الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دماء لمآقي القتلة

صبحي حديدي

2006 / 8 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


هكذا، إذاً، كان لا مناص من أن تقع مجزرة قانا ـ 2، لا لكي ترتدّ أية ذاكرة حسيرة إلى مجزرة قانا ـ 1، 1996، وإلى الهمجية الإسرائيلية التي تنحطّ إلى أسفل سافلين وتتعاقب عاماً بعد عام فحسب، بل لكي تُحكم الجريمة الجديدة الرباط البربري الوثيق بين شمعون بيريس وإيهود أولمرت، وتلغي أيّ فارق سياسي أو أخلاقي بين حزب العمل وكاديما، وربما تسعة أعشار أحزاب الدولة العبرية.
والحال أنّ قانا ـ 1، مثل قانا ـ 2 تماماً، ليست محض جريمة حرب ارتكبتها الدولة العبرية وحدها، بل هي جزء من ستراتيجيات العنف الإمبريالي المعاصر، العاري والمباشر والمفتوح والعشوائي، الذي تعتمده الولايات المتحدة بنفسها تارة، كما في مجزرة العامرية في بغداد أواسط شباط (فبراير) 1991 حين أسفر قصف الملجأ المدني عن أكثر من 700 جثة محروقة من المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ؛ أو بالتكافل والتضامن مع حلفائها ومخافرها الأمامية، كما في حرب المخيمات ومجزرة صبرا وشاتيلا، وكما فعلت وتفعل إسرائيل في فلسطين ولبنان.
ثمة، مع ذلك، خصوصية إسرائيلية ـ صهيونية في ارتكاب هذه المجازر، لا يغيب عنها مزاج ممارسة القوّة وتوظيف العنف الوحشي بالطبع، ولكنها تستند كذلك إلى ثقافة محلية سياسية وسيكولوجية في آن معاً، مفادها أنّ دموع الجندي الإسرائيلي التي تسيل حزناً أو ذعراً، ينبغي أن تُفتدى بالدماء: بالكثير الكثير من دماء الذين تسببوا في انهمار دموع إسرائيل. وفي مطلع العام 1988 نشب في إسرائيل جدل واسع النطاق حول السؤال العجيب التالي: هل يتوجّب السماح للجنود الإسرائيليين بذرف الدموع في جنازات زملائهم؟ وهل الصحيح موقف قائد الجبهة الشمالية، الذي رأى أنّ البكاء صفة إنسانية ولا مانع من أن ينخرط فيه الجندي، أم موقف رئيس الأركان الذي اعتبر البكاء علامة ضعف لا تليق بالمقاتل إجمالاً، وهي حتماً لا تليق بالمقاتل الإسرائيلي!
آنذاك توفّر باحث إسرائيلي جادّ واحد على الأقلّ، هو أفيشاي مرغاليت، أرجع النقاش إلى ظاهرة جوهرية أكثر شمولاً تتصل بالمسألة العاطفية في «الثورة الصهيونية»، تلك التي هدفت إلى قَوْلَبة «اليهودي الجديد»، ورأت في المآقي الدامعة علامة عاطفية سلبية ترسم صورة اليهودي الضعيف، المنفيّ، الحزين، الطيّب، العتيق... الذي يتوجب استئصاله من الذاكرة اليهودية مرّة وإلى الأبد. بديله؟ اليهودي الجديد، مواطن دولة إسرائيل، الـ «صبّاري» Sabra، المقاتل ضدّ «الوحش الأصفر» حسب الكليشيه المعتمد رسمياً في الأدلة السياحية الإسرائيلية، الذي يشتقّ سماته من نبتة الصبّار: شوكية صلبة في وجه الخارج، وطرية عصارية حلوة في الداخل. إنه، إجمالاً، ذلك الإسرائيلي العسكري الذي قصف قانا، والإسرائيلي المدني الذي يؤيد الوحشية بنسبة 85%، ليس أقلّ!
وفي ارتكاب مجزرة قانا ـ 1 سعى شمعون بيريس إلى كفكفة دموع الصبّاري الإسرائيلي الذي انسدّت أمامه الآفاق العسكرية والسياسية لعملية "أعناب الغضب" من جهة؛ ثمّ سعى من جهة ثانية إلى كفكفة دموعه الشخصية وهو يتعثر في ملء فراغ إسحق رابين وحيازة صفة الـ Mr. Security. إيهود أولمرت، في ارتكاب مجزرة قانا ـ 2، لم يكن بعيداً عن السياقات ذاتها: كفكفة دموع نخبة النخبة من لواء "غولاني" الذين دحرهم مقاتلو المقاومة اللبنانية في بنت جبيل، من جهة؛ وتعزية ذاته، من جهة ثانية، إذْ يفشل تماماً في حشر قدميه في أيّ من أحذية سيّده أرييل شارون.
ليس أقلّ خبثاً وقحة وبذاءة تلك التغطية الخطابية التي تفلسف الوحشية، كأن يقول الناطق باسم البيت الأبيض آنذاك، مارلين فيتزووتر، إن ملجأ العامرية "هدف عسكري مشروع لأنه مقرّ قيادة واتصال، ولا نعرف سبب وجود المدنيين فيه، ولكننا نعلم أن صدام حسين لا يشاطرنا الموقف من قيمة وقداسة الحياة". أو يقول بيريس، ثمّ أولمرت اليوم، إنّ "حزب الله" يحوّل المدنيين اللبنانيين إلى دروع بشرية ويستخدم سطوح المباني المدنية لإطلاق صواريخ الـ "كاتيوشا". وليست أقلّ مسؤولية تلك المقاربة الإعلامية الغربية التي تغطّي المجازر من خلف فلتر رقابي يمنع عرض صور المجزرة الأشدّ بشاعة، بذريعة عدم إيذاء مشاعر المشاهدين... والأطفال منهم بخاصة!
في المقابل، وحين تكون جثث 37 طفلاً دفينة الركام في قانا، لا تتورّع عدسة الـ BBC عن التسمّر طيلة ساعة كاملة في نقل مباشر لتظاهرة الاحتجاج الشعبية أمام مبنى الأمم المتحدة في بيروت، والتركيز على مشاهد اقتحام المكاتب وتحطيم الأثاث وإشعال النيران هنا وهناك. كأنّ إدارة المحطة العريقة تريد تركيب المعادلة التالية: إذا كانت مجزرة قانا ـ 2 بربرية إسرائيلية عسكرية، فإنّ مشاهد تخريب مبنى الـ "إسكوا" هو البربرية المدنية اللبنانية، أو بالأحرى بربرية "حزب الله" وحركة "أمل" أساساً، بالنظر إلى أنّ صور حسن نصر الله ونبيه برّي كانت طاغية في أيدي الجموع.
وكما كانت مجزرة العامرية أمثولة مبكرة على انزلاق عمليات «عاصفة الصحراء» نحو عتبة محتومة، بربرية وحشية صرفة، ستعيد تذكير العراقيين والعالم أجمع بأن آخر سابقة لهذه العربدة البربرية كانت تدمير المغول لبغداد عام 1258، فإنّ قانا ـ 1 وقانا ـ 2 أمثولتان في السجلّ ذاته حيث تعربد الوحشية الأمريكية، في الواجهة أو في الخلفية... سيّان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: الرئيس يجري تعديلا وزاريا مفاجئا ويقيل وزيري الداخلية


.. ما إجمالي حجم خسائر إسرائيل منذ بداية الحرب على قطاع غزة؟




.. بعد فشله بتحرير المحتجزين.. هل يصر نتيناهو على استمرار الحرب


.. وائل الدحدوح من منتدى الجزيرة: إسرائيل ليست واحة للديمقراطية




.. وول ستريت جورنال: أسبوع مليء بالضربات تلقتها مكانة إسرائيل ا