الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولي النعم

محمد فرحات

2021 / 4 / 1
الادب والفن


وخدمة لم يشهدها يوما حي الحسين، والجمالية وبين القصرين

***
لا...شهدها يوم مقدم رأس الإمام الحسين، ليس من قيد أنملة بمحيط قصر الزمرد الفاطمي إلا وقد علاه السجاد الأحمر الفارسي السلطاني، ليس من نسمة إلا وحملت بشذى الزعفران، والمسك، والبخور.
تكتظ الطرقات بموائد عليها من شتى صنوف الأطعمة السلطانية الفاطمية، لم يبق من بيت قاهري إلا وجاء مرحبا مستقبلا.
يظهر الخليفة الفائز بالله الفاطمي، حافي القدم، يحمل طستا ذهبيا عليه برنس أخضر يحيط مغطيا أشرف رأس، يتبعه وزيره القوي نافذ الكلمة الصالح طلائع رزيك حافيا مهرولا مأخوذا، يعبرا وسط الجماهير المهللة المكبرة، ليدخلا سرداب قصر الزمرد، ليستقر الرأس الشريف لحين انتهاء أعظم البنائين، والنحاسين، والرسامين من إنهاء المشهد الحسيني الأعظم مقابل الجامع الأزهر.
***
القاهرة 578 هجرية .

انطلقت المباخر القاهرية كلها بشذاها و عبقها ، لتنبعث زخات العطر الدخاني موجات متلاحقة ، يطارد بعضها البعض ، وتدثرت أرضها بالبسط و السجاد ، فاستحالت غبرتها لحمرة سلطانية زاهية، وما من بيت إلا و ترفرف عليه أعلام ورايات الدولة الفاطمية الحمراء و السوداء و الخضراء ، ودوريات عسكر التشريفات في أزهى ثيابهم ، يتقدم الموكب الخليفة الفاطمي حاملا الرأس الشريف ، يتبعه علماء الأزهر والقضاة فالوزراء فقواد الجيش، يحيط بهم التجار و أصحاب الصناعات وصغار العلماء والطلبة و الحرافيش و النساء والصبية و الفتيات بأزهى ثيابهم، فسينتقل رأس الحسين من سرداب قصر الزمرد لمشهده العامر بعدما اكتمل بناءه ، بين الجموع المحتفلة ، يظهر رجل بهي الطلعة، مهاب، نبيل، يلبس البرنس المغربي ، لايصدق ما أتاحه له القدر من حظ لرؤية هذا الحدث العظيم ، يشاهد البناء و ما يحيط به من مظاهر احتفال ، ثم يهمس بكلمات مقتضبة من وقت لآخر في أذن رفيق سفره و مواطنه أحمد بن حسان ويعاود مشاهدته المستغرقة ، هم قد أتوا في رحلة بحرية من بلنسية الأندلس لأداء رحلة الحج، وكان حتما عليهم المرور بمصر لتكملة رحلتهم إلى ميناء عيذاب، البحر الأحمر، طريق الحج و تجارة البهارات والبخور،يبتسم أحمد بن حسان حينما يلاحظ غياب صديقه محمد بن أحمد بن جبير في تأمل ما يرى …
-حتما ستدون ما ترى في كتابك تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار…
ينتبه ابن جبير من استغراقه فيما يلوح له من جلال بناء ، وعظمة إنشاء و أبهة احتفالات ...
-لم أر مثل ذلك يا أحمد…
-أمثلك يا ابن جبير يقول ذلك على كثرة ما رأيته في كل رحلاتك من بدائع وعجائب صنع الترك و الفرس و الروم …
-الأمر هنا يختلف يا أحمد، ليست فضة و رخام، و ستائر و طنافس ،ليس بديع فرش وبسط، ليس بناء و حجارة وطلاء، ليست مآذن وقباب فقط ، ولكنه رأس الحسين بن علي، ستظل هذه البقعة مباركة أبدا إلى أن يرث الله الأرض، هذا هو سبب غيابي يا أحمد، فأنا أشاهد تنزل البركة من السماء لأول مرة في حياتي ،لم أر ذلك من قبل قط ..
-نحن بالفعل سعداء الحظ ..
-وأي حظ هذا يا أحمد و أى توفيق ، هي رأس سيدنا الحسين بعد طول رحيلها و تطوافها من كربلاء للكوفة للبصرة للينا لحمص لأنطاكية لدمشق للرقة لعسقلان ثم القاهرة مستقرها الأخير...
***
-لابد أن تقرأ علي ما دونته يا ابن جبير ، كتابتك الأخيرة عن مشهد الإمام الحسين بالقاهرة ..ينصرف ابن جبير عن استغراقه في الكتابة..
- فلتسمع إذن يا ابن حسان ،
"ووضع الرأس الشريف في تابوت من فضة منقوشة نقوشات بديعة متقنة ، و أحيط بأعمدة من أنواع الرخام المجذع الغريب الصنعة ،البديع الترصيع ،مما لايتخيله المتخيلون والمدخل إلى هذه الروضة على المسجد مثالها في التأنق و الغرابة ، وحيطانها كلها رخام على الصفة بعينها ،و الأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع .."
-هذا ما كتبته يا ابن حسان عن مشهد سيدنا الحسين بالقاهرة ، دعني أكمل، وانصرف بسلام لنومك ...
***
أخذه العشق كل مأخذ، بدون هوادة سلب فؤاده، و الأجل قد دنا ، والزاد قد نفد ، كم تمنى لو كان في ذلك الركب ، موكب العشق الحسيني الكربلائي ، كم تمنى لو جاد بنفسه بين يديه عليه السلام ، وحينما تفرق الأماكن عن المراد فالعشق صعب، ولكن هيهات لعشق فرقته الأزما ن، نعم سيترك ثروة كبيرة ، فلتكن منارة الحسين أعظم مئذنة في القاهرة ، يكتب وصيته لولده الأصغر " تقربا لله ورفعا لمنار الإسلام أوصي الحاج أبو القاسم بن يحي بن ناصر السكري المعروف بالزرزور بإنشاء مئذنة مباركة على باب المشهد الحسيني بالقاهرة .." ولما فرغ من كتابته ، سمع طرقا على باب منزله ، فأسرع بوهن ليفتح ، فإذا فارس جميل الهيئة، ابتسامته كشمس مشرقة ، وكأن العافية وسنين العمر المنصرم قد ردت إليه ، يحدثه الحسين برفق :-
لم يمض الركب بعد يا زرزور ، نحن في انتظارك من زمن ، ألحق بنا ..
يلقي أبو القاسم نفسه على عتبة بيته ويمضي بعيدا ، ويتبع الحسين، في موكب العشق سار ولا ملام …
***
ترتفع المنارة على باب الحسين الأخضر، لتطال السحاب ، وليطال عشق أهل الأرض أولئك الذين اتخذوا السماء مسكنا ، وقد فرغ الخطاط من كتابة اللوحة بالخط الديواني على قاعدتها ..
" و كان المباشر بعمارتها ولد أبي القاسم بن يحي الأصغر، من ماله الذي أوصى به ، وكان فراغها سنة 634 هجرية من شهر شوال المبارك، و الحمد لله رب العالمين "
***
تسقط شعلة نار صغيرة من شمعة بيد خازن بيت الشمع ، بالطرف الغربي من جامع إمام الشهداء الحسين بالقاهرة ، تتسلل رياح خريف العام ستمائة وأربعين هجرية ، يزداد وهج الشعلة التي غفل عنها الخازن ، وتتمدد للسان نار ، يلوك بسرعة أطراف السجاد الفارسي المستغيث بصمت ، تتوالد ألسنة النيران بسرعة رهيبة ، تزدرد النفائس الخشبية و الستائر و السجاد ، تصل لصحن الجامع ، تنفجر الألسنة النيرانية لتطاول مئذنة جامع الحسين ، يهرع سكان حي الحسين و الأزهر و الجمالية وبين القصرين و الدرب الأحمر، ينتظمون في صفوف طويلة وآلاف الأيادي تسلم لبعضها البعض دلاء المياه، لتنفض وجه النيران الوحشي ، يصك خبر الحريق مسامع القصر السلطاني الأيوبي، فيثب الملك الصالح نجم الدين أيوب من فراشه ، لاسطبل خيوله الملكية ، ممتطيا و جنوده و حراسه ووزراءه ظهور خيولهم منطلقين صوب الجامع الحسيني المشتعل ، تقف ألسنة النيران لاهثة ، ممزقة على أعتاب قبة ضريح الحسين خاشعة، بعد أن أتت على الجامع كله لم يبق منه غير الضريح المبارك و الباب الأخضر وقاعدة مئذنة الزرزور ..
يبكي الصالح نجم الدين ووزراءه ، تتسارع سنابك خيول البريد الأيوبي، مخبرة بنذير هجمة صليبية جديدة تعتزم غزو ثغر دمياط ...
***
حينما توقفت النيران على أعتاب ضريح أبي الشهداء ، لامت أيام الدهر هذا اليوم واشتدت عليه ،
- كيف و كيف ؟،
- ماذا تقولون إذا ليوم كربلاء ؟ ، يشير ليوم منكس الرأس مخزيا ، ويكمل :
وهل نسير معشر الأيام إلا على سير القدر و إن وطأ بخطوه الثقيل ، فسحق ما عز يوما و علا، لينخفض برأسه و يذل، وليعلو ما كان منخفضا ذليلا يوما ، لتموت ضحكات صاخبات، و تمسح عبرات داميات ، وهل كان لنا ساعة من الأمر شئ ؟ الأيام تأتي، و الأيام تذهب ، وقادمات الأيام لن يكون لها إلا أن تكلل الضريح بتيجان القدر ..مشهد سيدنا الإمام أبي عبد الله الحسين بالقاهرة العامرة ….

لم يكن للقاضي عبدالرحيم البيساني شغلا غير ترميم الجامع الحسيني ، فاعتزل القضاء و إلقاء العلم و ألحق بالجامع بعد ترميمه ساقية و ميضأة ..
وفي عام 662 هجرية رفعت للملك الظاهر بيبرس البندقداري قضية موضوعها أنه قد ألحق بالجامع من قبل باب المشهد قطعة أرض غصبا و كانت من حقوق أيتام قصر ، فغضب الملك غضبا شديدا بعد أن حقق في الأمر وأثبت القضاء أحقية القصر ، وأمر برد ضعف قيمة الأرض للقصر ، واشترى من ماله أرضا خلف الجامع فاتسع نطاقه وزاد رونقه .
ولما بدأ الملك الناصر بن قلاوون خطته المعمارية لتطوير عمارة القاهرة بدأ بالجامع
فأضاف لمساحته و أمر ببناء إيوان إضافي وبيوت ملحقة به لفقهاء العلوية و كان ذلك عام 684 هجرية .
وفي عام 1006 هجرية لما رأى السلطان سليمان خان عظيم إقبال المصلين و الزائرين أمر بتوسعة الجامع وفرشه و إنارته بثريات شبيهة بتلك التي تنير قصر السلطنة بالأستانة .
ووسع الأمير حسن كتخدا مستحفظان الجلفي المشهد الحسيني ذاته فصنع له تابوتا من
الأبنوس المطعم بالصدف و العاج بستر من الحرير المزركش .
يقول الجبرتي في عجائب الآثار من التراجم و الأخبار " ولما تمموا صناعته وضعوه على قفص" أي التابوت " من جريد و حمله أربعة رجال وعلى جوانبه عساكر من الفضة المطلية بالذهب ، ومشت أمامه طائفة الرفاعية بطبلهم و أعلامهم و بين أيديهم المباخر الفضية و بخور العود و العنبر ، وقماقم ماء الورد يرشونه على الناس ، وساروا بهذه الهيئة حتى و صلو المشهد الشريف ووضعوا ذلك الستر" الحرير" على المقام .."
ولما زار السلطان عبدالعزيز خان المحروسة مصر عام 1279 هجرية، أمر بفرش الجامع و المشهد بالفرش النفيسه و تنويره بالأنفاس الغازية في قناديل البلور و رتب له فوق كفايته من الأئمة و المؤذنين و المبلغين و البوابين و الفراشين و الكناسين، و أكرمهم .
وقد أنشأ الخديو عباس حلمي عام 1311 هجرية حجرة الآثار النبوية في الطرف الجنوبي الشرقي من الجامع وهي قاعة متسعة الأرجاء، مفروشة بالسجاد الدقيق الصنع المستورد من إيران وتركيا ، و أناره بمصابيح و ثريات بلورية نادرة ، وقد كسيت جدرانها بالرخام المجذع ،وبها محراب صغير، وسقفها من الخشب المنقوش و نوافذها من الجص المخرم و المعشق بالزجاج الملون ، أما دولاب الآثار الشريفة فقد وضع في الجهة القبلية من القاعة ، وهو عبارة عن فجوة كبيرة في الجدار دعم ظهرها بقضبان من الحديد ، وقد كسيت جدرانها و أرضيتها وسقفها بالجوخ الأخضر.
وأمر السيد الرئيس جمال عبدالناصر عام 1959 من ميلاد السيد المسيح بتوسعة الجامع لتصل مساحته 3340 مترا مربعا بعد أن كانت 1500 بإضافة 1840 متر مربع ، فكانت أكبر توسعة للجامع الحسيني على مدار تاريخه الطويل ، وكان ذلك بعد رؤية كان فيها الرئيس عبدالناصر رديف أبي الشهداء الحسين على فرسه، وبعد أن طاف به أرجاء الجامع، ألبسه أبو الشهداء الحسين جبة متسعة من الجوخ ، ففسرها بتوسعة الجامع ، وقد أخذت أبعاد الأروقة و قطاعات العقود و كذا النوافذ و الأبواب التى استجدت طبيعة الجامع القديم فجاءت التوسعة كامتداد طبيعي للجامع القديم و بنفس مواد البناء الخام من الداخل و الخارج و أضيف للجامع دورين ، وأمر بإنشاء مكتبة الجامع لتبلغ 144 مترا مربعا و تقع في الجهة الشرقية على امتداد القبة و ومصلى النساء ، ولما كانت الواجهة القبلية الرئيسية للمسجد القديم على غير استقامة واحدة ، فقد أضيف إليها مثلث في الطرف الجنوبي الشرقي مساحته 35 مترا، فجاءت الواجهة الرئيسية على استقامة واحدة ،وأمر بصنع منبر جديد من الخشب العزيزي و الجوز التركي و الزان ،ويتكون من حشوات مجمعة ومطعمة بالصدف والعاج والأبنوس ..
وقامت طائفة البهرة بأمر من قيمها وسلطانها الأغا خان الداعي العلوي الفاطمي الطاهر السيد أبو محمد طاهر سيف الدين بعمل مقصورة من الفضة الخالصة المرصعة بفصوص الماس الحر وكان ذلك عام 1965 من ميلاد المسيح .
هكذا جلس الدهر بموكبه ينظر، لتتفاخر
أيامه على بعضها البعض ، فصرخت الأيام الحزينة باكية ، على رأسها يوم كربلاء ..
وهل لنا من فعل؟!، كلنا أولاد القدر ، تستوي الأحزان و الأفراح، وسطور اللوح تنساب فينا ، فلا فخر و لا خزي...
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل