الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العظماء (22) - لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ (4)

علي هيبي

2021 / 3 / 27
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



لم تقتصر رؤية "لينين" لجريدة الحزب الثّوريّ في بعدها الإعلاميّ فقط، بل رأى بها الوسيلة الثّوريّة الّتي توصّل الكلمة المحرّضة للجماهير الفقيرة من العمّال والفلّاحين لتوعيتهم على إدراك دورهم الكفاحيّ من أجل انتصار الثّورة الاشتراكيّة، لقد كانت الجريدة بنظره وسيلة ثوريّة نبيلة من أجل غاية ثوريّة نبيلة أيضًا. وبدأ نشاطه التّحريضيّ بِ "الآيسكرا" (الشّرارة بالعربيّة) الّتي أصدرها سنة (1900) من خارج روسيا،


ماذا قدّم لينين للماركسيّة:

ثمّة مقولة شهيرة وهامّة قالها "لينين" في كتابه "ما العمل" حول ضرورة الارتباط العضويّ بين النّظريّة والتّطبيق: "لا يوجد حركة ثوريّة بدون نظريّة ثوريّة"، ولعلّ في هذه العبارة القصيرة تجربة مسيرة طويلة من الجهد الفكريّ والنّشاط الميدانيّ قدّمهما "لينين" كمؤمن حتّى النّخاع بالماركسيّة وفق ما جاء في "البيان الشّيوعيّ"، الّذي نشره "ماركس" وَ "إنجلز" سنة (1848) ولم يترجم "لينين" ذلك البيان إلى اللّغة الرّوسيّة فحسب بل تعرّض لمقولاته النّظريّة الأساسيّة وبسّطها وترجمها إلى معطيات واقعيّة قابلة للتّطبيق الفعليّ، باعتبار ذلك البيان هو أهمّ أساس نظريّ تقوم عليه الأحزاب الشّيوعيّة منذ منتصف القرن التّاسع عشر حتّى اليوم، مرورًا ببدايات القرن العشرين، بعدما أعلن "لينين" عن نفسه ماركسيًّا سنة (1898) وبدت ملامح اضمحلال الرّأسماليّة بوصولها إلى أعلى مراحلها كما سمّاها "الإمبرياليّة". لقد قدّم البيان الشّيوعيّ كما فهمه "لينين" ببصيرة الثّوريّ نهجًا تحليليًّا للصّراع بين الطّبقات وعرضًا لأزمات الرّأسماليّة ومن مقولات "ماركس" الشّهيرة: "إنّ تاريخ كلّ مجتمع موجود حتّى الآن في صراع الطّبقات" وقد رأى "لينين" بأمّ عينه أنّ ذلك التّحليل ينطبق على الحالة الرّوسيّة وما يعتورها من أزمات واحتكارات ورأسمال وأطماع واستغلال ومقابل ذلك ما يرين من البؤس والجوع والظّلم وانعدام العدالة وانعدام الحرّيّات في أوساط الفقراء من عمّال في المدن وفلّاحين في الأرياف. وفي آخر ديباجة البيان وصّف "ماركس" وَ "إنجلز" باقتضاب أعداء الشّيوعيّة وعن معاداتهم لها وتخويف النّاس من "شبح الشّيوعيّة" ولكنّ هؤلاء الأعداء كلّهم "أصبحوا يعترفون بالشّيوعيّة كقوّة" ولذلك طالب البيان الأحزاب الشّيوعيّة والشّيوعيّين في كلّ مكان "إنّ الشّيوعيّين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم كلّه طرق تفكيرهم وأهدافهم واتّجاهاتهم وأن يواجهوا خرافة "شبح الشّيوعيّة" ببيان من الحزب نفسه" ولهذه الغاية اجتمع شيوعيّون من مختلف القوميّات في "لندن" وكان هذا البيان الّذي فوّضت العصبة الشّيوعيّة "ماركس" وَ "إنجلز" بصياغته ونشره بكلّ اللّغات الأوروبيّة. وما زال هذا البيان يعتبر مرجعًا لكلّ الشّيوعيّين في سائر أنحاء العالم، حيث يؤمنون بضرورة استبدال المجتمع الرّأسماليّ والبرجوازيّ بالمجتمع الاشتراكيّ ومن ثمّ إلى المجتمع الشّيوعيّ. فالمجتمع كما نصّ البيان "لم يعد قادرًا أن يعيش تحت ظلّ البرجوازيّة"، ولذلك حذّر البيان العمّال من الاكتفاء عند حدود الانتصارات والإنجازات المباشرة لها، "يمكن أن ينتصر العمّال من وقت لآخر، ولكن تكمن الثّمرة لمعاركهم ليس في النّتيجة المباشرة فحسب، بل في التّوسّع الدّائم لاتّحاد العمّال في العالم".

لقد برز الفارس الهمام والبطل الشّجاع "لينين" لدعوة رفيقه "كارل ماركس" وندائه في تنفيذ هذه المهمّة الشّريفة والإنسانيّة لإنقاذ المظلومين والمحرومين والمعذّبين والمعدمين من الجوع والفقر والظّلم والاضطهاد والاستغلال، فنزل "لينين" بفلسفة النّظريّة الماركسيّة المادّيّة من سماء العلوم الطّبيعيّة والمعرفة العلميّة المجرّدة والافتراضات الفلسفيّة الصّرفة إلى أرض الواقع وجعلها معركة لهيبها يضيء سماء العالم ويبعث الأمل والرّجاء في القلوب مطرًا منعشًا للخلاص من مآسي الحياة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان وأصبحت المعركة معركة الجماهير العريضة من الأقيان والفلّاحين والعمّال، بين الطّبقات المضطهَدة والكادحة والمحرومة والمستغَلّة وبين الطّبقات المستغِلّة ومصّاصي دمائهم من الإقطاعيّين والرّأسماليّين والبرجوازيّين المتذيّلين. لقد كان "لينين" المطبّق المبدع والمطوّر الملهم لنظريّة "ماركس" وَ "إنجلز" في مرحلة الإمبرياليّة، وقد برزت مواهبه المخلصة من خلال تصدّيه للمحرّفين الشّعبيّين والاقتصاديّين وأثبت بعمق الدّور التّاريخيّ للبروليتاريا في روسيا كقوّة ثوريّة طليعيّة للمجتمع. وكان أوّل من صاغ الفكرة العظيمة، فكرة تحالف العمّال والفلّاحين وهو الذي طبّق النّظريّة الماركسيّة حسب ظروف روسيا وأوضاعها وقاد ثورة أكتوبر العظمى وفجّرها ثورة عظيمة هزّت أركان العالم كلّه وحقّق النّصر العظيم للشّعب الرّوسيّ والإنسانيّة.

وقد يكون "لينين" الماركسيّ أكثر المفكّرين إدراكًا لتلك المقولات وأكثرهم قدرة على التّطبيق العمليّ على أرض روسيا القيصريّة. ففي كتابه "المادّيّة ومذهب النّقد التّجريبيّ" كتب "لينين": "تتمثّل أسمى مهامّ البشريّة في فهم هذا المنطق الموضوعيّ للتّطوّر الاقتصاديّ (تطور الحياة الاجتماعيّة) في جوانبها العامّة والجوهريّة، إلى حدّ يجعل من الممكن أن يتلاءم الوعي الاجتماعيّ الفرديّ ووعي كلّ الطّبقات المتقدّمة في كلّ البلدان الرّأسماليّة مع هذا الوعي الموضوعيّ بصورة واضحة وحاسمة قدر الإمكان". وفي هذا ردّ على من آمنوا بالمبادرات الفرديّة والعفويّة غير المنظّمة. مع أنّ الفكر الشّيوعيّ لم يتعارض مع إقامة علاقات ثوريّة معارضة للرّأسماليّة والبرجوازيّة مع الأحزاب الدّيمقراطيّة الأخرى في كلّ بلدان العالم. في مقالة "مهمّتنا العاجلة" المنشورة في سنة (1899) حدّد "لينين" المضمون الرّئيسيّ للصّحافة الثّوريّة في وجوب نقل المُثل الاشتراكيّة إلى الحركة العفويّة، وصهر الحركة العفويّة داخل نشاط الحزب الثّوريّ.

وفي آخر "البيان الشيوعيّ" جاء: "وأخيرا يعمل الشّيوعيون في كلّ مكان على إقامة العلاقات وعلى تحقيق التّفاهم بين الأحزاب الدّيمقراطيّة في جميع البلدان. ويأنف الشّيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم ويُنادون علانية بأنّ لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلاّ بإسقاط النّظام المجتمعيّ القائم وبالعُنف. "فلترتعد الطّبقات السّائدة خوفًا من ثورة شيوعيّة. فليس للبروليتاريّين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالمًا يكسبونه. أيّها البروليتاريّون في جميع البلدان: اتّحدوا"! وبهذا خُتم "البيان الشّيوعيّ" معلنًا دعم كلّ الحركات الثّوريّة حيث نجد كما سبق في الفصليْن: الأوّل والثّاني دراسة علميّة للتّطوّر التّاريخيّ للمجتمعات وللتّبشير بفجر الأمميّة واضعًا التّدابير الثّوريّة العشر. أمّا الفصلان: الثّالث والرّابع فيركّزان على الخيار الثّوريّ للاشتراكيّة، وتضمّنت كافّة الفصول ردودًا على الإشاعات الّتي أطلقها الأعداء على الشّيوعيين، فكانت بمثابة الرّد الواضح على خرافة التّخويف من "شبح الشّيوعيّة" الّتي خلقتها وأطلقتها القوى الإمبرياليّة والأرستقراطيّة والبرجوازيّة بهدف ترويع الفقراء من الشّعوب والمسحوقين من العمّال والفلّاحين وإبعادهم عن الأحزاب والحركات الشّيوعيّة الثّوريّة وعن طليعة الطّبقة العاملة قائدة الصّراع الطّبقيّ والثّورة الاشتراكيّة نحو انتصارها الحتميّ.

لقد آمن "لينين" بعكس مفكّرين اشتراكيّين آخرين أنّ الطّبقة العاملة وليس الفلّاحين هي الّتي ستقود الكفاح، ولكنّها بحاجة إلى رفد كفاحها بالفلّاحين المسحوقين في الحقول والأرياف، ففي سنة (1917) كتب لينين: "إنّ التّنظيمات الفلّاحيّة القائمة من أسفل دون سيطرة أو وصاية من مسئولي الحكومة أو ملّاك الأرض وتابعيهم، هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الثّورة والحرّيّة. إنّ ما يهمّنا هو المبادرة الثّوريّة، ويجب أن يكون القانون نتاجًا لهذه المبادرة، وإذا انتظرنا صدور القانون ولم نقم بالمبادرة الثّوريّة من جانبنا، فلن نحصل على القانون ولا على الأرض. إنّ حزب البروليتاريا يجب أن يحثّ الفلّاحين على إنجاز الإصلاح الزّراعيّ في الحال بأنفسهم ومصادرة أراضي كبار الملّاك فورًا بناء على قرارات مندوبي الفلّاحين".

وقد أعلن "لينين" ضرورة مصارحة الفلّاحين الفقراء بأنّ الزّراعة القائمة على الملكيّات والحيازات الصّغيرة في ظلّ الرّأسمالية لن تنتج سوى البؤس لهم ولأولادهم، وأنّ هناك ضرورة لتجميع الأرض وتحويل أراضي كبار الملّاك إلى مزارع نموذجيّة تديرها "سوفييتات" العمال الزّراعيّين بالاستعانة بالتّكنولوجيا والخبراء الزّراعيّين. ولكنّ "لينين" كان على دراية تامّة بأنّ ذلك لا يمكن تحقيقه بصورة فوقيّة وأنّه يجب أن يكون باقتناع الفلّاحين أنفسهم بفوائد الإنتاج الكبير في ظلّ الاشتراكيّة.

اعتبر "لينين" هذا البيان "الإنجيل" النّظريّ الموجّه للعمل الكفاحيّ والنّشاط الثوريّ العمّاليّ المسلّح، ضدّ أولئك الأقلّيّة من السكّان في العالم الّتي تملك أكثر ممّا يملكه ثلاثة أرباع من السكّان في العالم وتملك تلك الأقلّيّة الرّأسماليّة السّلطة والثّروات والمقدّرات والاقتصاد والقانون، ومع ذلك تفتقر للعدالة لأنّها تصرّ على تراكم الثّروات الشّخصيّة. ومع ذلك ظلّت هذه الأقلّيّة تعاني من الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للنّظام الرّأسماليّ، ولذلك استغلّت الماركسيّة هذه الأزمات في النّظام الرّأسماليّ وصاغت منظورًا فكريًّا يعدّ أرقى أشكال الفلسفة المادّيّة وفق منهج جدليّ للتّطوّر التّاريخيّ، وقد أدرك "لينين" تلك العلاقة الجدليّة الجليّة بين منظور الماركسيّة وبين الممارسة الفعليّة لنضال الطّبقة العاملة بقيادة طليعتها، الحزب الثّوريّ من أجل تغيير العالم.

كانت الماركسيّة المادّيّة تؤمن بأولويّة المادّة على الوعي بعكس الفكر المثاليّ الّذي يقدّم الوعي على المادّة، ولقد برع "لينين" في تفنيد الأفكار البرجوازيّة الّتي حاولت تصوير الفكر الماركسيّ بأنّه يغلّب الاعتماد على الجماعة ويقضي على حرّيّة الإرادة الفرديّة، بقصد تشويه الفكر الماركسيّ والتّطبيق اللّينينيّ اللذيْن يركّزان على أولويّة النّضال الجماعيّ دون إغفال لدور الفرد في سياق ذلك النّضال الثّوريّ للطّبقة العاملة والفلّاحين المعتمد على أولويّة الجانب الاجتماعيّ والاقتصاديّ، بالاعتماد على المعرفة العلميّة وعلى الحقائق الموضوعيّة وليس على الحدس والإرادة الفرديّة، فقد آمن "لينين" بالعلاقة العضوية الّتي لا تنفصم بين الفكر المادّيّ والمنهج الدّيالكتيكيّ في أسبقيّة المادّة عن الوعي ودحض مقولات المثاليّة عند "هيجل" (1770 – 1831) والمنهج الميتافيزيقيّ عند "فيورباخ" (1804 – 1872) ولقد ظلّ "لينين" حتّى نهاية حياته ومسيرته أمينًا وملتزمًا فكرًا وتطبيقًا، نظريًّا وعمليًّا ومدافعًا بشدّة عن المنهج الفكريّ وعن ميراث "ماركس" وَ "إنجلز" كما انعكسا في "البيان الشّيوعيّ". وآمن في قدرة الطّبقة العاملة على فهم قوانين التّطوّر التّاريخيّ والاجتماعيّ، ليعينها هذا الفهم على قيادة النّضال الثّوريّ ضدّ الرّأسماليّة وملحقاتها العفنة، ومن هذه النّظريّة وبهذا الاتّجاه الثّوريّ استطاع "لينين" وإلى جانبه "تروتسكي" من قيادة الثّورة الشّيوعيّة سنة (1917) إلى الانتصار. لتنتهي إلى أواخر القرن العشرين روسيا القيصريّة الشّموليّة والرّأسماليّة الاستغلاليّة والبرجوازيّة الرّجعيّة والمتذبذبة.

كان لينين على علاقة جيّدة مع الشّعراء والأدباء، يصف "مكسيم غوركي" صديقه قائلًا: "إنّ دهشتي كبيرة.. كيف إنّ هذا الرّجل الّذي شاهد وعاش الكثير من المصائب والمآسي كان يستطيع أن يضحك بقدر كبير من السّذاجة والطّيبة" وقد نعته بالزّعيم الضّاحك. ثمّ يضيف: "كيف إنّه بعد أن يستغرق بالضّحك يمسح عينيه من الدّموع ويقول عنه: "إنّ الإنسان الشّريف ذا القلب النقيّ والطّاهر وحده يستطيع أن يضحك بهذه الصورة"



دور الجريدة في حياة الثّورة:

لقد وضع "لينين" مهمّة تأسيس صحيفة ثوريّة مركزيّة على رأس جدول أعمال الاشتراكيّين الدّيمقراطيّين الرّوس منذ مطلع القرن العشرين. فمع إنشاء الحزب الثّوريّ نمت الحاجة الملحّة لإنشاء جريدة تنطق باسْم الحزب، طليعة الطّبقة العاملة. أمضى "لينين" عشر سنوات من النّضال الّذي لا يعرف الكلل والّذي لم يتوقّف ولو ليوم واحد من أجل إنشاء حزب ثوريّ في روسيا، وقد أتت هذه السّنوات العشر أُكلها، فقد ظهر الحزب الثّوريّ بالفعل، وإذا كانت هيئة تحرير "الآيسكرا" قد استطاعت وضع برنامج حزبيّ ثوريّ، فما ذلك إلّا بفضل قيادة "لينين". وفي برنامج الحزب أشير بدقّة ووضوح إلى الهدف النّهائيّ لحركة العمّال، بناء المجتمع الجديد الاشتراكيّ، كما أشير فيه إلى الطّرق الّتي توصل إلى الهدف، الثّورة الاشتراكيّة وديكتاتوريّة البروليتاريا، ورسم البرنامج كذلك الأهداف المباشرة لحزب الطّبقة العاملة، إسقاط القيصريّة وإقامة الجمهوريّة الدّيمقراطيّة. هل يمكن تحقيق كلّ ذلك بلا جريدة!

لم تقتصر رؤية "لينين" لجريدة الحزب الثّوريّ في بعدها الإعلاميّ فقط، بل رأى بها الوسيلة الثّوريّة الّتي توصّل الكلمة المحرّضة للجماهير الفقيرة من العمّال والفلّاحين لتوعيتهم على إدراك دورهم الكفاحيّ من أجل انتصار الثّورة الاشتراكيّة، لقد كانت الجريدة بنظره وسيلة ثوريّة نبيلة من أجل غاية ثوريّة نبيلة أيضًا. وبدأ نشاطه التّحريضيّ بِ "الآيسكرا" (الشّرارة بالعربيّة) الّتي أصدرها سنة (1900) من خارج روسيا، فقد صدرت في ألمانيا وكان مقرّها في "ميونيخ" في فترة السّنوات الخمس الّتي قضاها "لينين" في المنفى، ومن ثمّ استطاع "جوزيف ستالين" (1878 – 1953) من الحصول على مطبعة من "جورجيا" وتولّى مع رفيق آخر إصدارها وتوزيعها سرًّا، وقد كانت سلاحًا فكريًّا نشر فيها "لينين" ورفاقه أفكارهم الاشتراكيّة، وكان يتصدّر كلّ عدد من أعدادها مقولة تعبّر عن الانطلاق الثّوريّ منذ شرارته الأولى حتّى انتشار لهيبه الثّوريّ العظيم "ومن الشّرارة يندلع اللّهيب". وقبل هذه الجريدة ولوعي "لينين" لدور الكلمة في الثّورة كتب منذ أن أصبح ماركسيًّا الكثير من المنشورات السّرّيّة الّتي أدخلها إلى روسيا ووزّعت سرًّا، وكثيرًا ما لاقى عقوبات السّجن والنّفي من جرّاء تلك النّشاطات، وكتب مئات المقالات للتّعبئة النّضاليّة وعشرات الكتب الّتي تحلّل بشكل علميّ الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتشرح وتبسّط النّظريّة الماركسيّة لتوعية العمّال من أجل القيام بالثّورة الاشتراكيّة الّتي ستصنع غدهم وغد أبنائهم السّعيد تحت الظّلّ الوارف للحرّيّة والعدالة والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة.

أمّا صحيفة "البرافدا" (الحقيقة بالعربيّة) فقد تأسّست سنة (1911) وكانت الصّحيفة الرّسميّة للحزب الشيوعيّ في الاتّحاد السّوفييتيّ، وكانت الصّحيفة الأوسع توزيعًا وانتشارًا في العالم، وظلّت كذلك حتّى الانقلاب وبداية الانهيار الّذي بدأه "ميخائيل غورباتشوف" بِ "البيريسترويكا" (إعادة البناء بالعربيّة) وَ "الغلاسنوست" (العلنيّة والانفتاح بالعربيّة) هذا الزّعيم السّوفييتيّ الّذي وعدنا بإعادة البناء كان هو هو قمّة هاوية انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، واستطاع الرّئيس السّكّير "بوريس يلتسين" عدوّ الشّيوعيّة أن يصبح رئيسًا لفترة وجيزة وأصدر مرسومًا يقضي بإغلاق صحيفة "البرافدا" سنة (1991) وقامت على أنقاض ذلك الانهيار دولة "الاتّحاد الرّوسيّ" المهشّمة والضّعيفة بقيادة "فلاديمير بوتين" وأزيلت من المدن الكبرى كلّ المعالم الشّيوعيّة العظيمة كتمثال "لينين"، حتّى المدينة الّتي سمّيت باسْمه بعد انتصار الثّورة "لينينغراد" أعادوها إلى اسْمها في الفترة القيصريّة "سان بطرسبورغ"، إنّ إنزال تماثيل "لينين" وإزالة معالم تخليده الأخرى من ميادين المدن السّوفييتيّة الكبرى أو إزالة المعالم المختلفة الّتي تعكس عظمة الإنجازات الاشتراكيّة لهي الدّليل السّاطع للغرق في بحر من الظّلام والرّأسماليّة العفنة والسّوق الحرّ والدّيمقراطيّة البرجوازيّة الزّائفة. ومع ذلك ظلّ بعض عاملي "البرافدا" المخلصين لها ولدورها ولحزبها يصدرونها تحت نفس العنوان حتّى أيّامنا كجريدة شعبيّة. هذه الجريدة الّتي أدّت الدّور التّحريضيّ العظيم على الثّورة، اضطرّ "لينين" لتغيير اسمها عدّة مرّات كي تتهرّب من ملاحقة السّلطة، وقد اعتقل محرّروها وكثيرًا ما دفعوا الغرامات الماليّة جرّاء إصرارهم على صدورها لأهمّيّة دورها التّثقيفيّ والثّوريّ والّتي مهّدت لبدايات الثّورة ومسيرتها الكفاحيّة وشهدت انتصارها التّاريخيّ بقيادة القائد الماركسيّ الفذّ "لينين". علاقة لينين بالأدباء بعد

الثّورة:

كان لينين على علاقة جيّدة مع الشّعراء والأدباء، وأهمّ هذه العلاقات وأبرزها كانت مع صديقه الحميم "مكسيم غوركي" (1868 – 1936) صاحب رواية "الأمّ"، يصف "غوركي" صديقه قائلًا: "إنّ دهشتي كبيرة.. كيف إنّ هذا الرّجل الّذي شاهد وعاش الكثير من المصائب والمآسي كان يستطيع أن يضحك بقدر كبير من السّذاجة والطّيبة" وقد نعته بالزّعيم الضّاحك. ثمّ يضيف: "كيف إنّه بعد أن يستغرق بالضّحك يمسح عينيه من الدّموع ويقول: "إنّ الإنسان الشّريف ذا القلب النقيّ والطّاهر وحده يستطيع أن يضحك بهذه الصورة". وكان يردّ "لينين" على تعليقات صديقه: "إنّه لشيء حسن أن يرى المرء الجانب المسلّي من إخفاقاته.. إنّ خفّة الرّوح هي صفة صحّيّة رائعة، وأنا حسّاس لهذه الصّفة رغم أنّي غير موهوب بها ولا ريب إنّ في الحياة منها بقدر ما في هذه الحياة من أحزان ومآسٍ" وقال "غوركي": "إنّ مزاج المرء هو شيء هامّ كما كان "لينين" بارعًا في الإصغاء والتّعليق بالنّكتة المرحة". وكانت أكبر هوايات "لينين" زيارة المكتبات والمطالعة والكتابة. وقد كانت له علاقة جيّدة مع الأديب البريطانيّ "ه. ج. ويلز" (1866 – 1946) فقد زار "ويلز" سنة (1914) روسيا ورأى بنظرته الفاحصة أنّ النّظام القيصريّ فيها قمعيّ وفاسد. وقد تفهّم أهداف ثورة أكتوبر. وفي عام 1920 زار "ويلز" الاتّحاد السّوفييتيّ والتقى "لينين".

رغم أنّ علاقة "لينين" بالكاتب الكبير "مكسيم غوركي" كانت صورة تعكس بصدق علاقته بسائر الأدباء الرّوس، إلّا أنّ هذه العلاقة لم تكن في أحسن أحوالها دائمًا، بل اعتورتها الخلافات العاديّة الّتي تقع بين الأديب والسياسيّ، في ظروف عصيبة وحول أفكار مختلفة اختلف فيها الرّجلان. فقد كان "غوركي" أديبًا معارضًا للنّظام القيصريّ وكان "لينين" قائد حزب سياسيّ مقاوم، يسعى لإسقاط القيصريّة، من هذه المثابة توطّدت العلاقة بينهما حتّى انتصار الثّورة وبعدها، وعندما مات "لينين" وضع "غوركي" على ضريحه إكليلًا كتب عليه "وداعًا يا صديقي". برز أوّل خلاف بعد أن أصدر "غوركي" روايته "الاعتراف" الّتي عبّر من خلال أحداثها عن أنّ القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة أهمّ من القيم السياسيّة والاقتصاديّة لنجاح الثّورة، لكنّ "لينين" عارض ذلك بشدّة وعلانية. هذا قبل الثّورة، أمّا بعد انتصارها فقد انتقد "غوركي" بعض الخروقات مع البدايات الأولى للثّورة، في جريدته "الحياة الجديدة" ونعت "لينين" بالقيصر الّذي يقف ضدّ حرّيّة الفكر والتّعبير. ولكنّ "غوركي" أدرك فيما بعد بفترة وجيزة أنّ بالغ في ذلك التّشبيه والوصف، فاعتذر له بعد محاولة اغتياله، وعندما سافر "غوركي" للعلاج في أوروبا قال له "لينين" مازحًا "سنرحّلك"!

كان حبّ "لينين" للآداب والفنون جزءًا عضويًّا من تشكيل شخصيّته، ولقد آمن بدور الفنّ والادب وبخاصّة المسرح في تثقيف العمّال والفلّاحين وسائر البسطاء وتوعيتهم وتحريضهم ضدّ الظّلم الطّبقيّ والتّفاوت الاجتماعيّ، ومن أجل الكفاح والثّورة لتحقيق آمالهم بالحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، ومن هذا المنطلق احترم الأدباء والفنّانين الّذين يقومون في هذا التّثقيف والتّوعية في أعمالهم، ولكن ليس إلى حدّ قمع حرّيّة الأديب والفنّان وجعله بوقًا للحزب والدّولة الاشتراكيّة، وهو ما حدث عندما تسلّم الحكم "ستالين"، تحت شعار "الثّقافة البروليتاريّة"، الّتي من جرّائها منعت الكثير من الأعمال وصودرت ولم يسمح بنشرها، لأنّ الأدباء كانوا مطالبين بالكتابة وفقًا لرؤية الكلّ/ الحزب وبدون اكتراث لتجاربه الشّخصيّة وأفكاره وعواطفه، لأنّه جنديّ عند الحزب والدّولة وعليه أن يكتب أدبًا جماعيًّا مجنّدًا لأهدافهما. وللزّعيم الاشتراكيّ ومطوّر الماركسيّة تنسب المقولة العظيمة "أعطني مسرحًا أعطِك ثورة" ولعلّ ما يدلّل على عظمة هذه المقولة وأثرها أنّها تنسب أيضًا وبصياغات شبيهة إلى "أفلاطون" الفيلسوف اليونانيّ القديم (497 ق.م – 347 ق.م) وإلى "وليم شكسبير" أشهر مسرحيّي العالم (1564 – 1616) وإلى المفكّر الفرنسيّ "فولتير" (1694 – 1778) وإلى الكاتب المسرحيّ الألمانيّ الشّيوعيّ "برتولد بريخت" (1898 – 1956).

كما كان "لينين" يدعو إلى الاهتمام والاقتباس من كلّ ما هو مفيد من أساليب الثّقافة الأوروبيّة، وقد حثّ وزير الثّقافة في حكومته على الاهتمام بمكتبات المطالعة، وكان يعتبر الكُتّاب قوّة جبّارة، وكان شديد الإعجاب بالأدباء والفنّانين الكلاسيكيّين وبكلّ عمل فنّيّ رائع، وكان يجتمع إليهم ويقرأ قصصهم وأشعارهم ومقالاتهم، وقد أقام علاقة صداقة حميمة معهم، وكان كذلك شديد الاهتمام بالعلم والعلماء واختراعاتهم والحرص على رعايتهم ومساعدتهم. (يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية