الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين قوة الاقتصاد وضعف السياسة: هزال البنيان القيادي الراهن في الغرب

محمد عبد الشفيع عيسى

2021 / 4 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


هي "الأزمة العميقة" تطلّ برأسها حول العالم كله، و قبل ذلك حول الغرب الرأسمالي المعاصر، في أمريكا وأوروبا، بل وكذلك اليابان . وهذه الأزمة تتجلى فى تناقض ظاهر بين الوجه الاقتصادي من ناحية ، والوجه السياسي والثقافي من ناحية أخرى. اقتصادياً يبدو أن الغرب يواصل تقدمه المادي، من الجانب التكنولوجي، دون عوائق جوهرية ، بل يواصله بشكل مضطرد ولوتيرة مرتفعة نسبياً ، وهو ما يبدو فيما يسمى "الثورة الصناعية الرابعة " فى أحدث أطوارها، ممثلة في خمس تكنولوجيات غدت معروفة : "إنترنت الأشياء" ، و "الروبوتيات" ، و "تحليلات البيانات الكبيرة" ، و "الحوسبة السحابية" ، و "الطباعة ثلاثية الأبعاد". وهذا التقدم التكنولوجي يصحبه نهج اقتصادي محسوباً بالزيادة الدورية في الناتج المحلى الإجمالي (لولا كورونا ...!) ولكن مع زيادة فى حدّة التفاوت فى توزيع الدخل والثروة على المستويين المحلّي والعالمي، ليس فقط بين عنصريْ رأس المال والعمل الأجير، ولكن داخل العمل نفسه، بين الأعلى مهارة والأقل، من حيث الدراية المعرفية والتطبيقية بالتكنولوجيات الجديدة .
هذا كله في الجانب الاقتصادي ، الذى يبدو وكأنه يسير دون هوادة ، ولكن على غير هدى، حيث لا تنفكّ "الشركات"، تلك العملاقة عابرة الجنسيات، عن أن تغذّ السير مليّا، و تُراكِم الثروات من باطن التملك الاحتكاري للتكنولوجيا. ويتم ذلك من خلال الاستئثار بالنصيب النسبي الأكبر من الإنفاق على عمليات "البحث والتطوير" وعلى منظومات الابتكار في العالم، ومن ثم على أنظمة التجارة والتسويق، بدءً من "التواصل" أو (اللا تواصل) الاجتماعي ..! وانتهاء بالتكنولوجيا الحيوية فى مجالات الطب والصيدلة : دواءً ولقاحاً .
أصبحت "الشركة" فيما يبدو هي الفاعل المجتمعي الأكثر أهمية في الغرب، مقارنة بالمجتمع المدني – الأهلي ، بل وبالسلطة السياسية نفسها .. وبالتالي أصبح "قانون الربح" هو المهيمن دون شريك ، حتى في الثقافة ، بحيث اختفى أو كاد يختفى الإبداع الفكريّ الرفيع وخاصة فى حقول "الإنسانيات" بما في ذلك بصفة خاصة : الفلسفة وعلم الاجتماع، بل و علم الاقتصاد أيضا، الذى أخذ فى التحول المتسارع إلى مجرد علم "أدائي" تسيطر عليه استخدامات الأساليب الكمية، وينزوي إلى حد بعيد كعلم للاقتصاد السياسي والاجتماعي بالذات.
وهنا مكمن التناقض الذى أشرنا إليه، حيث تقدم اقتصادي بحت ، مادى وتكنولوجي ، يسير على ساق ، مع سياسة وثقافة بنصف ساق، أو لعلها فى بعض الأحيان والأماكن ، دون ذلك .
و من بين الجوانب المتعددة التي يثيرها التناقض المشار إليه، ما يمكن أن نطلق عليه ضعف منظومة القيادة السياسية، ونقصد به ( انقراض) ذلك النوع من القيادات العليا ذات البصيرة الإدراكية العالية، مع الإرادة القوية، و "الإدارة الحسنة نسبيا" للناس وللأشياء فى وقت واحد. إذْ يبدو لنا أن المجتمعات الغربية بصفة عامة، في أمريكا وأوروبا شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً ، ومعها اليابان ، لم تعد لديها تلك القيادات، كأفراد ومجموعات منظمة، التي كانت لها من قبل، كما بدا عليه الأمر بصفة خاصة خلال القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين أيضا حتى سبعيناته بالذات .
و الملاحظ أن انكفاء التكوين القيادي ارتبط، فيما يبدو، بانكفاء مناظر في الجانب الفكري والثقافي، وفى مجال الحياة السياسية على وجه العموم. فقد اضمحلّت التيارات الفكرية الدافعة للتطور الارتقائي اضمحلالاً شديداً منذ أواسط السبعينات من القرن المنصرم، بانزواء الدعوات الاجتماعية التجديدية فى حقل التنمية والاقتصاد، و التي قادها رجال ونساء عديدون فى أوربا بالذات (من التيار اليساري والتيار "الكينزي" الداعي إلى تدخل الدولة بسياسات الرفاه). وكانت هذه الحيوية القيادية والفكرية قد تزامنت مع حيوية لدى جيل الشباب آنئذ في أوروبا خصوصاً، وفرنسا بصفة أخصّ (ما يسمى ثورة الشباب عام 1968)؛ أما على الصعيد الفكري فقد ازدهرت المذاهب الفلسفية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال المناظرة مثلا بين "الوجودية" و "الماركسية"، و بين "الماركسية التقليدية" و "الماركسية المجدّدة".
هذا الازدهار الفكري خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينات ومطلع الثمانينات، أعقبه (الخواء) الذى أشرنا إليه . ومع الخواء الفكري وجدنا (الفراغ السياسي) المتمثل في انزواء ظاهرة (الأحزاب السياسية) التى ميزت الحياة السياسية فى الدول الغربية جميعاً ، والأوروبية خصوصاً ، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ، من ألوان الطيف في اليمين والوسط واليسار، ليحلّ محلها ما يسمى "جماعات المصالح" Interest groups و قوى الضغط، التي تحركها جماعات اجتماعية مرتبطة بالشركات الكبرى، تقابلها قوى ضاغطة من الجانب النقابي والمطلبي لدى "الطبقة المتوسطة". وسرعان ما أخْلَت جماعات المصالح وقوى الضغط الساحة السياسية للجماعات والفِرَق السياسية من الاتجاهات العنصرية فى أوروبا وأمريكا، التي استنفرت قواها لمنع عودة التيارات الفكرية التجديدية والأحزاب السياسية ذات النّفَس الاجتماعي ، ثم سرعان ما حلّ محلّ جماعات المصالح والأحزاب فاعل جديد، يمثل "الشركة" الهادفة إلى الربح ، والمتمركزة حول توجيه الرأي العام وسلوكه الاجتماعي والتسويقي والاستهلاكي باسم "التواصل الاجتماعي" باستخدام تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الحديثة.
هذا إذن هو عالم الشركات الخاصة الهادفة إلى الربح ، والعاملة بصفة اساسية فى مجالات البيانات والمعلومات والاتصالات والتسويق. فماذا نتوقع من (الفضاء العام) الناجم عن ذلك ؟ هذا هو العالم الذي تفاعل تشابكاً بالإيجاب والسلب مع عالم "دونالد ترامب" الخاوي فكرياً والفارغ سياسياً ، واللاعب على وتر العنصرية والطبقية الضيقة والاستعلاء (الأمريكي) تجاه سائر المجتمعات.
و في هذه الأجواء المعقدة نمت الظاهرة الراهنة المسماة بالشعبوية ، حتى آخر سلالاتها العنصرية ممثلة فى "الترامبية" تلك، سيئة الصيت و نظائرها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وما قد يتلوه . وهذا سكون سياسي مطبق وصمت فكرى رهيب، يعيشه الغرب الآن . فما العمل ؟ هذا سؤال الوقت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية يزور تركيا لإجراء محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردو


.. توقعات بموجة جديدة من ارتفاع أسعار المنتجات الغدائية بروسيا




.. سكاي نيوز عربية تزور أحد مخيمات النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة


.. حزب -تقدّم- مهدد بالتفكك بعد انسحاب مرشحه لمنصب رئاسة مجلس ا




.. آثار الدمار نتيجة قصف استهدف قاعدة كالسو شمالي بابل في العرا