الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خيالات

حامد تركي هيكل

2021 / 3 / 18
الادب والفن


الساعة الحادية عشر ليلاً، تجلس س وحيدة في غرفة المعيشة تشاهد التلفاز، بعد أن انسحب كل أفراد العائلة الى غرفهم. نشرات الاخبار ليس فيها ما يسرّ. كلّ الأخبار تدور حول الجائحة، عدد الصابات،عدد الوفيات، إجراءات الحظر، لقاحات جديدة، تحول الفايروس، أعراض جديدة. تشعر بالاشمئزاز. تطفيء التلفاز وتنسحب هي الأخرى الى غرفتها أيضاً.
هي طالبة في كلية الطب السنة الخامسة. لقد تعبت من أجل الحصول على معدل يؤهلها دخول هذه الكلية قبل خمس سنوات. ولشدّما كانت فرحتها وفرحة والديها كبيرة بحصولها على مقعد لدراسة الطب. ولكنها الان تعتقد أن هذا لم يكن يستحق كل ذلك العناء. هي الآن تتمنى لو أنها درست الفن التشكيلي.
س في العشرين من عمرها، وبالتحديد فهي ستحتفل بعيد ميلادها الثالث والعشرين بعد شهرين من الآن. ذكية، وجميلة، ومرهفة الحس، ولديها طموح كبير في أن تكون طبية ناجحة. الا أن ما حلَّ بالعالم بعد أن اجتاحه فايروس كوفيد -19 ربما غيَّر نظرتها قليلاً. فقد بدى لها الطبُّ عاجزاً عن مجابهة أصغر فايرس. فضلاًعن أن مهنتها المستقبلية بدت لها مصحوبة بالألم والفقدان أكثر مما تستطيع احتماله. هكذا فكرت.
قبل نحوِعشرين سنة
عندما كانت س طفلة، راودت المخاوفُ أمَها عليها. فقد ظنت أن ابنتها الصغيرة البالغة من العمر ثلاث سنوات ربما تعاني من مرض عقلي أو نفسي ما. فقد لاحظتها تلعب وحيدة في غرفتها، وتبقى على تلك الحالة ساعات دون أن تملّ. كانت تسمعها تكلم نفسها. وعندما زاد قلقها راقبتها أكثر، فوجدتها وكأنها تلعب مع طفل آخر. تحدّثه، وتضحك، وتناقش معه مواضيع عديدة.
عندها لم تجد الأم بداً من سؤال ابنتها. كانت الأم مترددة، وخائفة، ولا تعلم ما الذي ستكتشفه. ولكنها استجمعت قواها، وبهدوء، وبريق ناشف، وقلب خافق بشدة سألتها: مع من تتحدثين حبيبتي؟
ولكن الطفلة أجابت بسرعة وبلا تردد: مع صديقتي.
- صديقتك! ومن تكون صديقتك هذه؟
استمر الحوار بهدوء. وعلمت الأم أن طفلتها تتخيّل فتاةً شفافةً! جميلة، ترتدي ثوبا من نور، ثوباً يشع بألوان بهيجة لامعة مثل الألوان التي تنعكس من الهرم الزجاجي الموضوع على الطاولة في غرفة الجلوس عندما يسقط عليه ضوء الشمس. وهي لا تحتاج للأبواب لتدخل وتخرج. بل تدخل من ألجدران أو أحيانا من السقف! وهي تحبُّها حباً جماً، ولا تصبر على غيابها. وعندما تحضر فهي تجيب عن كل اسئلتها، وليس كما يفعل الأهل، إذ غالباً ما يتهربون من الإجابة عن الاسئلة! هكذا أذن.
استشارت الأم أطباءً، وتحدثت مع زوجها ومع أمها أيضاً، ولكن الجميع أكّدوا لها أن ذلك طبيعي جداً، وأن الطفلة سرعان ما ستنسى هذا الخيال وهذا اللعب عندما تلتحق بالروضة.
بشكل أو بآخر أحسّت الطفلة الذكية بقلق أهلها وارتباكهم، ولذلك طلبت من صديقتها الشفافة عدم الحضور، ولكنهما، هي وصديقتها الشفافة، اتفقتا على تقليل الزيارات فقط، وتقليل زمن الزيارة، لأن ذلك ضروري، كما قالت الشفافة.
وبمرور السنين، بدا للأهل وكأن ابنتهما قد تجاوزت هذه الحالة تماما، وغدت فتاة طبيعية، فتاة ذكية، بل خارقة الذكاء.
أفكار الأم
هل كانت تلك الشفافة التي تراها ابنتي حقيقة؟ كانت الأم تفكر. هل هي كيان مادي؟ ولكن، أنى لها أن تكون كذلك وهي ضوء؟ ألوان، تنفذ عبر الجدران، ولا يراها أحد؟
هل هي مخلوق من عالم آخر؟ من يدري؟ ثم ألا يتعارض ذلك مع كلِّ شيء؟ العلم، الدين، العقل. يا ألهي! كانت في حيرة.
أخيراً أستقر رأي الأم على أن هذه الشفافة التي تراها ابنتها الموهوبة هي محض خيال. فللطفلة قدرات عقلية خلاقة، هي تستطيع أن تجسّد أفكارها بالشكل الذي يحلو لها. إطمأنت الى هذا الرأي. ولكنها ظلت لا تستطيع التخلص من القلق الممزوج بالفخر والأمل بمستقبل واعد لهذه الطفلة الاستثنائية.
الوضع طيلة السنوات السابقة
ما لم يعلمه الأهل أن الصديقتين قد كبرتا معاً، س والشفافة. وتواصلتا بطرق مختلفة من دون أن تتسببا بقلق الأهل. فقد تعلمت س كيف تستدعي صديقتها الشفافة عند الحاجة، فتحضر على الفور. وتعلمتا كيف تتواصلان بواسطة التخاطر. فضلاً عن أن الشفافة كانت كثيرا ما تزور س بالأحلام، وكان ذلك كافياً.
وقد ساعدت الشفافة س في أمور كثيرة، كانت معلمتها، وناصحتها، ودليلتها في أصعب المواقف. فهي تعرف كل شيء.
لم تفكر س مرة واحدة بتوجيه السؤال الصادم لصديقتها: من أنت؟ أو: من تكونين؟ فقد آمنت أن مثل هذا السؤال قد يجرح مشاعرها. فهي صديقتها وحسب، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ وكلما مرت السنوات، صار ذلك السؤال أكثر استحالةً.
في الواقع قلّت لقاءات الصديقتين كثيراً في السنوات الأخيرة. فالفتاة مشغولة بدراستها، ولا تستدعي الشفافة من أجل المساعدة في الدراسة،
لأنها تريد أن تتفوق بمجهودها، فالنجاح عندئذ يكون له طعم أحلى. ولكنها تستدعيها مرات متباعدة عندما تشتاق إليها فقط، ولا تطلب منها أيَّ شيء آخر.
اللقاء الأخير
الليلة تشعر أنها بأمسّ الحاجة إليها. ستستدعيها، وستسألها سؤالاً عجز الجميع عن الإجابة عنه: هذه الجائحة، الى متى؟
الأهل كلهم نيام في غرفهم، لا أحد سيسمع الحوار، تشعر أنه الوقت المناسب للحصول على معلومات مؤكدة.
فجأة ظهرت الشفافة في الغرفة. مساء الخير، مساء النور حبيبتي، مشتاقة إليك. تبادلتا القُبل كما تفعل الصديقتان عادة، وجلستا على السجادة. الشفافة متكئة على السرير، و س متكأة على خزانة الملابس.
- بصراحة تعبت. قالت س
- أعلم ذلك. قالت الشفافة.
- هل لك أن تخبريني متى وكيف يتخلص العالم من هذا الوباء؟ يبدو أنه يتحول، وكلما تحول صار أشرس.
- اسمعي عزيزتي،اتمنى أن تتركي هذا الموضوع.
- لماذا؟
الشفافة لا تجيب على هذا السؤال.
- أنا أصرّ ، لابد أن أعرف.
- حسن أذن.اسمعي. قد يبدو هذا غريباً، وقد يبدو صعباً، ولكنني سأحاول. بأمكانك أن تتخيلي العالم كعائلة واحدة، أو جماعة واحدة. كل الأنواع من البشر والحيوانات والطيور والاسماك والحشرات والجراثيم والاشجار هي أفراد هذه العائلة. عائلة أو جماعة منظمة ومتعاونة. ثم ينحرف أحدها، ويقوم بسلوك مضرّ بالجماعة. في مثل هذه الحالة ستحاول الجماعة إعادته الى الصواب بطرق مختلفة قد يكون بعضها مؤلماً.
- لم افهم
- حسن اذن لنجرب مقاربة أخرى. تصوري أن العالم كله مثل كيان واحد. وكل الأفراد الذين ذكرتهم هم خلايا في جسم هذا الواحد.
- لم أفهم.
- انت تدرسين الطب وتعلمين أن جسم الأنسان مكوّن من أجهزة وأنسجة وخلايا. وكل هذه الانسجة والخلايا تنتمي الى فرد واحد وتعمل بشكل متكامل. وفي جسم الانسان سوائل كالدم والبلازما وغيرها. وكل عضو وكل خلية لديها وظيفة محددة. كذلك الأرض. بأمكانك أن تتصوري البحار والمحيطات والأنهار والهواء مثل سوائل هذا الجسد الواحد. أما الكائنات فهي أعضاء أو أنسجة أوخلايا لهذا الجسد الواحد.
- ليس صحياً. ذلك لأن هذه المخلوقات مختلفة في الدي أن أي، فلا يمكن أن أصدق أن الاشجار والبشر هم جسم واحد.
- الاختلافات في الشكل وتركيبة الحوامض والبروتينات له علاقة باختلاف الدور والوظيفة. ومع هذا فهناك تشابهات بين خلية النبات وخلية الحيوان.
- ابتعدنا كثيراً، أنا سألتك عن الكوفيد.
- كلا لم نبتعد، في جسم الانسان يوجد مناعة اليس كذلك؟
- نعم بالتأكثد.
- وكذلك في جسم الأرض هذا الكائن الواحد. يفترض أن يعيش كائن الأرض بكل أنسجته وخلاياه بتناسق ونظام وسلام. ولكن بعض الخلايا وبعض الأنسجة تنحرف عن المسار، تماماً مثلما تصاب بعض أنسجة جسم الانسان بالسرطان، ففي هذه الحالة أنت تعرفين أن على جهاز المناعة أن ينبري ليدمر الأنسجة المعطوبة والمنحرفة والخطرة، صح؟
- تماماً
- لذلك بأمكانك أن تتصوري أن جهاز مناعة الأرض أرسل خلاياه المناعية لتدمير الخلايا السرطانية.
- ماذا فعلنا؟
- أنسيت؟ أم أنك تمزحين؟ مؤكد أنك تعرفين ما يقوم به البشر من إسراف، وتلويث وظلم وفساد.
- ولكن الذين يموتون والذين يتألمون ليس لهم دخل بما تقولين صديقتي.
- هكذا يعمل نظام المناعة للأسف.
- هل سينتهي هذا العذاب؟
- نعم
- متى؟
- عندما يكفُّ البشر عن العبث.
- لدي سؤال أخير. كنت أود طرحه عليك صديقتي منذ زمن بعيد. من أنت؟
- أنا صديقتك الشفافة، هل نسيتِ؟ تضحكان
- أنا جادة.
- .................
عندما أشرقت الشمس، وجدت س نفسها وهي ما زالت تجلس وحيدةً على سجادة غرفتها، وقلبها يعتصره ألم على مصير الأبرياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم


.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24




.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو