الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصعب أيام مصر

مصطفى مجدي الجمال

2021 / 4 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


تعيش مصر الآن واحدة من أصعب مراحل حياتها في العصر الحديث، أصعب بكثير من العدوان الثلاثي 1956 وهزيمة 1967.. فهي تواجه اختيارًا قاسيًا بين الموت فيزيقيًا بالعطش والبوار، وبين الدخول في صراعات دموية من أجل الإبقاء على الحياة وليس مجرد النمو والتنمية والسلامة.

وقد حان الأوان لوضع إصبع الاتهام بالتآمر، أو الحماقة على الأقل، في أعين أطراف عديدة سعت وتسعى وراء مصالح أنانية، كثير منها أحمق وعدواني، وما تفرزه من مؤامرات ومكايدات كارهة للأمة المصرية وليس مجرد الدولة أو النظام السياسي..

بدأت جريمة السد الإثيوبي الإجرامي من عند السادات، ذلك "الفلحوس" الذي وعد بتوصيل مياه النيل لإسرائيل، حتى ينعم حجاج القدس اليهود والمسيحيون والمسلمون بماء "زمزم الجديدة".. ولولا المقاومة الشعبية، والأكاديمية والبيروقراطية أيضًا، لهذا العرض الإجرامي لكانت أعظم أحلام إسرائيل "من النيل إلى الفرات" قد بدأت بالتحقق الفعلي، فهاهو النيل بذاته ذاهب إليها دون أن تحتاج إلى مشقة الوصول إليه، فتتحول إسرائيل إلى دولة مصب وتصبح مصر دولة عبور، ولك أن تتخيل كل النتائج الوبيلة لهذه الحماقة إن تحققت.

كان السادات يريد التحول من العداء لإسرائيل كمشروع إمبريالي وعنصري، إلى التنافس مع إسرائيل على احتلال المركز الأول في العمالة للإمبريالية العالمية في منطقة الشرق الأوسط.. حتى لو كان الثمن هو التفريط في الحقوق التاريخية والمصالح الاستراتيجية للدولة/الأمة المصرية.. كان يتذاكى ويبالغ في التنازلات حتى يحصل على المزيد من المديح الإعلامي الغربي.. كان يتصور أنه سيهمش إسرائيل في العمالة عن طريق تقديم التنازل تلو الآخر لذات إسرائيل..

لقد كان حكم السادات من أكبر المصائب الاستراتيجية التي ألمت بمصر، فقد جاء به عبد الناصر نائبًا في محاولة لكسر السموم السعودية، وبمجرد أن أصبح السادات البديل المتاح كان لا بد من اختفاء عبد الناصر من خريطة الشرق الأوسط.. وحتى حرب أكتوبر التي فُرِضت على السادات فرضًا بضغط الجيش والشعب، فقد التف عليها بسلوكه المريب إبان الحرب نفسها، ثم أهدر كل إنجازاتها العسكرية في صفقات ثنائية منفردة ومجحفة انتهت بإخراج مصر من الاصطفاف العربي (وبدء انهيار النظام الإقليمي العربي كله) والقبول بسيناء منزوعة السلاح.

وعلى المستوى السياسي المحلي تحالف مع جماعة الإخوان وتفريعاتها، التي لعبت دورها في تجهيل الشعب ومناطحة القوى اليسارية والناصرية خدمة لنفسها فحسب، بينما الرئيس المتذاكي كان يتصور أنها تخدمه، ومن ثم توحشت لتقطم رقبته هو نفسه.

على المستوى الأفريقي أساء السادات أعظم إساءة لسمعة مصر أفريقيًا، حيث بدا أن لا حلفاء له في القارة غير أكثر متوحشيها ضراوة مثل موبوتو في زائير وسافيمبي في أنجولا.. وقامت سياسته الأفريقية كلها على تعاون استخباراتي مع إيران والسعودية وإسرائيل.

ومضى في الطريق ذاته مبارك بإدارته البليدة، ومحاولاته تعظيم مكاسب العمالة للولايات المتحدة من خلال التمكين المتزايد للشرائح الرأسمالية الفاسدة والعميلة للغرب، والتسويق لدور استراتيجي وعسكري لخدمة الإمبريالية الأمريكية والنظم الرجعية العربية. وزاد الطين بلة أنه قد أدار ظهره لأفريقيا بأكملها بعد محاولة اغتياله في إثيوبيا على أيدي جماعة الإخوان و"الجهاديين" برعاية حلف البشير/الترابي..

ولكن الأمر الأسوأ تمامًا كان إهمال مبارك لدعم القوات المسلحة المصرية، وجعلها رهينة بالكامل للسلاح الأمريكي المتخلف بدرجات عن إسرائيل، وتطويره للتطبيع معها.

كما تآمرت جماعة الإخوان في السودان مع إثيوبيا تآمرًا مكشوفًا، بزرع الكراهية لمصر "المبتعدة عن النهج الإسلامي" بينما عمقت للمفارقة تحالفها مع إثيوبيا.. وبدأت تتضح في العلن المشروعات الإثيوبية على النيل الأزرق، برعاية وتوجيه إسرائيلي، وبارك النظام الإخواني في السودان سد النهضة باعتباره "سد عالٍ" جديد تقيمه "أخت بلادهم" سيحمي السودان من الفيضانات ويمنحه الكهرباء بأسعار رمزية، ودون أن يكلف السودان فلسًا واحدًا.. ومن ثم تكوّن محور سوداني إثيوبي في مواجهة مصر..

وازداد الأمر غرابة، وإن كان واقعيًا ومفهومًا في ضوء المعرفة بالأطراف، بأن دعم إخوان تركيا إثيوبيا في مشروعاتها، ثم جاء الإخوان إلى حكم مصر ولم يستطيعوا فعل شيء سوى المؤتمر السري/العلني المزري الذي عقده محمد مرسي وتبارى فيه حلفاؤه الحاضرون في تبادل الآراء التافهة مما كشف ضحالتهم وتخاذلهم، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفه ضد تآمر إخوان السودان على النيل وحياة المصريين.

ولا يمكن لنا إعفاء من جاءوا بعد حكم الإخوان من التردد في اتخاذ مواقف حاسمة مبكرة من المشروع الإثيوبي الأثيم، حتى ولو بأعذار مثل القلاقل الداخلية وحاجة القوات المسلحة إلى بعض الوقت لإنهاض الموقف التسليحي، وضرورة المرور بمراحل من الدبلوماسية في ظل وضع دولي صعب للنظام المصري بعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المدعومة أمريكيًا.

كما لاحظنا حرص النظام على عدم تعبئة الشعب بدرجة كبيرة حتى يستطيع إدارة ملف السد دون ضغوط شعبية أو سياسية داخلية.. كما كان عليه أن يبذل جهدًا خارقًا من أجل تعديل الموقف السوداني حتى يمكن توسيع وتفعيل الخيارات الاستراتيجية والدبلوماسية والعسكرية في مواجهة سد المؤامرة الإثيوبي.. ونقول إن الاستغناء "المرحلي" عن الضغط الشعبي يعني إلغاء ورقة مهمة جدًا يجب على النظام أن يستفيد منها على الساحة الدولية، بل وحتى لمصلحة النظام نفسه.

وإلى جانب جرائم وخطايا وعيوب كل القوى التاريخية والحاضرة المذكورة أعلاه.. لا يمكن أن نتجاهل دور بعض مدعي الخبرة بالشؤون الأفريقية الذين يقدمون الخدمات الاستشارية للحكم.. فقد أجرم بعضهم بالانحياز المباشر وغير المباشر للسد الإثيوبي، وادعاء أنه يمكن أن يكون نواة للتعاون الاستراتيجي الأفريقي من أجل نهضة الكل.

وقد تعرض كاتب هذه السطور منذ التسعينيات لتهكم بعض الخبراء من تحذيرات من التغلغل الإسرائيلي ثم التركي في القرن الأفريقي، وكان الاتهام الجاهز لي وأمثالي بـ "القومجية" أي النرجسية القومية المتعصبة.. ثم تبين لي أن بعض المتحمسين المصريين للسد الإثيوبي كانوا من أنصار مبادرة حوض النيل (اتفاق عنتيبي) الذي رفضته مصر، ومن ثم راحت عليهم البدلات والمكافآت والبرستيج.

أختم هذه المقالة ببعض عناصر التفكير المهمة التي أتمنى على صانع القرار المصري استيعابها، دون الحساسية تجاه أي اختلافات سياسية، فنحن أمام خطر وجودي للأمة المصرية:

(1) إن مواجهة التهديد الإثيوبي ترتبط حكمًا بالتهديد الصهيوني، خاصة وأن الأساطير الأيديولوجية المهيمنة على قطاع كبير من سكان إثيوبيا هو انحدارهم السلالي من أصول يهودية، وبالتالي فإن مستقبل إثيوبيا المجيد رهن بتمتين التحالف التليد مع إسرائيل.

(2) شيئًا فشيئًا سيتضح المشروع الإسرائيلي في التحالف مع إثيوبيا للارتواء من ماء النيل، وهذه مسألة وجودية بالنسبة لمستقبل الكيان الصهيوني. وهناك أدوار ستفتضح حتمًا لدور الخبراء الإسرائيليين في الإدارة الإثيوبية للتفاوض وحماية جسم السد والترويج الإعلامي لنهضة إثيوبية أساسها التحالف مع إسرائيل.

(3) إن الهدف الاقتصادي المباشر من سد النهضة ليس توليد الكهرباء ولا حتى التوسع الزراعي.. وإنما أن يصبح السد هو "محبس" المياه في المنطقة، وبالتالي تسليعها وبيعها مثلما يباع النفط والثروات الطبيعية، وهو مخطط أكيد للرأسمالية العالمية لصالح شركات ودول ستنتعش باستخدام هذا الريع.. والوسيلة في ذلك ستكون معاهدات إكراهية أو حروب مياه.. وهناك في العالم دول كثيرة تنتظر ما ستسفر عنه حرب المياه بين مصر وإثيوبيا. وعلى الإدارة المصرية أن ترفض رفضًا مطلقًا أي محاولة لجرها إلى هذا التسويق الرأسمالي.

(4) كما أن الهدف الاستراتيجي الإثيوبي/الصهيوني/الإمبريالي للهدف السابق هو تحويل إثيوبيا إلى القطب الإقليمي المتحكم في الإملاء السياسي على سائر الدول المنتفعة بالنيل والأنهار الأخرى في إثيوبيا.. وبالطبع بأثمان كبيرة تدفعها الإمبريالية كما تدفعها الدول المهدَّدة.

(5) تستفيد الإمبريالية الأمريكية من مشروع السد الإثيوبي لإضعاف مصر وإرباكها خاصة بعد النهضة التسليحية الأخيرة، وهو موقف يشبه موقف الغرب من صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955. ولكن أمريكا على دراية بأنه من الخطر تدمير مصر تدميرًا كاملاً، وإنما المطلوب إضعافها وإذلالها طالما ظل من المستحيل ومن الخراقة تفكيكها كما حدث في سوريا والعراق وليبيا.

(6) تحاول الحكومة التركية محاصرة مصر من الجنوب، ودفعها دفعًا للتصالح في ملف غاز البحر المتوسط مقابل سحب دعمها لإثيوبيا. وهو مرقف سيستمر غالبًا حتى لو سقط الحكم الإخواني في أنقرة.

(7) للأسف سيقف قطاع كبير من الحكومات الأفريقية ضد أي إجراء مصري خشن ضد إثيوبيا.. ففي الحقيقة أن الاستعمار قد نجح، بسبب اللامبالاة المصرية والعربية أساسًا، في زرع حالة الانقسام بين الشمال الأفريقي و"أفريقيا جنوب الصحراء"، باستخدام تراث الاسترقاق في أفريقيا، ومشاعر الحسد تجاه تقدم و"ثراء" الشمال الأفريقي بينما الفقر والبؤس يضرب جنوب الصحراء.

(8) تتلهف بعض دول حوض النيل لمعرفة نتائج الصراع الحالي، وتتمنى الانتصار لإثيوبيا لأنه سيشجعها على إقامة عشرات المشاريع المماثلة لمصادرة مياه النهر.

(9) موقف بعض الدول العربية من الأزمة مريب.. بالاستثمارات وأيضًا بالوساطات المشبوهة لفك التحالف المصري والسوداني الناشيء، من خلال عطايا مالية ضخمة للتعاون الاقتصادي المشترك بين إثيوبيا والسودان.. ناهيك عن التطبيع مع الكيان الصهيوني والمشاريع البديلة لقناة السويس المصرية. ويجب أن يكون مفهومًا أن تعاون بعض النظم الخليجية مع النظام المصري الحالي كان فقط لكسر شوكة الخطر الإخواني عليها، والاستفادة من القوة الاستراتيجية المصرية في مواجهة التهديدات الإيرانية والضغوط الأمريكية، بينما يظل هدفها الاستراتيجي الذي لا يتغير ألا تعود القوة المصرية إلى مستويات الهيمنة الناصرية.

(10) سيتفاقم أكثر الدور الصامت لدول عربية أخرى تجاه الأزمة، خاصة في بلدان المغرب العربي ذات الثقل أفريقيًا، كما لو كان تجويع وتعطيش الشعب المصري الشقيق مسألة لا تهمهم، وأن المكايدة السياسية أهم من المخاطر الوجودية التي ستطال الجميع حتمًا.

(11) ستقف الصين إلى جانب إثيوبيا في المحافل الدولية لأنها لا تريد إدخال سوابق في القانون الدولي تقيّد حرية دول مصب الأنهار في التحكم المطلق بها.. إلى جانب المصالح الاقتصادية المهولة للصين في أفريقيا وكل القرن الأفريقي. لكن هذا الانحياز السياسي سيكون في حدود لأن المصالح الصينية مع مصر كبيرة جدا.

(12) من الخطر إلحاق ضرر جسيم بجسم السد، فقد فات أوان هذا.. وهو ما يستدعي اتخاذ تكتيكات عسكرية مبتكرة، بالاحتلال الجزئي أو الإرباك التكنولوجي أو الحصار....

(13) غير أن العنصر الحاسم والأهم من كل ما سبق يتطلب أن تعلن الدولة المصرية التعبئة العامة للشعب، فلهذا فوائد لنظام نختلف معه أصلاً ولكننا لا نختلف على الوطن، فضلاً عن التأثير الحاسم لهذه التعبئة على مستوى الرأي العام العالمي والمنظمات الدولية والدول المؤثرة.

(14) وأؤكد أن التعبئة الشعبية لن تصل فعاليتها إلى نطاقها الأقصى ما لم يعدل الحكم بعض ممارساته في مجالات العدالة الاجتماعية والحريات وحقوق المواطنة.. ولا يمكن اتهام الشعب أو طلائعه بأن هذه المطالب تمثل إعوجاجًا في نقاء الوطنية المصرية، وإنما ستكون بمثابة إضفاء منطق موضوعي وإيجابي على اصطفاف وطني ضد التهديد الوجودي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الساداتى
على سالم ( 2021 / 4 / 4 - 03:09 )
الرئيس السادات ( الساداتى ) كان كارثه ونكبه على مصر


2 - الإمبريالية
فؤاد النمري ( 2021 / 4 / 4 - 11:53 )
المقال شامل ورائع لولا حكاية الإمبريالية التي لا معنى لها
أميركا لم تكن يوماً امبريالية
أميركا لا تعتاش اليوم على الإنتاج الرأسمالي بل على طباعة أكثر من 10 ترليونات دولار سنوية من الأوراق الملونة بلون الدولار وتبيعها على العالم رخيصة بسعر 2 سغم ذهبا للدولار الواحد

تحياتي


3 - لاتوجد علائم على ماتقول
منير كريم ( 2021 / 4 / 4 - 16:18 )
تحية للاستاذ الكاتب
لاتوجد علائم على ماتقول من ان اسرائيل اصبحت دولة مصب ومصر دولة عبور بالنسبة الى النيل
يجب ان تكون تقييماتك موضوعية
واذا اصبحت اسرائيل دولة مصب , اليس هذا من مصلحة مصر ويضمن المياه لها
النقطة الاخرى ان الغرب ليس ضد مصر بل العكس تماما الغرب يساعد مصر دائما انظر الى القروض الهائلة لمصر وسكوت الغرب على مصر رغم سجلها السيء في مجال حقوق الانسان بل بلغ الامر بالغرب انه طوى قضية اغتيال الباحث الايطالي البشعة
العلة يااستاذ ليس في الغرب او اسرائيل بل في طبيعة الدولة المصرية وطبيعة طبقتها الحاكمة الطفيلية وفي طبقتها السياسية عامة
شكرا لك

اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو