الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواء الساعة

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2021 / 3 / 18
الادب والفن


تعطنتُ في غرفتي، رسّبوني في قاع مستنقعٍ راكد، وها هو جلدي.. جلد روحي يكاد يتعفن وينسلخ، ها أنذا استلقي على سريري، أتلمسُ بأصابع روحي برودة غرفتي وخوائها، البرد في غرفتي، البرد في البيت، البرد في وجوه الناس، دقات الساعة المنضدية ترن في السكون والبرد برتابة، تمليتُ الرقاص ، بطيئاً يزحف، ثقيلا يضغط على رأسي، في أعماق جدار الغرفة أمامي تفجرت نهارات مزدهية، حدائق خضراء العشب ووجوه أصدقاء لفتهم أيام حادة وألقت بهم بعيداً..بعيداً حيث يصعب عليّ رؤيتهم.
كنتُ في تلك الأيام أحتار عصراً إلى أين أذهب، فالوجوه الحميمة المعجونة بالطيب والحنان كثير
، أختار واحداً،ندفئ قلبينا بالحكايات والأماني، حالمين بالوطن يصير حراً والشعب سعيد،نفتح باب الليل والورق السري المبشر بالعدالة وقرب يومها، فالاشتراكية على باب العراق ولم يبق سوى فتحها وقطفها، أودعه بحرارة نتصافح بعنفوان ، نشد كفيَّ بعضٍ بمرح، وعيناي الضاحكتين تغور في قسماته الباسمة، كان يضحك بكل تفاصيل وجهه، فالحلم خلف الباب.
عيناي الحائرتان تتابع حلقات الدخان الطائفية والمتصاعدة نحو السقف، الوحشة، الوحشةأطبقت عليّ ودفعت بيّ إلى عتبةالطفولة. احسست بجدران الغرفة تتحرك وتتقارب لتضغط عليّ على إيقاع دقات الساعة الرتيبة، حاصرتني الجدران، حاصرني رأسي. تمنيتُ أن تطبق عليّ وتحيل جسدي إلى كومةٍ مسحوقةٍ. نهضت بعناء وارتديت ملابسي بتثاقل، الشارع يضج بأطفال المحلة والنسوة الجالسات أمام أبواب بيوتهن، شمس الغروب حمراء متوهجة تشعل الحواس الخامدة، لفحتني نسمة باردة مزيحةً توقد اللحظة فازدادت وحشتي ضراوةً ، أحالتني إلى قنفذ مذعور يتكور على نفسه خوفاً من نأمةٍ ما، تقاطعني الوجوه غير تلك التي أراها مبتسمة، مليئة إصراراً، حيوية، باتت وجوه مذعورة، لا تتمكن حتى من احتواء ذاتها، من قول شيء، تلتاذ بقنفات المقاهي تجتر وقتها بالدومينو ولعبة الطاولة وقصص لا معنى لها تلوكها متفلتة، وجوه تهرب بعينها من بعضها البعض، وجوه شوهاء، نزعوا كرامتها وعنفوانها في جحيم الأقبية والزنازين.
أدخل سوق التجار المسقوف ، أخوض في زحمة الأجساد ، رجال كبار السن ينقلون خطاهم بعناء، صبية مراهقين، صبايا يرمقنك بشهوة، نساء ناضجات ملتفعات بعباءات سود.
بشر فقدوا معناهم وتزيفوا بالقمع وخاطر الزنازين، باتوا مرعوبين يتحاشون الكلام بما يجري، أجد نفسي غريباً وسطهم، كدت أن أصرخ من ثقل ضغط هائل أنوء تحته. ضغطٌ أبعد عوالمي الأليفة
التي باتت بعيدة، صعبة، صارت حلماً مستحيلاً. ارتشف الشاي ساخناً في مقهى جدرانها مرايا، انشطرت إلى أربعة. حدقتُ بهم واحداً واحداً، نفس الوجه؛ عينان منتفختان، وجنتان ذابلتان، صرخة مخنوقة بأعماق قسماتي المتيبسة،تركتهم في المرايا وسهوتُ، وجوه النساء المارة على الرصيف، لغطٌ مبهم، سيل من الوجوه، وجه بنت شقراء سرقوها مني دون أتمكن من فعل شيء، استسلمت وتزوجت غيري، صرخت، فعلت كل شيء، راسلت زوجها وأخبرته بالقصة، تنقلت يميناً وشمالاً مثل عتلةلا تكل ولا تمل، وجه أخي الصغير الهاجر الديوانية يهمس بثقة:
- أنها تقاليد ، أنت تعارك جبلاً بيديك العاريتين حتى من معول، نحتاج ثورة تقلبها رأساً على عقب!
فأنكسرت أمانيِّ، وانفرطت كحبات مسبحة على رصيف مغطى بأوراق الخريف، وكتلك الشقراء التي ضيعتني انهالوا علينامثل قطيع ذئاب ، كنا عراة معطلي اللسان والرأس، ما الأيادي والأقدام الضرب والبصاق ، نحروا دفعة واحدة كل أحلامنا التي كنا حتى أيام الحب لا نجاهر بها علناً، بل نشير لشذرات منها همساً، تمليت ساعة المقهى المعلقة على الجدار فوق سور المرايا، كان الزمن بطيئاً ينسكب داخلها بطيئاً رتيباً، لا أعرف ما أفعل به، وفكرتُ بالزمن والعجز، أن يترك الإنسان يواجه ثقل رقاص الساعة يرى قطرات الزمن تتلاشى وتيبس وهو لا يتمكن مد يده لا ليوقفه أو القفز عليه، فهذا ما لم يفكر فيه أحدٌ من أصحابنا ولكن للاحتكاك به فقط، لمداعبته . هذا العجز والبقاء ضمن دائرة صنعوها حولنا، رؤوسنا تجتر أفكارها داخلها والزمن يمر دقة دقة أليماً، فاحش الدعر ، هائل الثقل، هذا هو الموت الحقيقي.
هاج رأسي من الأفكار، فوضعت كفيّ وضغطت محاولا طرد ضجيج الأفكار، وناديت حاج سعيد القهوجي طالباً قدح أخر من الشاي، شربته برشفات سريعة، غادرت المقهى. وتهتُ في أزقة "الجديدة" وبي رغبة مجنونة في الحديث مع إنسان قريب للقلب، ولكن مع من؟، سؤال أمسى صعباً،ولجت زقاقاً ضيقاً، وجدتني جوار باب صديقٍ حميم أختفى تماما أيام الحملة، قرعتُ الباب، أنفرجت ببطء عن وجهه الباسم، صافحني بحرارة ارتجف لها قلبي وهفا إلى ألق أيام الخدعة الأولى، عسل الجبهة الوطنية السام، سحبني من ذراعي إلى باحة البيت، وأدخلني إلى أول غرفة تشبه غرفتي مكتبة وسرير وكرسيين، تحدث عن الوظيفة وتفاصيل العمل، كنا نعمل بدائرة الزراعة، حاولت إدارات دفة الحديث نحو عمقٍ أكثر لصقاً بمحنتنا الوجودية والحرية وسبيل الخلاص، فتدفقتُ دون مقدمات عن ألق الأمس وضوء البيت والخناجر المغروسة في ظهورنا العارية، واستسلام غالبية رفاقنا المخزي، فتضايق وجعل يتململ في جلسته ثم قاطعني قائلًا:
- دعنا من هذه المواضيع دعنا نتحدث عن كل شيء تافه عن القمصان العطور وكل ما يفكرون هم به ولنتحول إلى بشر مثل البقية نعمل ونأكل وننام!
رأيت وجهه الذي كان جميلاً يتشوه، امتلأ دمامل وقيح، فُزغتُ بعيني صوب الحائط، فاجتاحتني الساعة المعلق برقاصها الرتيب الساخر مني، يدق رتيباً قاتلاً وقلت بصوت جهدت كي يبدو قوياً لا يكشف عن هشاشتي الداخلية:
- هذا فقط ما لا أتمكن منهُ يا صديقي!
ومع نفسي:
- وهنا يكمن عذابي!
جاء الحديث بعد ذلك جافاً، يابساً،متقطعًا، مبتوراً، أختلس النظر إلى الساعة كانت فرحة تنفث في وجهي دقاتها.
هربت منها ومنهُ. كانت العاصفة في الشارع والظلمة حالكة وألمي عميقاً، ووسط الريح والتراب زاد عطشي إلى إلفة، إلى غناء، وتمنيتُ الذهاب إلى حبيبتي الصغيرةالحارةً، الملتهبة، رشيقة القد، أشبعها قبلاً وضماً وعناقاً، أدفن رأسي بصدرها الناحل وأبكي.
*. *. *
أجوب الأزقة مثل مجنون، أبحث بيت صديق أخر، في حي بطرف المدينة وقفت أمام بيت صديق تزوج قبل شهرين، طرقت الباب، استقبلني بالأحضان ضاحكاً، بشوشاً، أشبعني ضماً وقبلاً، وفي غرفة واسعة مضيئة، حدثني مسروراً عن مباهج العرس والفراش، كان فرحاً بحياته الجديدة، كنتُ مذبوحاً بليلٍ أسود انتهك سمائي،كنا في واديين متباعدين، شعرت بنفسي وحيداً، أعزلاً، بائساً، بتُ أتكلم دون رغبة، وخلف صاحبي صدمتني ساعة الحائط بسهم رقاصها الدقاق يوجع حواسي الملتهبة، سألني
- أش بيكْ؟
- ما كو شي
ضاقت أنفاسي فغادرت.
في عتمةِ شارعٍ خاوٍ لمحتُ رجلاً يسير ببطء على بعد خطوتين، كدتُ أقفز إليه وألفُ ذراعي حول عنقه ولا أكف عن الضغط حتى تنقطع أنفاسه، جاهدت ضد هذه الرغبة حتى أبعدتها، عدتُ لا أفهم نفسي:
- ما هذا؟.. أيتحول حبي للبشرية إلى حقدٍ مدمرٍ أعمى يقتل بريئاً لا أعرفهُ ، قد يكون حاله مثل حالي، اللعنة.. اللعنة ثم اللعنة على من قادنا إلى طرقٍ مسدودة، ودروب معتمة وخيبات متكررة، لقد انمسخنا وصرنا بقايا بشر مخلوط بغرائز أدنى المخلوقات.
كان الليلُ عميقاً محتلاً منتهكاً بطيور سوداء غريبة، متوحشة، أجنحتها جارحة تضرب رأسي المسكين، طيور خطفت أعز الأحباب وحولت أيامنا إلى كوابيس مفزعة تضج بأنهار الدم وعواصف الرعب.
أختل توازني بغتة، فاشتبكتْ قدماي تعثرت وسقطتُ على تراب الزقاق نهضت بعناء، وأسرعت خطاي نحو غرفتي هارباً من العالم والليل والرعب والطيور الجارحة والبشر.
لاح باب بيتنا الحديدي وكأنه باب خلاص من كل ما يجري، من كل شي، من العسف، اليباس، الحب الذي يكاد أن يبدد عقلي، قطعت مدخل البيت الواسع الطويل، وقفت وسط غرفتي، أتأمل صفوف الكتب على ادرجها في الحائط، الكتب التي خلت من معانيها، لم أخلع ملابسي، رميت جسدي في سريري وولعت سيجارة، ضغط على زر المسجل، فتعالت أغنية
(من هي الورد شّده
جبهتنه شمس شّده)
كبست زر التوقف بغضب، فتحت كتاباً، مرت عيناي على صف الحروف دون تركيز، حدقت وجهي في المرآة كان شاحباً،غضناً كوجه كهل. استلقيت في السرير من جديد، انقبض نفسي، ضاع الهواء، قفزتُ من سريري شاتماً نفسي، الكون كل شيء، كل شيء. كل من في البيت يغرق في النوم أمي أبي أخوتي أخواتي، خرجت إلى الشارع العريض، كان فارغاً يمعن في سكون الليل شاغلًا حيرتي
- إلى أين أيمم بوجهي؟
تسمرت قدماي، كل ما يحيطني خاوياً فارغاً مجوفاً، تجمد كل شيء الأصدقاء، الليل،الزمن.
الشارع وأصابع حيرتي
- إلهي أين هرب الدفء؟
صرخت بوجه الليل والفراغ وعدت إدراجي، دقات ساعتي المنضدية اسمعها كقرع طبول، تتحداني،هشمت مينائها بين كفيَّ. ساد السكون لثوانٍ ليضج قليلا. قليلا بدقات ساعة تأتي من غرفة أبي المجاورة بخفوت أول الأمر ثم باتت واضحة ضاجة، قاتلة الرتابة.
دفنتُ رأسي في وسادتي وقلت للجدران بصوتٍ متوسلٍ باكٍ:
- أرجوك أطباقي عليَّ.
23/شباط/1979
الديوانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا