الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قليل من هارمون السعادة يكفي ..

بديع الآلوسي

2021 / 3 / 27
الادب والفن


تعد مارغريت واحدة من المهوسات بالكتابة ، مع ذلك حاولت الانتحار ثلاث مرات لكنها لم توفق ، كل ذلك اثار اسئلة مزعجة في ذهن جدتها ، التي كانت تظن ان حالة الغثيان وما كان ينتاب حفيدتها له علاقة بهيمنة عفاريت شريرة تفترس قلبها أو بسبب حساسية مارغريت المفرطة المقرونة بالكآبة ، التي تعزز في ذهنها فكرة تدمير الروح الخاضعة للضياع والفوضى الداخلية .
ربما لهذا كانت كلما الم َ بها الوجع و تشتت انفعالاتها بين الحب والكراهية ، تهرع الى جدتها ، التي هي الاخرى تعيش مع مخلوقات شفافة منذ ان توفى زوجها .
وقد المحت مارغريت لهذه العلاقة المميزة في روايتها ( سيدة بلون الحلم ) ، وجاءت زيارتها اليوم ، والتي رُتب لها منذ اسبوعين ، حيث قررتا تقاسم صور وذكريات وافكار لا تخص سواهما .
فمارغريت ذات الاربعين سنة ، مثل الكثير من الشابات تحيا بلا هدف وتمارس عادات غريبة منها تعاطي الحشيشة كتعويض عن الخسارة أو كصرخة احتجاج ضد مواجع الحياة النفسية .
اليوم وبعد السادسة مساءا ً بقليل ، ذهبت الى بيت جدتها أوغيت ، محملة بالفرح ، وما ان دخلت الى الصالة ، حتى تفاجأت بوجهها المبتسم وهي تحتسي القهوة بنشوة وحبور ، نظرة عيناها الواسعتين ذكرت حفيدتها بعجائز الاساطير اللواتي يمزجن الاحلام بالأسرار .
اول ما لفت انتباه مارغريت فستان جدتها الجديد ، المزين بالورود والطيور والمرسوم بالألوان الدافئة . اما الصالة فكانت معطرة برائحة الزهورات المنعشة ، وقد توزعت الشموع الصغيرة في زوايا المكان وقرب الشباك وعلى الطاولة المستديرة .
في ذلك المساء الربيعي ، شرعت الجدة بذلك السؤال البريء : لماذا لم تصطحبي معك صديقك الوسيم ذا العينين الزائغتين ؟
ارادت مارغريت ان تعبر عن رأيها بعدم رغبتها بوجود مخلوق آخر، كي لا يربك هذه الامسية بأفكاره البرجوازية والحديث عن موضوعات الكبت الجنسي المزعجة ، ولكنها طوت تفاصيل تلك الامور الصغيرة . واكتفت بقولها
ـ لأنه سيفسد ...
بدأت الجدة حديثها دون ان تتخيل ان هذه الأمسية ستكرس عن هموم الأدب وفضاءاته الساحرة . وما ان رفعت نظرها لحفيدتها التي كانت تخلع معطفها المطري ، حتى فاجأتها بتلك العبارة المقتضبة دون مقدمات :
ـ لديك أفكار ممتعة .
فردت مارغريت دون ابطاء :
ــ أحاول ان ارتب أفكاري ، لكني في بعض الأحيان أعجز بالعثور على الشكل الأمثل .
اوغيت : يا غاليتي ، اجد نظرتك السوداوية واضحة فيما تكتبين ، حتى ان اغلب ابطال قصصك يلاقون حتفهم على نحو مأساوي وحزين .
مارغريت : البطل يا جدتي ليس إلاها ً ، في لحظة من الزمن نموت .
اوغيت : مضى كل شيء .. فهل تذكرين كيف مات جدك ِ ؟
مارغريت : غادرنا كبطل ، مات وهو يحاول انقاذ شابة من الغرق ، حيث لفظ انفاسه مباشرة بعد ان اوصلها الى الشاطئ .
اوغيت : كان موته صدمة كبيرة بالنسبة لي ، كان بصحة جيدة ، يكره الاطباء والادوية ، لكنه منذ ان تزوجنا كان يردد ان الحياة رحلة مذهلة .
صمتت قليلا ً ومن ثم أردفت ، بعد ان اطفأت الحفيدة الشمعة التي امامها
اوغيت : اني في حيرة من امري ، هل لك يا عزيزتي ان تخبريني لماذا تشغلك الكتابة فقط ؟
مارغريت :( وهي تبتسم ) يا جدتي ان الآلهة لم تترك لي خيار آخر ، لكني في السنوات الاخيرة بدأت اجد في الكتابة والقراءة ما هو مثير وممتع .

اوغيت : الا تعتقدين يا حفيدتي المبدعة ، من ان القراء يبحثون عن أدب للتسلية ، وهذا ما لم اجده في كتاباتك .
مارغريت : انا لست مهرجة سيرك ، بل كاتبة أجد عزائي فيما أكتب .
اوغيت  : ارجو ان لا اكون قد جرحتك .( صمتت ثم اردفت ): ولكني اشعر ان كتاباتك محشوة بأفكار غريبة تحتاج لمزاج رائق ومكان منعزل لقراءتها ، دون ذلك سينتاب القارئ الملل او عدم الرغبة بمواصلة القراءة .
مارغريت : احترم رايك وإن كنت لا اتفق معك ، صحيح ان كتاباتي تُعبر عن تجربتي الذاتية ، لكني اعتقد انها تلامس هموم الكثير من الناس .
اوغيت : جميل ما تقوليه ، ولكن هل تتوقعين ان قصصك ستسهم بتغيير وجه العالم ؟
مارغريت : وماذا تعنين بالتغيير يا جدتي ؟
اوغيت : لا اعرف على وجه التحديد ، .. اني إنسانة بسيطة التفكير ، لكن بودي ان اقول لك بصراحة … ( وصمتت ، كأنها نسيت ما تريد قوله )
مارغريت : ماذا تودين قوله بالضبط ؟
اوغيت : كنت اود ان اقول : لو وهبتك الحياة خيارات اخرى ، ولطالما سألت نفسي ، لماذا لم تصبح ِ محامية او تاجرة او معلمة او ..
مارغريت : آه يا جدتي لو تعلمين كم هي لذيذة عملية البناء السردي ، ان نستيقظ في الساعة السادسة صباحا ً ، وبصفاء ذهني نواصل عملية الخلق وتحويل التراب الى ذهب ، اليس ذلك ما يدعو الى الدهشة والمسرات .
اوغيت : ما اود ان تعرفيه ، اني بهذا العمر اصبحت كثيرة النسيان ، الكتب تثير قرفي ، والتطفل على حيوات الآخرين يعكر مزاجي ، بكلمة مختصرة : انا بلا موهبة .
مارغريت : لماذا تقولين اني بلا موهبه ، وانت الى اليوم بارعة في حياكة الصوف ، اجل ، ففي طفولتي كنت اراقب يداك وهي تصنع الجمال ، وانا على يقين اليوم ، أن وراء ذلك ثمة خيال يجعلك تمزجين ما هو روتيني مع ما هو روحي .
اوغيت : وانا على بساطة فهمي اعترف أن لك مخيلة بارعة ، وإلا من أين تأتين بهذه الصور الدافقة والدافئة ؟ وكيف تتمكنين من بث الحياة في شخصياتك على الورق ، مما يجعلهم يثيرون دهشتنا .!!
ما رغريت : يا جدتي ، حين اباشر بعملية الكتابة اشعر اني في فضاء غريب ، احاول ان انفصل عن العالم ، وفي ذروة الصراع بين الخير والشر ، اجد نفسي في حالة هيجان عاطفي ، امزج القليل من دمي مع القليل من دموعي ، حينها ارى العالم على حقيقته لكن على نجو جمالي .
اوغيت : اشعر انك قريبة مني وفي نفس الوقت غريبة عني ، خاصة حين تتحدثين عن الأدب وتشعباته ، اني اتخيلك دائما ً تلك الصغيرة المشاكسة التي تقفز وتلهو في حقل البرسيم ..
مارغريت : انت وجدي كنتما نافذتي على هذا العالم .. فجدي الذي كان يصحبني معه لصيد الثعالب ، ومعك عرفت البحيرة والقارب الشراعي الذي كنا نذهب به بعيدا ، كل ذلك صار لي مثل موسيقى سماوية .
اوغيت : حدثيني بصراحةٍ ، هل تدر عليك الكتابة مالا ً وافرا ً ، وكم جنيتي ربحا ً من روايتك الأخيرة ( ارملة الخريف ) ، التي غمرني اسلوبها الشيق ، بالسعادة والدهشة .
مارغريت : انا لست تاجرة اسلحة ، لكني اشعر ان محاولاتي في الكتابة توقظ في روحي هارمون السعادة .. ( صمتت واخذت نفسا ً عميقا ً ومن ثم واصلت كلامها ) ، الى حد هذه اللحظة كل طموحي هو ان أكتب على نحو جميل وجيد ، أما عن الربح ….( صمتت )
اوغيت : ولكنك تبذلين مجهودا ً ، ولكل شيء ثمن ، وانك تهدرين أثمن ما تملكين ألا وهو الزمن ..
مارغريت : ان الكتابة مثل الصلاة يا جدتي ، نصلِ على امل النجاة .. ( تبتسم ثم تكمل )، الابداع كالطقوس الصوفية ابحار الى الداخل ، يجعلنا نعيد اكتشاف انفسنا ويسهل حوارنا مع العالم .
اوغيت : (تصغي ، وبعد فجوة صمت تسعفها الذاكرة لتقول ) لي اصدقاء من مختلف الأعمار ، جميعهم يعرفون تحويل الوقت الى دولارات وذهب ، إلا أنت ( تصمت وتكمل مبتسمة ) تعيشين متطفلة مثل مجنونة ليس لها من هدف سوى العزلة والحلم . اسمعي ، متى ما دفعن الناس لك اجرا ً وامتلأت جيوبك بالدراهم الذهبية ، عندئذ فقط سنتمكن من القول انك نجحت في تحويل الهواية الى حرفة ..
مارغريت : يا جدتي الطيبة ، هل تذكرين قصتي القصيرة ( الثعلب والقديس ) التي اتخذت من جدي بطلا ً لها ، ( تصمت ومن ثم تكمل ) . شعرت اني قد وفقت في بث الحياة بجدي الذي يتهمه الجميع بالجنون ويلقبونه بصياد الثعالب .
اوغيت : نعم ، كان مجنونا ً بصيد الثعالب وبالغناء ، وقمة سعادته حين يعزف على الكمان ، ويتضاعف فرحه حين يرى الأطفال يرقصون من حوله ..
مارغريت : كان لا يبحث عن الشهرة .. بل عن السعادة .
اوغيت : وأنت ، هل تتوقعين من أنك ستكونين مشهورة ذات يوم ؟
مارغريت : الشهرة مجد زائف ، تضر بالصحة والحياة الشخصية يا جدتي .
اوغيت : ( بدت انها منفعلة وهي ترمي بكلماتها ) لا تكتبين من أجل المال ، ولا تكتبين من أجل الشهرة ، لماذا تكتبين أذن ؟ .
مارغريت : تعرفين جيدا ً لماذا اكتب ، اني لست غبيه ، أتأمل الاشياء من حولي ، اكتشف في احيان كثيرة ، ان الكثير من البالغين خاضوا تنوعا هائلا من التجارب المؤلمة ،( تصمت بعدها تواصل الحديث ) من دون ان يسألوا عن الهدف او النتيجة . اشعر انهم لا يقدرون جسامة الرحلة إلا عندما يرون ذلك مجسدا على الورق .
اوغيت : لا افهم ... ماذا تعنين بكل ذلك ؟
مارغريت : يا جدتي، الناس العاديين لا يتخيلون ان جنون الحب يمكن ان تحققه همسة عابرة ، ولا يتصورون ان يحدث الاندهاش لسحر القمر لذاته ، ولا يعتقدون أن مغامرا ً يمكن ان يحول الكلمات الى شرارة تلهب قلوب قراءه .
اوغيت : أهذا يعني اننا لم نفهم ما ....؟
مارغريت : ابداً ، لم اقل ذلك ، لكني اتساءل : متى يتاح للجميع ان يفهموا ان هارمون السعادة هو املنا الوحيد لتحويل البشر العادين الى ملائكة ، او على الاقل ان يطهروا قلوبهم من هذا الزيف الذي يجعلهم مشدودين للحضيض ؟ .
اوغيت : انت تحلمين بالمستحيل يا غاليتي ، وطموحك اكبر مما ينبغي .
مارغريت : اني احاول ان اكون صادقة ..... ؟
اوغيت : بالتأكيد ، لأنك بصدقك المفرط تحاولين كشف زيفهم ...
مارغريت : لم افكر بهذا على الاطلاق .!ّ!
اوغيت : لهذا انا اخاف عليك ..
مارغريت : من ماذا !؟
اوغيت : اخاف .....ان يتهموك بالجنون كما اتهموا جدك .. مع هذا اتمنى أن يمنحك حلمك طاقة إيجابية تعينك على مواصلة الرحلة .. ( تصمت قليلا لتعاود من بعد ذلك الحديث ) : لقد نسيت ان اخبرك بالشيء الاكثر اهمية ..
مارغريت : ما هو ؟
اوغيت : ( اغمضت عيناها وهي تردد ) اذا مت فأرجو ان تحرقي جثتي وتذري رمادي في البحيرة ، ( تصمت وتبتسم وبصوت نحيل تقول اخر جملة لها ) هنالك الكثير من الناس يعيشون كل تفاصيل وتضاريس الموت وهم ما زالوا على قيد الحياة ..
بعد عشر دقائق ، انسحبت بهدوء الى غرفة نومها ، وبثوب السهرة الملون خلدت لنومٍ اشبه بالموت ..

اما مارغريت ، فقد استيقظت هواجس المحبة في ذهنها ، ارادت ان تغني فلم تفلح ، وفي الحقيقة انها لم تتذكر الاغنية التي كانت ترددها مع جدها ، فأعادها الصمت والارق الى كينونتها الاولى ، نهضت وتحركت نحو مكتب جدتها ، كانت عيناها مفعمتين بالفرح والرغبة الحذرتين، فكرت ملياً قبل ان تسحب الكرسي وتجلس عليه ، بدى الارتياح على ملامح وجهها ، استلت قلما ً وعدد من الاوراق ، وانحت تكتب مدفوعة بضرورة ان تفرغ ما اختلج في صدرها من احساسات ، وما ان انتهت من كتابة مسودة ذلك النص الذي انجزته ، حتى قالت في خلدها والنشوة تغمرها : ستفرح جدتي حين تطلع عليه غدا . ومن يدري ربما ستقول لي : انك تسلين نفسك وتنتصرين على الموت بمتعة الاكتشافات العظيمة .
نهضت من مكانها ، فرحة ً بما انجزت ، وحال ان انتهت من ارتشاف قدح البابونج ، وقفت عند النافذة متأملة ً بصيص الضوء في الافاق البعيدة . في تلك اللحظات العابقة بأنسام الصباح ، قررت بلا سابق انذار العودة الى منزلها ، كانت الشوارع مقفرة ومغسولة بالمطر ، وكذلك السماء ليس فيها من نجم لامع سوى نجم فينوس ، اما هي وعلى الرغم مما كان يعتريها من شعور بالوحدة ، فقد كانت مزهوة ً بفرح شفيف حال تذكرها تلك الاغنية القديمة التي لطالما رددتها وهي صبية وصارت تدندن  : قليل من هارمون السعادة يكفي ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا