذه أماكن للعمل وليست معارض للصور. لكن الموظفين رفضوا قائلين إن أيديهم لا تطاوعهم بأي شكل على نزع صور سيادته. عندها ذهب بنفسه، بسنواته التي تتجاوز الستين وبقدمه العرجاء، ونزع الصور بيديه. بعد ذلك بأيام قليلة، وقف مثلي بين يدي محقق يحمل في نفسه ثأراً ضده، لا تدري مصدره، ثم وجد نفسه هنا مع أخوته السوريين السجناء في مهجع الصور."
أيار/مايو 2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع


.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية




.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما