الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية يس أحمد أبو سليم

رائد الحواري

2021 / 4 / 1
الادب والفن


الأدب مرآة الشعوب، والأدباء هم روح الأمة، يواصلون بث الحياة فيها، فلا يكلِّون ولا ييأسون، رغم ما يتعرضون له من أذيَّة وعمليات ترغيب وترهيب.

اخترت رواية "يس" من مجموعة روايات من إبداع الروائي أحمد أبو سليم.

بداية الرواية جاءت على شكل سيرة: "ولد ت قبل المجزرة بثمانية أَيَّام، في الأَوَّل من نيسان، عام 1948، لذا ربَّما كانت حياتي مجرَّد كذبة متواصلة لا تتوقَّ، كذبة نيسان .

يوماً ما، ثمَّة من سيعيد كتابة التَّاريخ بحروف أخرى، سيكتب أَنَّهم لو أَعطوا عبد القادر الحسينيَّ السِّلاح لما سقطت القسطل، ولو لم تسقط القسطل ما سقطت دير ياسين، ولو لم تسقط دير ياسين، لما سقطت فلسطين بذلك الشَّكل المذلِّ المهين . " ص1، وهذا مثير ومريب، فعالم الرواية غير السِّيرة، يدخلنا السَّارد إلى تفاصل المجزرة وما حدث فيها، حتى أنه يتناول تفاصيلها بدقة متناهية: " كانت الخطَّة تقضي بمحاصرة القرية تماماً من كلِّ الجهات، وابادتها بكلِّ من فيها، ببشرها، ودوابِّها، وطيورها، وحشراتها، وكلِّ ما يتنفَّس فيها، كانت جزءاً من عمليَّة "نحشون" الَّتي خطَّطت لها الهاغاناه، لذا انقسم المهاجمون إلى أَربع مجموعات:

الأولى بقيادة مردخاي بن غوزيهو تهاجم من الشَّمال، باتِّجاه تقاطع الطريق الواصلة بين دير ياسين، وغفعات شاؤول مع الطَّريق القادمة من الشَّمال باتِّجاه الجنوب، والَّتي تذهب باتِّجاه الحارة.

والثَّانية تهاجم مع مصفَّحة ثبّت إليها مكبِّر صوت، بقيادة منشه آيخلر من الشَّرق، من جفعات شاؤول أَيضاً، عبر الطَّريق الرئيسيِّ وتندفع نحو وسط القرية .

والثَّالثة بقيادة يهودا سيفل، تنطلق من بيت هكيرم، وتهبط في الوادي وتتسلَّق السَّفح من الجهة الشَّرقيَّة الجنوبيَّة، جهة المسجد، وتتَّجه نحو الحارة.

والرابعة بقيادة يهودا لبيدوت، تنطلق من بيت هكيرم أَيضاً، وتلتفُّ حول القرية،" ص6، هذه التَّفاصيل أقرب إلى سرد أحداث تاريخيَّة، وهي (مزعجة) للقارئ الذي يبحث عن متعة أدبيَّة بعيدًا عن السَّرد التَّاريخي، خاصَّة ذلك المتعلق بمجزرة بشريَّة، وإذا أضفنا المشاهد البشعة التي تناولها السَّارد، والتي سنأتي عليها لاحقا، يمكنا القول أنَّ الباب الأوَّل من الفصل الأوَّل من الرواية كان في غاية القسوة، حتى إنَّ القارئ يشعر وكأنَّه حاضر أثناء المجزرة، لهذا يصاب بحالة توتر وغضب .

أعتقد أنَّ من يتجاوز الباب الأوَّل من الفصل الأوَّل في الرِّواية، يكون كالمرأة الحبلى التي تخلَّصت من مخاضها، وسيشعر بالراحة بعده، فكل الآلام والقسوة اللَّاحقة لا تقاس بما جاء في الفاتحة، وهذا الأمر يحسب للسَّارد، الذي أوصل القارئ إلى ذروة القهر/الغضب/الألم ثم بدأ يقدِّم مهدِّئات/مخفِّفات تحدّ من ذلك الألم .

المجزرة

إذن استطاع السَّارد إدخال القارئ إلى أجواء المجزرة وجعله يعيشها كما عاشتها الضحايا: "كان آذان الفجر يومذاك آخر آذان يعلو في سماء القرية، ولم يجد أحد وقتا للصلاة " ص5، وهذا الأمر يتطابق مع واقع المجزرة التي حدثت في الفجر، فتحديد الوقت أراد به تأكيد حقيقة ما جرى، وحتى يشعر القارئ بأنَّه أمام حدث وقع فعلًا، وليس مجرَّد نصّ روائي/خيالي .

" أَخرجوا آل زيدان من بيوتهم، وجعلوهم يصطفَّون أَمام الجدار، وقتلوهم جميعاً

راحوا يلقون بالقنابل عبر النَّوافذ، والطَّاقات، وحيناً يهاجمون الأَبواب، يحطِّمونها، ثمَّ

يلقون بالقنابل إلى الدَّاخل، فتحوِّل كلَّ من في البيوت إلى أَشلاء: نساء، ورجال،

وأَطفال .

الحاج جابر، أَلقوا به من أَعلى المنزل، حملوه مع فراشه وأَلقوا به إلى الأَسفل، فوق

سقف البئر، فسقط جثَّة هامدة، ورفعوا فوق بيته علم "النَّصر ". " ص8، يبدو هذا المشهد وكأن هناك حفر في رأس القارئ، مشهد مؤلم وقاسي، وليت الأمر توقَّف عند هذا المشهد، يدخلنا السَّارد إلى توحُّش البشر: " وفؤاد ابن مغربيَّة، العريس الجديد، الَّذي لم يكن قد مرَّ شهران على زواجه ذبحوه على ركبة أمِّه، وعمُّه محمود معزوزة، الضَّرير، ذبحوه أَمام عينيها أَيضاً، فخرجت تولول وتصرخ إلى الحارة، وثيابها ملطَّخة بالدِّماء، كانت قد جنَّت.

وزينب ابنة محمَّد زهران، وزينب زوجة حفيده، كلتاهما كانت حاملا في شهرها الثَّامن،

شقُّوا بطنيهما وهم يتراهنون على جنس المولود، وحين حاولت امرَأة أَن تنقذ ما في

بطنيهما، أَردوها قتيلة بالرَّصاص.

وزينب عطيَّة، أَلقوا بقنبلة داخل بيتها، فأصيبت هي وأَولادها، وبناتها، ثمَّ كسروا

عليهم الباب، وأَخرجوهم، سحبوا شقيقها موسى الصَّغير، وراحوا يضربونه بلا رحمة،

راحت تتوسَّل إلى من ظنَّت أَنَّه المسؤول فيهم كي لا يقتله، أَخرجت كلَّ ما تملك،

مئتين وخمسين جنيهاً من صدرها، سلَّمتها له وهي تبكي، وتصرخ، وتتوسَّل، طبطب

على ظهرها بعد أَن وضع النُّقود في جيبه، دفع شقيقها فسقط ساجداً على الأَرض،

وضع فوَّهة المسدَّس في رأسه، وقتله، أَطلق على رأسه خمس رصاصات، فتناثر ما

في رأسه فوق وجهها ....وثيابها.

” أراد السَّارد، إجراء عمليَّة في الذَّاكرة الفلسطينيَّة والعربيَّة، ليؤكِّد على الأسس التي قامت عليها دولة الاحتلال “

... مريم ابنتها الَّتي كان عمرها أَربع سنوات، والَّتي كانت قد أَصابتها القنبلة التي أَلقوها داخل المنزل في قدمها، تحاملت على جراحها، وفرَّت هاربة إلى منزل جدِّها، هرعت إلى زوجة جدِّها سارة الممدَّدة أَمام الباب وهي تصعد الدَّرج وتصرخ: خبِّئيني يا جدَّتي، خبِّئيني، وحين وصلتها وجدتها جثَّة هامدة، غارقة بدمها. " ص9، أجزم أنَّ هذه التَّفاصيل في غاية القسوة، ولا يمكن حتى تحمُّل قراءتها، فكيف تحمَّلت الضَّحايا ما جرى لها.

لهذا نقول: إذا ما تجاوز القارئ الباب الأوَّل من الفصل الأوَّل للرِّواية، يمكنه أن يتعرف على جماليَّة الرِّواية، والهدف من وراء هذه الفاتحة القاتمة.

فالسَّارد أراد إجراء عمليَّة في الذَّاكرة الفلسطينيَّة والعربيَّة، ليؤكِّد على الأسس التي قامت عليها دولة الاحتلال، وكأنَّه بها، يردُّ على كل المطبِّعين والمنزلقين نحو دولة الاحتلال، وأنَّ تلك الضحايا لا يمكننا أن ننساها/نمحوها من الذَّاكرة، ولا يمكننا أن نسامح الجزَّار.

أثر المجزرة على السَّارد، "ياسين"

بطل الرواية "ياسين" يحدِّثنا عن المجزرة رغم أنَّه كان في بطن أمِّه وقتها، فكيف علم بها؟، وكيف أثَّرت عليه كل هذا الأثر؟، الإجابة: "كنت طفلًا فقط، ولم تكن لي ذاكرة آنذاك، ربما خزَّنت عيناي في مكان ما، في أعماقها ما يمكن اجتراره فيما بعد، لماذا كلَّما استرسلت أمي في الحديث عن المجزرة شعرت بأنَّني عشتها لحظة، وبدا لي الأمر ذكريات لا خيالات؟" ص2، إذن الأمّ هي التي وضعت جيناتها/ألمها في ابنها "ياسين"، وهذا يأخذنا إلى سؤال: "هل أراد السَّارد توريثنا ألمه كما ورث هو ألم أمه؟، ويجعلنا نلعن تلك المجزرة وما سببته لنا من ألم؟: "اللَّعنة على دير ياسين التي لم تترك لي لو جدارًا واحدًا خلفي، أيّ أحد، أيّ شيء أستند إليه فيسندني.

أنا ابن المجزرة، اللَّعنة التي تطاردني منذ ولادتي، ولا تتركني أعيش أبدا" ص108، أم أنَّه أراد أن يوصل لنا حجم الألم الذي وقع لتلك الضحايا، الذين أصبحوا مرضى المجزرة ويعانون نفسيًا واجتماعيًا، لكي نبتعد/نحاكم/نحارب/نعادي المجرمين؟

أعتقد أنَّ مسار الرِّواية يأخذنا إلى الحالتين، توريث الألم، ومعاداة العدو ومحاربته.

شخصيات الرواية الخال "ياسين"

"ياسين" خال الرَّاوي "ياسين" شخص مقدام عمل المستحيل ليتزوَّج من "ياسمين"، فقد أقدم على قتل "وليم جاك" الضَّابط الإنجليزي الذي قتل والدها، فقد وضعت شرطًا لقبولها الزَّواج منه، قتل قاتل والدها: "أن يكون مهري حياة وليم جاك، الضَّابط الإنجليزي، ولا أريد مهرًا سواه" ص27، فالخال "ياسين" تعلَّم التَّقدُّم في المسالك الشَّائكة ليحصل مع مراده، وها هو مرَّة ثانية، يعمل المستحيل لينقذ زوجته "ياسمين" وطفله "عبد القادر" من المجزرة، فرغم إصابته في المعركة، إلا أنَّه يصرُّ على التَّسلُّل إلى "دير ياسين" لينقذهما: "قالوا له إنَّ دخوله إلى القرية مجرَّد انتحار لا غير، وإنَّه جريح، ليس بوسعه فعل أيّ شيء أمام جيش من اليهود مدجَّجين بالسِّلاح، لكنَّه ظلَّ مصمِّمًا على رأيه.

انتظر حلول الظَّلام، وتحامل على نفسه، تسلَّل إلى القرية صاعدًا الجبل من جهة الغرب، متستّرًا بالأشجار، عبر طريق وعرة بالكاد يستطيع رجل معافى عبورها، كان يتخيَّل ياسمين وهي تنادي عليه، تلوذ به، تحتمي باسمه، فيشعر بالنَّار تندفع في صدره، كيف يمكن أن يتركها مع طفله في أيديهم، كيف يمكن ألا ينقذها منهم" ص37، هذا المشهد يرفع عزيمتنا ويشدُّ من أزرنا ويقدمنا من الفعل/العمل، وبما أنَّ العقل العربي يعشق البطل المقدام، الذي يخوض الصِّعاب في سبيل هدفه، فإنَّ "ياسين" يلبِّي رغبتنا ـ وهذا يجعلنا نفرح/نسعد ـ وفي الوقت ذاته يعطينا مثلًا على صفات الرجال.

يصل الخال "ياسين" القرية، وهناك يتمُّ أسره من قبل الصهاينة، الذين يستجوبونه عن سبب دخوله القرية، فيردُّ عليهم باللُّغة العبريَّة التي تعلَّمها قبل مقتل "وليم جاك": "جئت وحدي أبحث عن زوجتي وابني" ص39، وهنا يقع كلامه كالصَّاعقة على "حنا نوسين" تلك المرأة التي تعمل صحفيَّة، فهي ترى في قدوم "ياسين" أمرًا خارقًا: "بدا الأمر رومنسيًا بالنِّسبة لها، وسط تلك الجثث التي كانت متناثرة على طول الطَّريق الرَّئيسي للقرية، وبين البيوت، ووسط كل ذلك الموت.

هل يمكن أن تفعل مثله وتأتي لتنقذني من الموت لو كنت مكانه؟" ص 40، سؤال وجهته إلى عشيقها "بشراغا" الذي يعمل في جهاز أمن الهاغاناه.

يسمح له بدفن "ياسمين: "سأسمح لك بدفنها في فناء البيت، أترى كم أنا إنسانيّ معك...حملها على ذراعه والدَّم يقطر من رأسها، دمها امتدَّ من السَّاحة حتى باب البيت المقابل للمسجد... حفر لها قبرًا يليق بها، قبرًا واسعًا يتَّسع لعشرين قتيلًا وأكثرـ دفنها فيه، صلَّى عليها ودفنها فيه" ص131، لكن بعد الدفن يعود المحتلُّ إلى جرائمه: " أعادوه إلى الشَّجرة، أعادوا ربطه إليها، وقطعوا لسانه ورموه للكلاب" ص131، لكنَّهم لم يقتلوه، بعدها: "أطلقت وحدة الغدناع سراحه ذهب إلى القبر وظلَّ جالسًا هناك. ضربوه كثيرًا، هدَّدوه بالموت، لكنَّه كان في كلِّ مرَّة يعود ليجلس أمام القبر غير آبه بتهديداتهم" ص132، تعلُّق "ياسين" ب "ياسمين" يأخذنا إلى حبِّ الفلسطيني الذي تفوَّق على كلِّ الحبّ في القصص والحكايات، فهو هنا يبدو حبًّا حقيقيًّا، ألم تبدأ الرِّواية بأحداث حقيقيَّة؟، بهذا الشَّكل استطاع السَّارد أن يقدِّم مشهدًا إنسانيًّا ـ يمتِّع القارئ ـ ضمن أحداث دامية، فرغم الألم، إلا أنَّ إصرار "ياسين" للبقاء إلى جانب قبرها أزال السَّواد ومحى الألم، وجعل القارئ يستمتع بهذا المشهد.

” نساء القدس كنَّ مندفعات ما كان يثير حماس الرجال أكثر، ويجعلهم أكثر استعدادًا للمقاومة حتى الموت" “

ياسمين

المرأة الفلسطينيَّة لعبت دورًا حيويًا في مقاومة الإنجليز والصهاينة، "ياسمين" التي قتل أبوها أمام ناظريها، وفي بيتها من قبل الضَّابط الإنجليزي الذي دخل بيتهم بحثًا عن المناضل "بهجت أبو غربية"، تشارك المتظاهرين وتحتجُّ معهم على السِّياسة الإنجليزية تجاه فلسطين، "التقيا مرَّة في القدس، كانا قد شاركا في مظاهرة انطلقت من باب العمود نحو سجن القشلة، ..نساء القدس كنَّ مندفعات ما كان يثير حماس الرجال أكثر، ويجعلهم أكثر استعدادًا للمقاومة حتى الموت" ص23، أثنا المظاهرة تتعرض "ياسمين" كباقي المتظاهرين للضرب، يعمل "ياسين" على حمايتها: "... جعل خالي يندفع فجأة ليحميها من ضربة هراوة كادت أن تنزل على رأسها، فنزلت على رأسه. يومذاك التقت أعينهما أوَّل مرَّة وهو يسقط على الأرض، وتدوسه أقدام رجال البوليس" ص23، إذن لم تكن المرأة الفلسطينيَّة على الهامش، بل فاعلة كالرَّجل، يتقدَّم العديد من الرِّجال لخطبتها، لكنها كانت تضع شرطها، "قتل "وليم جاك" لم يقبل/لم يقدر أحد ممَّن تقدموا لخطبتها على تلبية شرطها، إلا أن جاء الخال "ياسين"، وقتل "جاك".

وصفت "ياسمين" "أجمل امرأة في فلسطين" بأكثر من موضع في الرِّواية، وكأنَّ السَّارد من خلال تكرار هذا الأمر أراد تأكيد وحشيَّة الصَّهاينة الذين قاموا باغتصابها بطريقة حيوانيَّة: "أربعون جنديا فازوا بها ذلك اليوم منذ العصر حتى منتصف الليل، ومجنَّد تانفازتا بخالي، لكنَّهما خرجتا تشكوان من أنَّه غير صالح لاستخدام النساء" ص1425، بعد الاغتصاب يتم قتلها وطفلها معها.

"حنا نوسين"

الصحفيَّة التي شهدت المجزرة، وأعجبت ب"ياسين" الفلسطيني الذي خاض الموت ليصل إلى زوجته، مما جعلها تدفع ثمن هذا الإعجاب بأن تم وضعها في مستشفى المجانين الذي أقامه الاحتلال في "دير ياسين"، تبدأ المراسلات بينهما، فتعترف بهذه الحقيقة: "لم أكن أفهم بعد كيف يمكن لرجل أن يقتحم الموت من أجل حبيبته، شعرت في الحقيقة لحظتذاك بالغيرة، وأدركت تفاهة حب شراغا، وكنت أتمنى لو كانت أنا ياسمين، رغم ما كانت تعانيه لحظتذاك" ص123، فالحبُّ في زمن الصَّهاينة يكون جنون، لهذا عاقبوها بأن وضعوها في مشفى للأمراض العقلية، لكنَّها كانت عاقلة وتعلم أنَّ ما جرى في "دير ياسين" لا يمكن أن يُمحى: "هو حب ولد ميِّت، وبوسعي أن أفهم ذلك، أفهم أم دير ياسين هوّة هائلة تفصل بيني وبينك، أفهم أنَّني لا استطيع أن أشغل مكان ياسمين، لذلك يحقُّ لي أن أعلن أمامك أنِّي أغار منها" ص145، كلُّ هذا يشير إلى وجود رابط ما بين "ياسين ونوسين وياسمين" وهذا الأمر اعترفت به لشقيقتها "سيرنا" حينما: "أخبرتها حنا نوسين أنَّ روحها متعلقة برجل عربي هو من تبقى من المذبحة، قال لها ى تتوقَّف عن الحلم به، تراه كل ليلة تقريبًا في منامها، يقصُّ مضاجعها، ترى لسانه المقطوع الذي رموا به للكلاب فأكلته، ورجتها أن تبحث لها عنه، وأن تجده، وتنقل أخباره، فذلك الأمر قد يجعل روحها تهدأ لو قليلا" ص138، العلاقة الرُّوحية والوطيدة بين الشخصيات التي يتكون اسمها من حرفيّ السِّين والياء واضحة، فرغم اختلاف الدِّين والجنس وتباعد المكان والزَّمان، إلا أنَّ هناك ارتباط/توحُّد فيما بينها.

"سيرنا نوسين"

شقيقة "حنا" وقد لعب دور الوسيط بين "ياسين ونوسين" وهما يتبادلان الرَّسائل: "كانوا يرسلون الرَّسائل إلى لندن، إلى عنوان في لندن تقطن فيه سيرنا شقيقة حنا، وهي تعيد تغليف الرَّسائل وإرسالها إلى عمان، إلى كسَّارة خالي" ص133، بهذه الطَّريقة استمرَّت المراسلات بينهما، فقبول شقيقتها أن تقوم بدور الوسيط بينهما، يؤكِّد على أنَّأثر "ياسين" تجاوز "حنا" إلى "سيرنا"، فقبولها يشير إلى قوَّة الأثر الذي تركه "ياسين" الفلسطيني على المرأة الإنجليزية اليهودية، التي كان يمكنها أن تعيش برغد وهناء لو لم يكن هناك شخص مثل "ياسين".

"فتحية"

امرأة فقدت زوجها في عام 1948، ولم تعرف عنه شيئا، التجأت إلى البغاء كرد/كانتقام على غيابه: "ربَّما كان العهر الذي مارسته فتحيَّة من قبل مجرد انتقام منه، من غيابه" ص93، وبعد استشهاد ابنها "عمر" تأخذ في إرسال رسائل إلى كلِّ الدُّول التي يعرفها "ياسين" لتخبر زوجها باستشهاد "عمر" لكنَّ الرَّسائل كانت تعود إلى المرسل "ياسين" لعدم وجود له، فهو شخص غائب في مكان مجهول.

لكنَّها بعد أن تعلم أنَّه قتل من قبل الصَّهاينة، وأنَّه موجود في مقبرة الأرقام، تموت، فكان "موتها" تطهيرًا لما أقدمت عليه: فتحية ماتت، قال أنَّه أبلغها بالخبر.. فبكت وكأنَّها الآن فقط تفقده، كأنَّه يموت الآن من جديد بين يدها...الآن فقط أصبح عليك أن تشعري بثقل الخيانة، خيانتك له، ربَّما لو كان يعيش في فنزويلا لما كانت النتائج ستفضى إلى المكان ذاته، خيانة الشَّهيد هي أقسى الخيانات" ص114، موت "فتحيَّة" كان يمثِّل حالة تطهير لها ولما أقدمت عليه، فجسدها دفع الثمن/الموت، لكنَّ روحها حلَّقت إلى السَّماء نقيَّة بعد أن تخلَّصت من جسدِها الملوَّث، فلو كانت حقًا قذرة لما تأثَّرت بمعرفة مصير زوجها، لكن إنسانيَّتها وروحها الطَّاهرة آثرت التخلُّص من جسد قذر ملوَّث لتصعد إلى السَّماء وتقابل "زوجها "حامد عبد الجبار".

” المفارقة بين المرأة الفلسطينية التي تأثرت بالصُّورة الفوتوغرافيَّة، وبين المجنَّدات اللَّواتي شاركن في المجزرة، يشير إلى إنسانيَّة الفلسطينيَّة وتوحُّش الصُّهيونيَّة “

"نسرين"

فتاة ترى صورة المجزرة أثناء إحياء ذكرى النَّكبة، فيصيبها الغضب والعصبيَّة: "انقضَّت على الصُّورة وراحت تمزِّقها وهي تصرخ بي، وتشتمني، ثم حوَّلتها في أقلّ من دقيقة إلى مزق متناثر على الأرض" ص154و155، فحتى الصُّور استطاعت أن تخترق الزَّمن وتأثِّر على "نسرين" التي فقدت أعصابها واتِّزانها، وهذا يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى وحشيَّة من أقدم على المجزرة، فالمفارقة بين المرأة الفلسطينية التي تأثرت بالصُّورة الفوتوغرافيَّة، وبين المجنَّدات اللَّواتي شاركن في المجزرة، يشير إلى إنسانيَّة الفلسطينيَّة وتوحُّش الصُّهيونيَّة.

"ياسين"

السَّارد "ياسين" المولود في أوَّل نيسان ـ وبما أنَّه ابن دير ياسين، ويحمل اسم خاله ياسين، فقد بدا وكأنَّ (المختار)، الذي خصَّته الأحداث/الله/المكان بخصائص تجعله حاملًا/مكمِّلًا لنهج الخال، وحاملًالهموم المكان/دير ياسين ـ أن يوحِّد أحداث الرِّواية من خلال الأسماء: "ياسين الرَّاوي، خاله ياسين، حنا نوسين، سيرنا نوسين، نسرين، ياسمين، دير ياسين، سورة يس التي استحضرها في أكثر من موضع: "شيء ما، غريب، عاطفة لا أستطيع تفسيرها تربطني بسورة يس...وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون" ص101، فإذا أخذنا هذا الموقف من السُّورة وقارنَّاه بعقليَّة "ياسين" ذلك الرَّجل الذي اتُّهم بالشُّيوعيَّة، وكان يفكِّر بطريقة غير ديِّنة، يمكننا أن نؤكِّد على أنَّ هناك علاقة غير عاديَّة بين الأسماء/سورة يس، المكان/دير ياسين، فأسماء الشَّخصيات التي فيها حرف السِّين، جميعها تأثَّرت بالمجزرة وتفاعلت معها وتوحَّدت فيما بينها، حتى إنَّها انصهرت وتماهت مع بعضها، السَّارد/"ياسين"، سمَّته أمُّه على اسم شقيقها الذي اعتقدوا أنَّه استشهد، وهو أكمل دور خاله "ياسين"، لهذا تأثَّر بالأحداث وما جرى لخاله: "الوحدة قتلتني، حكمت على نفسي بالوحد، لم أفكِّر بالزَّواج قط، بلغت الرَّابعة والثَّلاثين وأنا أعزب لا يفكِّر بالزَّواج، كنت في الحقيقة خائفًا من أن يكون مصير زوجتي كمصير ياسمين، كنت خائفًا من المجزرة، من دير ياسين، وكانت فكرة زيارتها مرعبة، يوم أخبرني جدِّي بأنَّه سيطلب من جدَّتي أن تستصدر لي تصريح لزيارة فلسطين، كيف سأواجه دير ياسين.

كيف سأقرأها، سأراها، سأعيش فيها؟ ما الذي سأقوله لها، وما الذي ستقوله لي" ص160، هذا الكلام يأخذنا على تكامل دور الشَّخصيات وحلولها في بعضها، فما حدث لزوجة خاله "ياسمين"، جعل "ياسين لا يفكِّر بالزَّواج، وهذا ما وجدناه عندما تجاوز السَّارد الحديث عن علاقته "بنسرين" الفتاة التي تأثَّرت بصور المجزرة، فلم يتحدَّث عنها أو عن قيام علاقته معها، بينما ركَّز كثيرًا على شخصيَّة صديقه "نهرو" الشّيوعي الذي اختلف معه حول فلسطين.

ونجد تكامل العلاقة علاقة السَّارد بخاله من خلال حديثه بعد خروجه من السِّجن، وأخذه أمانة خاله/الصَّناديق، وبعد فتحها، بدأ بقراءة الرَّسائل التي فيها، فكشف العديد من الحقائق، المتعلِّقة بـ"حنا نوسين" وبالخال "ياسين"، وقبول "سيرنا نوسين" نقل الرَّسائل ولعب دور الوسيط بينهما، يشير إلى تأثّرها/تعلُّقها بالاسم "ياسين/دير ياسين".

كما أنَّ تأثُّر "نسرين" بصور مجزرة "دير ياسين" يأخذ إلى الأسماء ودورها/أثرها على الشخصيات، فكلُّ من حمل اسمه حرف السِّين تأثَّر بالمجزرة بقدر ما.

فأثر الأسماء لم يقتصر على الشَّخصيات فحسب، بل تعدَّاه إلى طريقة السَّرد: "كانت ياسمين أجمل من أن يمرُّوا عليها مرور العابرين، أقام يوشع مزادًا، أطلق طلقته في الهواء وهو يعرضها على الملأ:

ـ أنقل ثلاث جثث خلف السُّور وفز بجولة مع جسد ياسمين

ـ ونحن بماذا سنفوز؟ بجولة مع ياسمين أيضًا، سألت إحدى المجنَّدات متهكِّمة

ـ لا بجولة من زوج ياسمين" ص124، الحوار بين الجنود يشير إلى أنَّهم مهتمين بالاسم، فهناك أكثر من كلمة فيها حرف السين: "السُّور، جسد، ياسمين (مكرَّرة)، سنفوز، سألت" وهذا يأخذنا إلى أن السَّارد متوحَّد مع كتابته، فكانت الشَّخصيات السَّلبيَّة والإيجابيَّة أسيرة للمكان، دير ياسين.

التوحد/الثنائية/الصوفية

جدُّ ياسين لأبيه كان صاحب كرامة، فكان يأتيه المرضى من مناطق عدَّة، ليقرأ عليهم فيعودوا من عنده أصحِّاء معافين، وهو أوَّل من قُتل في المجزرة، حيث وقف أمام الجنود قائلًا: "هذا بيت الله، لا يجوز لكم اقتحامه بأحذيتكم وأسلحتكم" ص4، فكان ردُّ أحد الجنود: "دع الله ينقذك من الموت إذن، ...وهو يطلق عليه النَّار" ص4.

فالجدُّ ترك (جينات) التَّوحُّد/الثُّنائيَّة في ذُرِّيَّته، الذين بدورهم سيتركون أثرا على الآخرين، هذه الثُّنائيَة نجدها في ولادة "ياسين": "ـ ولدت توأمين، فكانا صورة مكرَّرة مرَّتين

ـ كيف لم يكن بوسعك أن تعرفي من أكون من التوأمين؟

ـ من قال أنّي لم أعرف؟

ـ من أنا إذن؟

ـ ياسين.

ـ ما الذي يجعلك واثقة من الأمر؟

ـ رائحتك ...غريزة الأمومة لا تخطئ" ص12، إذن نحن أمام شخصيَّة (مكرَّرة)، ولدت مع شقيق يماثلها.

وجدُّه لأمّه كان مؤمنًا بالصُوفيَّة: "ـ هل بوسعنا أن نرى الله يا جدِّي؟

ـ الله فينا يا بني.

ـ ألم تقل لي أنَّ الله لا يموت؟

ـ بلى

ـ كيف نوت إذن والله فينا؟

ـ الجسد هو الذي يموت، الجسد من تراب، خلقه الله من تراب وأودع نفخة منه فيه، حين يموت الجسد، تصعد الروح إلى السَّماء." ص52، فتأثَّر السَّارد بالصُّوفيَّة والتَّوحُّد كان منذ نشأته.

” وحدة زمن الولادة زمن الموت “

أمَّا على صعيد الأحداث فهناك أكثر من حدث جاء يؤكِّد على الثُّنائيَّة، منها موت الجدّ مع شقيقته: "حين فتحت "إسرائيل" أبواب لزيارة للمهجرين، وسمحت للنَّاس المقيمين في فلسطين باستصدار تصارح زيارة خاصة لأقاربهم، أرسلت جدَّتي التي كانت قد بقيت في اللدّ لجدِّي تصريحًا لزيارتها... الشهود الذين نقلوا أخباره فيما بعد أكَّدوا على أنَّ قدمه اليمنى توقَّفت بعد خطوات من عبوره الجسر، أثناء صعوده الحالة، وفي أريحا راح يشكو لهم من ألم في يده اليسرى ...ثم التوى لسانه وما عاد أحد يفهم ما يقول، ثم حين توقَّفت الحافلة أمام باب العمود مات.

ثمَّة مفارقة غريبة لم يفهما أحد، ولن يكون بوسع أحد تفسيرها ذات يوم أبدًا، في اللَّحظة التي كان جدي يموت فيها، كانت شقيقته التوأم الواقفة بباب العامود تسقط على الأرضِ وتموت... الرَّجل العجوز وشقيقته يموتان في اللَّحظة ذاتها، هو قادم بعد غياب خمس وعشرين سنة، وهي واقفة بانتظاره" ص89و90، زمن الموت ومكانه واحد، للجدِّ وشقيقته التوأم، فالحدث يؤكِّد على وحدة زمن الولادة زمن الموت، وهذا يخدم فكرة التَّوحُّد/الثُّنائيَّة التي تهيمن على الشَّخصيات والأحداث في الرِّواية.

منع الاحتلال دفن الجدّ في فلسطين بحجَّة أنَّه زائر، وتقرِّر أن يعاد جثمانه إلى الأردن ليدفن هناك، لكنَّ إصرار الأبناء على لقاء الأخ بأخته فكان لهما ذلك، لكن العقليَّة الصهيونية وإجراءاتها : "أن سمح بلقاء سريع للجثَّتين إن أمكن، فسمح لهم بخمس دقائق فقط، أخرجوا جثَّتيهما من الثَّلاجة وسحبوهما في الممر، متلاصقين، وضعوا يده في يدها، راحوا ينتحبون حولهما.

ـ انتهت الزِّيارة ...قال الموظَّف.

حملوا جثَّة الجدَّة وخرجوا، وبقيت جثَّة جدِّي تلوح بيدها مودِّعة الجدَّة المحظوظة التي ستدفن في فلسطين، لكنَّ أحدًا لم يكن بوسعه أن يرى كذلك، أو يسمع بكاءها وبكاءه وهي محمولة على الأكتاف، وهو يلوح لها بيده في الهواء ويودِّعها" ص91، هذا المشهد يؤكِّد قول الجد بأنَّ الجسد يموت، لكنَّ الرّوح تبقى حيَّة، فالمشهد لم يكن عن أموات بالمطلق، بل عن أحياء، لهذا ركَّز السَّارد على حركة اليد وعلى البكاء.

النظام الرسمي العربي/السجن

الجميل في الأدب أنَّه يعرِّي الآخرين بطريقة غير مباشرة، بطريقة أدبيَّة، بعيدًا عن الشَّتم والصَّوت العالي، يتمُّ حبس "ياسين" بعد اتِّهامه بالشّيوعيَّة، فعلاقته بـ"نهرو" الشيوعيّ جعلته محطَّ شبه، ممَّا أدى إلى اعتقاله، فهو لم يكن منتمٍ للحزب، لكنَّ إعجابه بـ"نهرو" جعله يؤكِّد التُّهمة ويرفض استنكار الحزب الهدَّام، فحكم عليه بالسجن أربع سنوات، في السِّجن يجد مجموعة من المناضلين، الذي جابهوا المحتلّ: " محمد حسن، أبو داود، كان فدائيًّا، وكان مسجونًا منذ أيلول، يناهز الخمسين، غادر مع الثُّوار ثمَّ عاد بعد أشهر وسلَّم نفسه، وسجن...تسلَّلنا معًا عام 1954 إلى فلسطين.. وألقى القبض علينا في الجليل، هو قتل مع صديق آخر، وأنا واثنان آخران سُجنّا.. سُجنت سبع سنوات " ص112، فالسَّارد يدين النِّظام الرَّسمي العربيّ، الذي يقوم بسجن المناضلين، لأنَّهم اخترقوا الحدود وواجهوا المحتل، لكنَّ هذه الإدانة جاءت بصورة غير مباشرة، من خلال تساؤل القارئ عن سبب وجودهم في السِّجن، رغم عدم وجود تهم جنائيَّة اقترفوها.

فالتُّهم السياسيَّة كانت تمثِّل الغياب الكلِّي للمتَّهم: "حين كانت المخابرات تعتقل شخصًا، يقولون أنَّه ذهب وراء الشَّمس" ص81، وكانوا يعدّون غرفًا خاصَّة لكلِّ تنظيم: " سجن المحطَّة محطَّة لا يمكن أن تكون عابرة في الحياة.. غرفة الحزب الشّيوعي الفلسطيني رقمها أربعة، والحزب الشُّيوعي الأردني رقمها أربعة عشرة، والجبهة الشعبيَّة عشرة، فتح من الغرفة الخامسة حتى الثامنة، وهكذا" ص105، بهذا الشَّكل يستنتج القارئ بعقم النِّظام الرَّسمي العربي، الذي يسجن النَّاس لأنَّهم حزبيُّون، يرفضون التَّسليم بوجود دولة الاحتلال ويعملون من أجل استعادة حرِّية فلسطين، وهذا ما يجعل النِّظام الرَّسمي شريكًا فيما آلت إليه فلسطين وشعبها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم