الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الفلسفة إلى الفلسفة عبر الأدب والفن

محمود الرشيدي

2021 / 4 / 9
الادب والفن


نحيى لنعيش في مرتع القدر، تفترسنا مشاعرنا سَلْبا وإيجابا وتتقاذفنا غرائزنا بين الْهُنا والهناك ، نقاوم جاذبياتها ، نروم ما نريد ولا يكون إلا ما تريد ، نحس الحرمان والقهر المستساغ بطعم الحرية ،حرية مريد في طاعة شيخه ، فتتلوث الأحاسيس. نسعى لصنع حالنا فنقع في شباك الحال يبدع بصنعه بنا فينا.
بتوقيت الأمل على وَعْدٍ منتظر، لطفل من أبيه ،زَفَّت الأم لولدها محمود، بشرى مُصَاحَبة والده إلى السوق الأسبوعي لهم ولقراهم المجاورة كما سبق الإتفاق.
الإتفاق هذا في واقع الأمر كان مكافأة تشجيعية على عمل أَشَقُّ من أن يُسْنَد لمن هو في سن العاشرة كمحمود ، ومع ذلك ، الإغراء كان أقوى وأشد لرفع طاقة التحمل والتحدي، رغم أن الأجل لامسمى، وكأنه مهمة أخرى بسواغ الجائزة.
-محمود؛ خُلُودُك للنوم هذا المساء سيكون باكرا، واستيقاظك كذلك سيكون باكرا في الصباح. سترافق أباك إلى السوق كما وعدك..
أحقاً أمي!!!!!؟؟؟
-بكل تأكيد .
سَرَى الخبر عند الطفل مع سريان الدم في مجراه تاركا سخونة في أعماقه تنتشر لتبحث عن الإنعتاق والتحرر نحو السطح وقد أحسها الطفل على أديم جلده كحبيبات الطل بحجم رؤوس الدبابيس للترطيب ، كردة فعل على الحدث المفاجئ
وافق محمود بإشارة معهودة منه وقد غمرته الفرحة ، إنها تشبه فرحة رؤية هلال عيد الفطر التي تُذَكِّرُه بمعاناته عندما يُرْغِمُوه في ليلة العيد على النوم فيمتثل لهم كما يمتثل لجفاء النوم وهجره.
الحياة العادية يعيشها الإنسان بفئاته كأنه مُخَدَّر ولايستفيق إلا بإثارة قوية من حوله تجعله يَرْتجُّ فتُخَلِّد أثرها، وقد تكون الإثارة سروراً ، حزناً أو ألماً سيان في ذلك بين الضيق والإنشراح، أما ما عدا ذلك فتكاد سجلاته أن تكون قد كتبت بمداد سرعان ما يلفضه الورق بتواطؤ مع الزمن لرتابة ما سُجِّل من الأحداث الأخرى والعادات ، ولإنعدام قُوَّتها التي لايُثَبِّتُها إلا تطورها المستمر .
قبيل فجر يوم من أيام سبعينات القرن الماضي بقليل كانت خيوط من نور تسقط على الأرض والجدار، تتسلل عبر شقوق النافذة والباب ، في سفر طويل من القمر لتتفقد قُمْرة الطفل وتُؤْنِسَه بتخفيف ظلمتها.
تفقد محمود بدوره وهو يجول بعينيه من على وسادته أرجاء حجرته ، بعد إغفاءة كأنما أُغمِي عليه جراء الأرق الذي أصابه من كثرة التفكير في زيارة السوق . شعر برغبة في إغماض عينيه لثقل جفونه عندما فُتِح باب الغرفة ونادته أمه .
-قُم يامحمود ، قم لتغسل وجهك وتلبس ثيابك، ثم تفطر، فأبوك ينتظرك خارج المنزل عند باب الزريبة.
نعم، نعم أمي.
لم يستغرق الطفل وقتا طويلا ليلتحق بأبيه وهو يحاول أن يربط أربعة خراف إلى بعضها وقد فصلهم عن أمهاتهم وعن سائر القطيع، فكثر الصياح وكل القطيع في هلع. رد الأب تحية الصباح وبادر بالقول :
-هيا يامحمود ساعدني في سياقة هذهِ الخراف لبيعها بمشيئة الله في السوق .
استمرت المشقة من باب الزريبة أوان آذان الفجر إلى حين طلوع الشمس في رحبة بيع الأغنام . وبعد مساومات ومضاربات ومفاوضات مملة تَوَّجَت عذاب الطريق، باع أبي خرافه على مضض متدمرا جدا من الكساد الذي أصاب البضاعة والأثمنة ، ولأول مرة أرى حزنا بليغا يمخر صدر أبي وهو يشتكي إلى أحد أصدقائه ضيق الحال ومصيبة الجفاف وقلة الأمطار، وأنه لن يستطيع الوفاء بالتزاماته نحو مدينيه.
اقتربت من أُذنه مترددا ومرتبكا لِما هو عليه واستأذنته التجوال في السوق . كنت أتمنى أن يرافقني لكن انهزامه هذه المرة جعله ينسى كل ما حوله ويسرح نحو أحد عوالمه ، إلا أنه هز رأسه من أسفل إلى أعلى مرات متكررة لست أدري إن كان يحدث نفسه أو وافقني في طلبي فانطلقت أجوب مسالك السوق وأقف هنا وهناك، هذا مهرج، والآخر مداوٍ لجميع الأمراض التي استعصت على أطباء العالم وذاك مروض قرود...
تتبعت مسار ساقي العطشى صاحب القربة والأكواب اللوامع من النحاس الأحمر والأصفر ورائحة القار التي تُلْهِب الرغبة في طلب الإسترواء بدون ضمأ. عندما يتوقف هذا الرجل لتلبية طلبات زبناءه أقف أمامه لأتأمل هيأته وهندامه الجميل المزركش الذي لم يسبق لي أن رأيته، أخاله ملاكا في عالم العطش والعطشى.
قادني هذا الملاك ، وقد سمعتهم ينادونه بالأمين إلى جوار نصف دائرة من الواقفين حول مائدة مرصعة بألوان لاحصر لها أنْسَتْني الأمين ونواقيسه الرنانة بما رُصَّ فوق هذه المعلمة من أشكال ومصفوفات وأنواع في علب بدون غطاء وفي قارورات زجاجية وحلويات معسلة وأخرى مرشوشة بسائر أنواع المكسرات وبذور السمسم وغيرها....
تسمرت بين سيقان الرجال وازدريت لعابي كثيرا بعد كل بَلْع وبلع. وتراجعت أخيرا لأتألم عندما رفس أحدهم أصابع رجلي اليمنى دون اكتراث أومبالاة، تأوهت وأنا أحمل رجلي بيدي مرة وأعْرُج ثانية وقد أُدْمِيَّت الوسطى من أصابعي.
تنقلت بين مناحي السوق لا تركيز لي إلا على وجعي وتجفيف دمي، وهَدَأْتُ بعد تلاشي الألم واسترجعت تأتيت السوق وأروقته التي تزخرفها بضاعات متنوعة وأصوات اختلطت بنداءاتها على من يشتري وأخرى تغري بإيحاءات فاضحة تصيب الغفل .
كنت مغفلا بدوري لأجدني لاإراديا مُساقا وكأن جاذبية تسحلني إلى مسرح المتعة والدراما، وكأن هذا الإنسان يعشق المآسي والآلام، لكن هذه المرة وقفت وراء دائرة الواقفين أسترق النظر بين فجواتهم وأتنقل هنا وهناك ، أرقب وأميز وأتذوق ،انتبهت لِيَدَيَّ قد اقتربتا من بعضهما وفي حركة وهمية بدأت أصابعي تغتصب قدسية الحلوى المحجبة وتفض لباسها لالتقامها .
ستائر أو أغطية أو البسة، أومهما كانت تسميتها فإعجابي بها لا يقاوم، وقد ذكرني هذا بإعجابي بأحد سكان قريتنا بهندامه الجميل المتميز وأناقته ، بأدبه مع أهل القرية، بما يُحكى عنه وعن عشقه وحبه لزوجته المتبادل بينهما قبل وبعد الزواج ، وقد دام لأكثر من عقدين ولا زال . غيابه عن القرية في بعض الأحيان كان يمتد إلى ما يقارب الأسبوع،
قليل الإحتكاك بقاطني الجوار، والأغرب أنهم يتهامسون وراء ظهره بأنه لص .
كلمة لص أو لصوصية كانت لا تثير في نفسي أمام خصال هذه الشخصية المثالية حسب قدراتي الفهمية إلا ما لا يكاد يذكر.
ركزت على شهوات ومذاقات اتخيلها، وانجذبت أكثر فأكثر وراء أرجل الواقفين، وأحسست بلساني يتمدد ويطول كلسان الزرافة أو الحرباء، وأصبح لزاما علي أن آخُذ حقي من إحدى جنان السوق.
سبقت يمناي تفكيري وتسللت دون علمي عبر فجوة بين فخدي رجلين متجاورين، انفتحت أصابعي على أوسع مجالاتها ثم انكمشت لتحضن ما استطاعت من حلويات مُلَبَّسَة بأزهى لبوس مزركش ، ووقع العطب عند عملية السحب لمَّا تنبه الرجل الواقف على اليسار فأطبق أصابع راحته اليمنى على معصم يدي بقوة أشد من أن أستطيع أن أُسْقِط ما اقترفته هذه الآله التي أصبحت لا أتحكم فيها. رفع بعنف يدي إلى أعلى وهو ينادي :
-سلَّام ! سلَّام! انظر ماذا يحدث هنا!
كل العيون رمتني بأكثر من سهم مسموم، وهناك من تجرأ فَهَمَّ بضربي، وطار عقلي في هذه اللحظة الحرجة بأسرع ما قد يمكن أن يكون الطيران وعاد من غيابه إلى رشده وعشه.
بدأ التفكير فيما قد يمكن أن يحدث، وتوالت الإحتمالات، فكرت في أبي عندما يحضر بعد علمه بما وقع، فالمصائب لا تأتي فرادى، فكرت كيف سيكون عقابي، فكرت في سجني وأنا طفل، وزاد توجسي عندما غادر سلَّام مكانه وأتى ليتسلمني من قبضة المحسن المربي العادل والشجاع.
أسْتَقْبَل جسدي من خلال لمسة يد سلَّام لمعصمي بردا وسلاما ، واطمأن قلبي، فانتَظَمَت دقاته واستسلمتُ لمصيري بين يديه.
أجلسني بجواره وقبَّل جبهتي وقال :
لا تخف ياولدي. ما اسمك؟
نظرت في عينيه، كانتا عينان تفيضان حبا وعطفا وتفهما أصيلا.
كنت قد فكرت عندما كنت متلبسا في قبضة الآخر أن لا أبوح باسمي وأن أفر متى سنحت الفرصة ، وقد تغير قراري، وأَجَبْتُه :
-اسمي محمود.
-وأنا اسمي سلَّام، نحن الآن أصدقاء وزيارتك لي أصبحت لزاما عليك في كل مرة تأتي فيها متسوقاً. أتعدني بذلك؟
-نعم عمي سلَّام، هل سامحتني؟
-لم تفعل شيئاً مشينا ياولدي ، كل ما هناك أنها إرادة الله لنتعارف.
قام من مجلسه ومد يده داخل جارور نقوده ونفحني درهما ، عندما ارتاح لهدوءي ، ثم أخذ يختار لي وهو يبتسم بعد أن خيرني فتعففت، ووضع مختاراته في كيس ورقي وزاد في جيبي قطعاً أخرى لأتناولها في الطريق.
قبّلت يده مودعا وربت على كتفي وقال :
-مع السلامة يامحمود.
لوحت له بيدي وانطلقت لا أصدق ما حصل، اغرورقت عيناي وسالت دمعتان ساخنتان على خديّ رحمة من الرحماء على المحرومين الضعفاء.....
إثارة كهذه بحدث كهذا هو من الإثارات التي لاتُنْسَى ، بل يمكن أن تصنف لدراسة فلسفية عميقة ، لمجريات وضيفية في منظومة الحياة وقوانين الطبيعة.
أتساءل لو حالفني الحظ في أولى عمليات السرقة، ألايكون ذلك بمثابة انطلاق في تدشين مشروع لبناء أسس مدرسة أو معهد للخونة ولتأطير اللصوص؟
عفوا ارتساماتي واستنتاجاتي عاطفية، أترك الحكمة للعقل والمنطق.




ّ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07