الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتقال من الوطنية الى المواطنة

أحمد الخمسي

2006 / 7 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


سوف يذكر المؤرخون كيف انقلبت أجندة مجموعة من الناس، انخرطت في عمل سياسي، بما يعرف اليوم الحزب، وجعلت من الأصولية الدينية أيديولوجية لها، ثم دخلت حلبة اللعبة السياسية، واتبعت مسيرة الطموح السياسي للطبقة السياسية، في سياق التحولات الدولية، لتضع على رأس جدول أعمالها، المطالبة بعضوية الاتحاد الأوروبي، والغريب، انتماء الحزب المعني بالأمر للأصولية، إنه الحزب الحاكم في تركيا اليوم، الذي قلب مفهوم القطيعة بين دار الاسلام ودار الكفر..
وسوف يذكر المؤرخون أيضا، أن سكان الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط، بينما جاهدوا وقاتلوا لإخراج الاستعمار الأوروبي (الفرنسي، الاسباني، الايطالي، الانجليزي) من أوطانهم بشمال افريقيا، جاء جيل من بعد، ليحرق ممتلكاته في أراضي الاوطان »يسلف ويداين« كما نقول، ليستكمل الشروط المالية لصفقة العمر، صفقة »الحريگ«، يقع هذا في عز التقاطب العدائي بين الرأسمالية العالمية وبين الأصولية الشرقية.

وسوف يذكر المؤرخون، أن مطلع القرن العشرين الذي عرف تحالف ثمان دول غربية ضد الامبراطورية الصينية سنة 1900، انقلب في أواخر نفس القرن منطق التحالفات، لتجتمع مصالح الشركات المالية والصناعية وتصوغ تحالفا ثلاثينيا ضد بلد في الشرق الأوسط، بسبب الضغط اليومي على طلب البترول في الآلة الاقتصادية الهادرة ليل نهار..

أما ما لم يكن يخطر على بال شيوخ، بل كهول اليوم، أن يمسك الشخص بمنتوج صناعي، لاسلكي، ليتحدث مع العالم ، ناهيكم أن نرى انهيار برجي نيويورك في نفس اللحظة، عبر القنوات، وأن نطلع على تقارير الأمم المتحدة بتزامن تام مع صدورها في مقر الأمين العام عبر الانترنت أول مرة، بحيث انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، وأصبحت عيوننا وآذاننا واصلة مواقع لم يكن يملك القدماء سوى استكمال الحديث عنها، من فرط البعد، بالمحسنات الأسطورية والغرائبية، لإقناع النفس قبل الغير.. إذ كانت المسافة ضئيلة بين طرفي معادلة العين بصيرة واليد قصيرة، اما اليوم فقد امتد بصر العين وسمع الأذن الى مالاتتخيل اليد الوصول إليه من صور القمر وسطح المريخ.. الخ ... رغم ذلك تنافست الأصابع مع بؤبؤ العيون وأصبح النقر على لوحة حروف الحاسوب أو الضغط على أرقام المحمول يضع أمام العين أو الأذن صورا وأصواتا لم يخطر على بال ستة ملايير من بشر الأرض، ان تباشر النظر إليها، لا من حيث بعد جغرافية الصورة ولا من حيث غرائبية وسريالية موضوع الصورة.. من فرط التماس بين أذواق الحضارات وتداخل مناطق المنطق.. إذ بدأنا نلاحظ تشكل أوليات وعموميات وليس فقط مجرد قيم ومقاييس وموازين السوسيولوجيا.. مما سيضطر خبراء البحث العلمي مراجعة كتب فرويد والتابعين وتابعي التابعين، من هول ما انقلب في نفسية الأجيال من حيث القابلية والرفض.. بما يمكن تحديده، ؟ باقتباس الثلاثية التي تحدث عنها محمد حسنين هيكل الهوية والشرعية والمرجعية.

فإذا كان الميكروسكوب قد أخرج العلم من اليومي إلى مسافات ضوئية ما بين أصغر كائن كالذرة إلى أكبر وأعظم كائن كالمجرة.. فهذه المسافات التي تطول حد اللامتناهي والتي تقصر حد محو الزمن.. انتقلت من مفاهيم العلم الى منطق العيش اليومي، من العلم إلى صانع العلم نفسه، الى الانسان.. وبالتالي... انقلبت في أدمغة الأفراد والجماعات.. خريطة ومناطق المفاهيم.. فكأنما اشتدت حرارة الحضارة، بقياس معنوي روحي على ارتفاع مادي لدرجة الحرارة فوق الكرة الأرضية.. وبالتالي أصيبت أجساد وقوامات القيم والمفاهيم بالذوبان.. فبدأت السخونة والذوبان تنتقل الى الملامح والأشكال المميزة في كل شيء .

* * * *

هذا الوصف المتناثر بين حالات مما نعيشه، يمكن إعادة ترتيب مكوناته في أقانيم من جديد لكننا، ونحن نراجع قوالب الحياة العمومية... سنجد بقايا أحساسينا مرتبطة بعصر انتهى.. اسمه عصر الوطنية. وفي نفس الآن. سنلاحظ أن الرغبة في الندية والتكافؤ بين الناطقين بنفس اللغة أو المنتمين لنفس الدين أو المقيمين في نفس الوحدة السياسية الكيانية، انتقلت الى الكائن البشري، كيفما كانت أوصافه الدينية واللغوية والاقليمية.

وأصبح الفرد محور القيم، يطمح الى الندية والتكافؤ وهو في سن مبكر عما درجنا على توصيفه سنا للرشد. وقد انتبه محررو تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية ليصفوا تسعة محاور للعملية التعليمية، على رأسها اعتبار الفرد محور العملية التعليمية.

وقد تشربنا بما يكفي من كم الصور، التي تظهر ذوبان الشحوم الجماعية من حول الفرد.. فاقترب من حالة الصفاء الفردي...طامحا إلى الحرية ومعتمدا على العمل الفردي والمساهمة في الإنتاج...مما يسرع وتيرة اندماجه في النسق الاجتماعي الاقتصادي الإداري السياسي، ويدفعه نحو دعم لحمة السيادة الشعبية في البنيات التحتية والبنيات الفوقية، بتكامل...يتشكل في مصطلح المشاركة والمواطنة.

وصرنا، نسمع عن انفصال طوعي، عبر العملية الانتخابية، الكامل، ما بين تشيكيا وسلوفاكيا، قبل عشر سنوات، دون ولو قطرة دم أو غليان... ثم صرنا نسمع ملكة امبراطورية الكومنويلث تترأس افتتاح مقر برلمان اسكتلندا قبل بضعة أيام فقط، دون خوف من الانفصال...في نفس الآن يستطيع المواطن المقيم في انجلترا، أن يحصل على رقم الهاتف، ثم بواسطته يفتح حسابا بنكيا، وبعد إيداع أول مبلغ مالي يستطيع الحصول على قرض مالي بالمبلغ الذي يبرر حاجته إليه...

كل هذا، مهما اختلفت سحنته ما بين الاسكتلندي أو الارلندي أوالهندي أو الكيني أوالمصري أو المغربي...كل هذا دون أن تطلب منه الإدارة...أي إدارة...ما يعرف عندنا بالبطاقة الوطنية...

لكن الغرب نفسه...الذي يحتوي الشعوب والأمم اللاتينية والأنجلوسكسونية، بطرقها الإدارية المتنوعة...يتوق إلى أوربا الموحدة والموسعة حتى على حساب القارة الآسيوية في منطقة القوقاز. ويراجع في جامعاته...عبر البحث العلمي، مفاهيم الوطنية والمواطنة...فيعتبر اشتعال أوار الوطنية...شوفينية غير مقبولة...باعتبارها تكبح اتجاه الوحدة الأوربية والتعميم العولمي...في حين يطور المواطنة ويراجع الانتماء القومي والتنظيم الإداري الثنائي المركزي والفيدرالي، ليفتح آفاق الملاءمة، ليهضم صعوبات الاختلاف في مقولات جديدة.

إذن، البحث العلمي يقوم بدوره في صياغة المصطلحات والمفاهيم والقواميس، والإعلام يطعّم القوالب اللغوية والسوسيولوجية بما يطفو على السطح من ظواهر وتيارات لإدماجها في سياق السلوك العام والوعي العام. ثم تأتي الأحزاب السياسية وتبلور برامجها بل وتغير جلدها وأسماءها، اعتبارا منها أنها تخدم مستقبل الكتلة الناخبة في الوحدة السيادية التي تشتغل ضمنها. فتنقلب الديمقراطية المسيحية إلى الحزب الشيعي، ويتحلل الشيوعيون في صياغة الخضر وأنصار البيئة من اللون الأحمر إلى اللون الأخضر...بسبب الانهيار المزدوج السوفياتي في الشرق والبيئة في الغرب.

ثم يأتي دور الاقتراع العام في السياسة ليقرر الاتجاه الرسمي الذي تتبعه السلطة...فيما إذا كانت استراليا ستصبح جمهورية أم تظل تحت التاج البريطاني..وفيما إذا كان الكيبيك سينفصل عن كندا أويستمر ضمن سيادتها...

وما يستعصي من بنيات ونتوءات تاريخية ويصمد أمام التغيرات المظهرية يظل تراثا وطنيا...يحج إليه السياح...في طقس وطقوس مجتمع الرفاه.

وما يستعصي على العمل الحزبي يستكمله العمل القطاعي في سياق دور المجتمع المدني...الوسيط بين المجتمع الأهلي الخام وبين المجتمع السياسي المحترف لقياس المصالح على أولويات السياسة وقابلية البرامج للتطبيق.. فننتقل رويدا رويدا من حالة الانتماء للوطن إلى حالة امتلاء بالمواطنة، أوحالة تجوف وصعلكة وعدم وعبث...وفردانية مفرطة..حد التوحش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت