الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة والانتهاك والأضرار بجنوب شرق المغرب

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2021 / 4 / 20
حقوق الانسان


دأبت هيئة الإنصاف والمصالحة على وضع خريطة برنامج جبر الضرر الجماعي لما اقتنعت بأن بعض المناطق تأثرت بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في السنوات الماضية، تأثرا نتج عنه تخلف التنمية، في أسوأ الأحوال، أو ضرر لحق بعض الرموز الثقافية والقيم في أحسنها.
ولقد أسست الهيئة موقفها، وأوصت بجبر الضرر الجماعي، بناء على تحريات كثيرة، عززتها التحريات التي قام بها الاتحاد الأوروبي في بعض المناطق «تزمامارت على سبيل الذكر»، أو التحريات التي قامت بها بعض الجمعيات في مختلف مواضع الانتهاك. ولتأسيس الموقف اعتمدت الهيئة كذلك خلاصات المنتدى الجمعوي الذي نظمته بالرباط، في آخر شهر شتنبر من العام 2005 والفاتح من أكتوبر الموالي والثاني منه، حول موضوع جبر الأضرار الجماعية والذاكرة.
والبرنامج، فوق ذلك، مكسب من مكاسب المجتمع المدني، إذ لا يمكن الحديث عنه أو إعماله، بما هو حق معلوم لبعض المناطق، كما كان برنامج جبر الضرر الفردي حقا معلوما لبعض الأفراد المتضررين من انتهاكات السنوات الماضية، دون استحضار الجمعيات المحلية والإقليمية. ولما كانت الجمعيات تنظم السكان ولا تمثلهم، فإنه من الضروري، ولكي يتخذ البرنامج بعدا تشاركيا شفافا، إشراك المجالس الجماعية المحلية، لأنها تمثل السكان. والبرنامج شأنه شأن الحقوق الأخرى التي تقوم الدولة بإعمالها، مما يستدعي انخراط المصالح الحكومية فيه. ومن هذا المنطلق بدأ التفكير في تأسيس التنسيقيات المحلية لجبر الضرر الجماعي، لتضم ثلاث تقاطعات: المجتمع المدني، والجماعات المحلية، والمصالح الحكومية، فضلا عن تمثيلية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وقتها، والسلطات الإقليمية.
ومما يعاب على هيئة الإنصاف والمصالحة أنها لم تتعامل مع برنامج جبر الضرر الجماعي بالمعايير التي تعاملت بها مع برنامج جبر الضرر الفردي، الذي لا يستقيم بدون معالجة ملفات بشكل تحايث شكلا ومضمونا الملفات القضائية. فلا تعويض بدون مقرر يعلل ذلك التعويض بحيثيات مقنعة، تبرر أن الضحية الفرد ضحية بالفعل، يملك حق التعويض، أو ـأن مزاعم المطالب بالتعويض لا تقوم على أساس صلب.
ولأن برنامج جبر الضرر الجماعي ليس قضية يحق البت فيها بناء على الحيثيات والتعليل، إذ الفرد لا يشبه الجماعة، تعذر القياس. لذا كان على الهيئة أن تقوم بمسح كامل للمجال المراد جبر ضرره الجماعي وتحديده تحديدا يصح تمثيله كارتوغرافيا على الورق، ويسهل ملامسة تجانسه السوسيواقتصادي والسوسيوثقافي. وبعبارة أدق لئن كان وقع الانتهاك قد خلق وحدات سوسيوثقافية متجانسة تجانسا تمليه الذاكرة المشتركة لمجموعة من الضحايا داخل مجال جغرافي محدد، فإن هذه الوحدات هي عينها وحدات جبر الأضرار الجماعية وضمنها الذاكرة، الذاكرة الجماعية على وجه التحديد.
وباختصار، هناك ما يجب تمييزه، نحو إنشاء خريطة جبر الضرر الجماعي، من حيث اعتمادها على التقطيع الإداري، وعدم مراعاتها للوحدات السوسيومجالية المتجانسة ثقافيا وإثنوغرافيا واقتصاديا. وأما دواعي الاختيار فقد ثبت أنه لا يجوز عد مكان ما موطنا لجبر الضرر الجماعي، ما لم يعرف حدثا نتج عنه الانتهاك، ونتج عنه الإقصاء والتهميش، أو أريد له أن يحتضن معتقلا سريا انجرت عنه عزلة المكان ونسيانه، أو إزاحته جانبا.
ولم ينصب البرنامج على المجال الجغرافي لظهوره بلون الانتهاك من حيث تخلف التنمية فيه، وتهميشه بل انثنى البرنامج إلى محاور أخرى كالذاكرة، والنوع الاجتماعي، والبنية التحتية. وحسبنا أن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان اجتهد في تفسير مواقف البرنامج، وقدم توضيحات كثيرة بناء على خلاصات أوراش فتحت لدراسة الموضوع وتفسير أهدافه. وإذا كان البرنامج في شقه الحكومي قد تجاوز مرحلة سير السلحفاة، فإن البرنامج برمته جدير بتقييم موضوعي، يراعي الخواتم لكيلا يراد به تقييمـ ما ينبغي أن يكون. لكن ذلك لا يمنع من النظر في مناهج العمل.
ويعد برنامج جبر الضرر الجماعي فلسفة اجتماعية رمزية مجالية تنظر إلى الإنسان في علاقته بالمجال، علاقة ذات بعد تاريخي وثقافي، يكمن في الذاكرة. ولا تستقيم كينونة الإنسان في برنامج جبر الضرر الجماعي بدون تصحيح تلك العلاقة التي تعرضت لبعض الاهتزاز والتشويش، طيلة سنوات الانتهاكات الماضية. وإن تصحيح علاقة الإنسان بالمجال وتقويمها مدخل رئيسي للمصالحة بين المجال في بعديه الاجتماعي والثقافي ومع الدولة بمكوناتها وإعادة الثقة بينهما. وفضلا عن ذلك، لم يرق البرنامج، بما هو مشروع فلسفي أيضا، إلى نسق جامع شامل. فكل تجربة في البرنامج تعطينا أفكارا وقيما جديدة لم يجر الانتباه إليها، من قبل، قيما وأفكارا تدور حول العلاقة بين الإنسان والمجال، وبينه وبين الدولة.
ومنذ سنة 2007 ومع انطلاق هيكلة البرنامج بتأسيس التنسيقيات المحلية، انطلق ذوي في جبال الجنوب الشرقي المغربي وصحاريه، وأضحى الكل يتساءل عن نبأ جبر الضرر الجماعي. فمن الناس من ادعى فهم فلسفته، ومنهم من قلل من شأنه أو فقد الثقة فيه، ومنهم من يطلب المزيد من الفهم مدركا أن البرنامج لا يزال قابلا للتطور، مفتوح أمام رؤى أخرى. والخطير في هذا كله أن تصادف مواقف عدائية لقضية ما مؤسسة على الجهل بتلك القضية.
ولقد خدم برنامج جبر الضرر الجماعي منطقة الجنوب الشرقي المغربي إذ وحدها على أساس تخلف التنمية، وبرزت، منذ وقت مبكر، فكرة المطالبة بجهة تعم الجنوب الشرقي، جهة قائمة على ترابط المصالحة مع المجال بالتنمية والانتقال الديموقراطي والحاجة إلى إعمال حقوق الإنسان، فكان ميلاد جهة درعة تافيلالت. فهل استجابت الجهة الجديدة للطموح الذي صاحب برنامج جبر الضرر الجماعي؟ سؤال يعد الجواب عليه مصادرة على المطلوب في وقته.
وتظل جهة درعة تافيلالت زمرة من الوحدات السوسيومجالية أنشأتها الانتهاكات الماضية، ورسم برنامج جبر الضرر الجماعي معالمها. ولئن كان وقع البرنامج وذويه خافتا، فإنه مهد كل التمهيد لصناعة الذاكرة. فما معنى الذاكرة؟
لما كان تحديد الخصائص النوعية للذاكرة تحديدا جامعا مانعا أمرا متعذرا، فإن تعريفها العلمي غير ناضج في الحال. وبالمقابل، يمكن بيان مفهومها من خلال دواعي الاهتمام بها ومميزاتها عن التاريخ والتاريخ الراهن. فما أوجه الاختلاف والتقاطع بين الذاكرة والتاريخ؟
لبيان الاتصال والانفصال بين الذاكرة والتاريخ يبدو مفيدا التطرق إلى وظيفة الذاكرة وتجلياتها ومميزاتها. فمن وظائف الذاكرة تنمية الشعور لدى المواطنين بالانتماء إلى جماعة سياسية، أو عرفية تؤمن بالحق والواجب. ويهدف الاهتمام بالذاكرة إلى فظ كل جريمة ضد الإنسانية والعمل على عدم تكرار ما جرى.
وتتجلى الذاكرة أحيانا في الأوهام والأحلام، وفي القصص والملاحم البطولية والأشعار. وفوق ذلك، فهي منظومات من القيم والرموز، وأنماط للتفكير والتعبير. ويمكن ملامسة الذاكرة في الأماكن والمآثر المادية، وفي التقاليد الشفاهية كطقوس الانتصار أو الخوف والتحصين. وتستشف أيضا في مظاهر الانغلاق والانفتاح. وتحضر رموز الذاكرة أيضا في ثقافة الجوع.
إن ما يميز الذاكرة الذاتية، إذ تنحصر في اليومي وفي المعيش. وبالتالي يجوز تملكها، فيصح قولك: «الذاكرة ذاكرتي، والذاكرة التاريخية ذاكرتنا جميعا». وبالمقابل، لا يجوز قولك: «التاريخ تاريخي»، لأن التاريخ عام، وإن نسب لجماعة ذات خصوصية ثقافية أو إثنية متجانسة، كتاريخ «أيت عطا» بالجنوب الشرقي المغربي. فالتاريخ حينما يخص جماعة متجانسة أو إثنية يحق نعته بالذاكرة التاريخية. وقياسا على ذلك، نلفى الذاكرة تلتهم التاريخ مع انطلاق الدولة الوطنية في الغرب، ومع ظهور بعض القوميات بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تزامن وتحرر بلدان كثيرة في أفريقيا وأسيا، حيث ظهر تاريخ تلك الدول كما لو كانت كيانات تاريخية قديمة، كنحو تاريخ موريطانيا، وتاريخ بلجيكا، وتاريخ الأردن.
إن ما يطبع الذاكرة الاستمرار في الحاضر وامتدادها في المستقبل، وقابليتها للتغيير تبعا لتغير الاختيار السياسي للدولة الحاكمة، أو تغير الرموز الثقافية تحت وقع التحولات الاجتماعية بالوسط. ويفترض في الذاكرة النسيان لأنها الماضي في الحاضر. والنسيان ضروري أحيانا لتجاوز بعض العقد. فمن ذلك تغافل فرنسا عن تدريس واقع حكومة فيشي بعد انهزامها أمام ألمانيا النازية إلى حدود وقت متأخر. وكذلك فعلت مع شأن حرب التحرير الجزائرية تدوينها وتوثيقها وتدريسها في المدارس. وبالمقابل ترى الجزائر عكس ذلك حيث يفرض عليها حسها الوطني تمجيد حرب التحرير. كل ذلك يعد عمل الذاكرة. وتشبه الذاكرة القصة لتضمنها أبطال واقعيين أو خياليين واشتمالها على عقد كثيرة كالإهانة والانتصار والتفوق.
وتكون الذاكرة جماعية أو جمعية، مادامت الذاكرة الفردية لا يمكن لها أن تقوم إلا في إطار اجتماعي محدد. وتعتمد الذاكرة على المخيال لذلك طالما يعبر عنها في نصوص أدبية، أو رسوم فنية، ولوحات معبرة، ومختلف أشكال الإبداع. وفي هذا الصدد تعد الطوابع البريدية المغربية المعبرة عن الكثير من الأحداث والمناسبات عملا في الذاكرة، لأنها تحتوي رموز فنية وصور ورسوم تجعل الحدث الذي تعبر عنه ذا استمرارية في الحاضر والمستقبل. وتحاول الذاكرة دوما أن تغرس الصورة والموضوع في المشخص. وفي الغالب ما تروج الذاكرة لوهم الانتصار وتسوقه، كما زعمت بعض الدول العربية أن العرب انتصروا على إسرائيل في حرب 1967. ويفيدنا هذا المثل في فهم مراد أنيت ويفيوركا «Annette Wiviorka» الذي يفيد أن الذاكرة تقضي إقدام جماعة معينة على تذكر ماضيها وتسعى لتعطيه تفسيرا ومعنى في الحاضر.
ويروم التاريخ الحقيقة لأنها غاية في ذاتها، ووظيفته علمية تعليمية. وأما الذاكرة الاجتماعية، فلا تحمل سوى حقيقة وظيفية غير علمية. وكثيرا ما تجري التضحية بها خدمة لأهداف آنية كتمجيد الدولة الوطنية ،كما سلف ذكره.
ويختص علم التاريخ الحق بالتجرد، وأما الذاكرة الاجتماعية فطابعها التحيز دواما، مادامت غايتها بناء الهوية الجماعية، ورسم الحدود بين الجماعة وغيرها، حتى ولو كانت تلك الحدود مصطنعة، أو وهمية. وحسبنا أن إسرائيل تزعم بأن مجالها من النيل إلى الفرات، وهو مجال وهمي من صنع الذاكرة، وكذلك توهم الرئيس صدام حسين وضم الكويت، وحسبها إحدى محافظات العراق.
يقوم التاريخ بإرجاع المنسي وكأنه يفعل ما يفعله علم النفس التحليلي بالذاكرة الفردية حيث يستخلصها من اللاشعور. ولئن كان التاريخ يهدف إلى احتضان حياة الذاكرة ويعتمد عليها للتحقيق من الخبر، بما هي مادة تاريخية، يبقى التاريخ علما اجتماعيا وظلت الذاكرة مستقلة. ويفيد استقلال الذاكرة أنها لا تعتمد على التاريخ إطلاقا، لأن التاريخ يبحث عن أسباب الحدث، والذاكرة تقتصر على تفسير الحدث تفسيرا ذاتيا يخدم أهدافا إيديولوجية. وإن التاريخ، بمعنى آخر، تدوين نزيه لوقائع الحياة البشرية في سياق الزمان، وتحليل معناها ومغزاها في الحاضر والمستقبل، وأما الذاكرة الاجتماعية فهي التذكر الانتقائي لوقائع التاريخ خدمة لغيات سياسية وإيديولوجية جماعية كما سلفت إليه الإشارة.
ولا يتضح مفهوم الذاكرة بعيدا عن أدبيات المنظرين لها. ولا غرو، فهي وليدة السوسيولوجيا والأنثربولوجيا قبل انتقالها إلى التاريخ والسياسة.
يرى موريس هالبواكس أن الذاكرة جملة من الأفكار والرؤى والأحاسيس المحفوظة من الماضي، يتشارك فيها ويجمع عليها، في الغالب، معظم أفراد مجتمع ما، وتعتبر هذه الذاكرة جزءا من عملية بناء المعنى والعبر من الماضي. ويدخل في بناء الذاكرة عوامل عدة، منها التجربة والدين والطبقة الاجتماعية بالإضافة إلى المكان والثقافة لتتحول جملة هذه «الأحاسيس» إلى نوع من الإيمان أو القيم أو حتى التقاليد التي تصبح أحد أهم روابط الفرد مع المجتمع.
وباختصار، ربط هالبواكس في دراساته حول الذاكرة الجمعية الذكريات الشخصية للفرد بالمجتمع الذي ينتمي إليه، واعتبر أن الإطار الاجتماعي، والذي تنشئه ثقافة مجتمع ما، يسهر على وضع نسق جمعي يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر والتأويل. ويؤسس هالبواكس نظريته على أساسين اثنين: أولهما الهوية الجماعية، بما هي نتيجة للتفسير المشترك للماضي الخاص بتلك الجماعة، وثانيهما الفصل بين الذاكرة الجماعية والجمعية.
واستبدل بيير نورا الذاكرة الجمعية بأماكن الذاكرة التي تشمل «أمكنة جغرافية وبنايات وتماثيل، وأعمال فنية، وأيضا شخصيات تاريخية، وأيام تذكرية ونصوص فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية، وغيرها». فهناك ثلاثة شروط ـوهي في الحقيقة أبعاد ـ لإضفاء صبغة الذاكرتية على مفهوم مجرد، أو شيء حسي معين نحو البعد المادي، والبعد الوظيفي، والبعد الرمزي. فالبعد المادي لأماكن الذاكرة لا يجب أن يحيلنا إلى أن هذه الأماكن تقتصر على أشياء ملموسة، ذات طبيعة مادية فقط، كاللوحات الفنية أو الكتب وغير ذلك. فهناك أحداث تاريخية حاسمة، أو دقائق صمت لإحياء ذكرى شخص ميت تتوفر أيضا على بعد مادي، لأنها كما يعتقد نورا، عبارة عن «مقطع مادي» محدد من فقرات ووحدات الزمان. ويتحتم على هذه الموضوعات، لكي تصل إلى مرتبة أماكن الذاكرة، أن تكون، أيضا، ذات بعد رمزي، أي حملة لمعنى رمزي معين، وهذا يظهر بشكل جلي مثلا حينما تنتقل ممارسات أو أفعال معينة إلى طقوس محاطة بهالة رمزية، فقط، بعد هذا «الارتقاء الرمزي»، تصبح هذه التموضعات حاملة لنفس الطبيعة الحضارية التي تمتلكها أماكن الذاكرة في مجتمع ما.
وساهم المغرب في صناعة الذاكرة، انطلاقا من أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة. لنقتطف من تقريها ما يلي: «حفظ الذاكرة مكون رئيس في مقاربة جبر الضرر الجماعي»(1). وورد في خطاب الهيئة مفهوم الذاكرة الجماعية(2). وطالما ربطت الهيئة الذاكرة بالهوية المشتركة باعتبارها مقوما من مقومات الأمة. وتهدف الذاكرة لدى الهيئة إلى كشف الحقيقة وإقرارها. ولأن للذاكرة الجماعية ارتباطا وثيقا مع المصالحة فقد عملت الهيئة على توسيع دائرة المستفيدين من يرنامج جبر الضرر الجماعي. وتكون الهيئة قد أعطت الذاكرة المصالحة بعدا اجتماعيا وثقافيا.
وتوخت هيئة الإنصاف والمصالحة من مسار الكشف عن الحقيقة.... الشعور بالمواطنة،... والإسهام في النهوض بفهم المجتمع لأحداث الماضي(3). وقامت الهيئة بتنظيم سبع جلسات استماع عمومية من أجل استرجاع كرامة الضحايا.... وحفظ الذاكرة الجماعية(4). كما عقدت لقاءات مفتوحة للتشاور... فيما يتعلق بالسبل الكفيلة بجبر الضرر الجماعي. وضمان مصالحة المواطنين مع مجالهم وتاريخهم في العديد من المدن والقرى المغربية(5). ذلك أن الحفظ الإيجابي للذاكرة يقضي المصالحة مع التاريخ، أيك إزالة العراقيل التي تحول دون البحث في هذا التاريخ(6).... مما يستوجب مراجعة شاملة للأرشيف وخلق اهتمام وطني لدى المعنيين بضرورة تنظيمية. وفي إطار برنامج تسوية مخلفات الاختفاء القسري عملت الهيئة على بلورة مقاربة جديدة لحفظ الذاكرة تستهدف اقتراح تحويل مراكز الاعتقال السابقة إلى مشاريع منتجة وحافظة للذاكرة(7).
والمتأمل في منظور هيئة الإنصاف والمصالحة يلفى إشارة واضحة إلى الاهتمام بأماكن الذاكرة، بما هي الضامن للمصالحة مع المجال والتاريخ. ويشكل ذلك الاهتمام مقدمة عملية للعناية بالتاريخ الشفاهي. هنالك دونت الهيئة جزءا كبيرا من مواد التاريخ الشفاهي. وسيرا على نهجها قام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتنسيق مع صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة بجمع بعض الشهادات النسائية وإصدارها في كتيب عنوانه نساء كسرن جدار الصمت، وهو كتيب ذو صدى واسع في الأوساط الحقوقية. وفضلا عن ذلك، نظمت الهيئة الزيارات الميدانية إلى أماكن الذاكرة، مما وسع مجال الذاكرة لتشمل بعض الثقافات كثقافة الدفن مثلا بمقبرتي أكدز وتزمامارت وقلعة مكونة. ولم تنظر الهيئة للذاكرة في أماكنها على أنها ذاكرة جمعية لتعدد الخصوصيات الثقافية لمناطق جبر الضرر الجماعي وتنوعها وتقاطعها. فمن ذلك انتقال الشهيدة فاطمة وحرفو من وسط سوسيوثقافي بالسونتات إلى معتقل أكدز. وفي هذا المسار تجمع بين ذاكرتين جماعيتين، لترسم ذاكرة جمعية.
وبالمقابل لم تربط الهيئة الذاكرة بالوحدات السوسيوثقافية المتجانسة لإعطاء المصالحة بعدا جماعيا ثقافيا. من ذلك، لم تتضح حدود مجال الذاكرة في معتق كرامة بإقليم ميدلت، وبمحيط قصبات الكلاوي بالجنوب الشرقي المغربي جميعه. نظرت هيئة الإنصاف والمصالحة إلى الذاكرة على أنها ذاكرة تاريخية، في بعض الأحيان، وعلى أنها تاريخ راهن في أحايين أخرى، وأغفلت الهيئة الفصل بين الذاكرة المعمارية المادية والذاكرة الرمزية الثقافية. وحسبنا أن محيط معتقل تازمامارت غني بالرموز الثقافية التي عاصرت المعتقل في أوج نشاطه. وبمعنى آخر، فالمعتقل ليس ذاكرة مادية، فقط، بل هو أيضا ذاكرة رمزية ثقافية(8) في مجال جغرافي يكاد يغطي الأطلس الكبير الشرقي جميعه وأعالي ملوية.
وأهملت الهيئة التحديد الدقيق لخريطة جبر الأضرار الجماعية بما هي أماكن الذاكرة التي يراعى فيها التجانس المجالي والإثنوغرافي والتاريخي. كما أن اعتماد التقطيع الإداري في التعاطي مع الذاكرة غير مفيد لأنه لا يضمن التجانس الشفاهي والتسيير الموحد لهذا الشأن. وعلى سبيل المثال، أنتج الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان مناطق متجانسة من حيث القيم. وحسبنا ذلك المسار الذي يمتد من كلميمة جنوبا إلى الحسيمة شمالا مرورا بأملاكو وأسول وإملشيل وخنيفرة وولماس، وهو مسار تقطنه قبائل صنهاجة، أيت مرغاد، وأيت حديدو، وأيت سخمان، وزيان، وبني ورياغل. إنه مسار زاخر بقيم الدفاع الذاتي والمقاومة(9).
وأغفلت هيئة الإنصاف والمصالحة استحضار التمييز بين مجالين غير متجانسين للذاكرة، مجال المعتقل الداخلي، ومحيط المعتقل، مما طرح إشكالا في مجال الاشتغال في مجال الذاكرة. وكان أولى بها أن تقوم بالحفر الجيد في مفاهيم الذاكرة وملاءمتها والأنساق الثقافية بمواضع الانتهاك.
تعددت أماكن الذاكرة وتنوعت بالجنوب الشرقي المغربي. فهناك بنايات وقصبات كبناية المعسكر الذي احتضن المعتقل السري بتزمامارت، وبناية قيادة كرامة وقصبة قصر إكلميمن، وأكدال والسونتات، وإملشيل وإيبوخنان، وواحة سمكات جميعها وواحة تودغى، وقصبات قلعة مكونة وسكورة وأكدز وتاكونيت.
ويمكن اعتبار مواطن القيادات التقليدية الإقطاعية أماكن للذاكرة، لأن هذه القيادات اغتصبت الحقوق الفردية والجماعية للمواطنين بمحيط تازمامارت، وقلعة مكونة، وورزازات، وأكدز وتاكونيت. كما ساهمت في قمع كل تمرد في الحال والمآل، مما ضمن سرية المعتقلات غير النظامية التي استضافت معتقلي الرأي، وهنا يجب الاستشهاد بقيادة كراندو، وبوذنيب، وزاوية سيدي حمزة، وتالوات، وغيرها.
ويتوجب استحضار الأنساق الثقافية للقبائل في التحالفين «أيت عطا» و«أيت ياف المان» لإفادتها في إنشاء الذاكرة (10) لارتباطها بالهوية الثقافية المحلية، فوق أنها أماكن للذاكرة بتعبير بيير نورا. وكما سلفت إليه الإشارة فالدفن مجال الذاكرة بامتياز لاحتواء المدافن على الرموز(11). وفضلا عن ذلك تفيد ثقافة الدفن في الذاكرة لأن إعادة الاعتبار للهالكين في المعتقل يقضي دفنهم، أو إعادة دفنهم وفق الطقوس الثقافية الجنائزية المحلية. وللزوايا دورها في إنشاء ذاكرة المنطقة، لأن هذه المؤسسات الدينية لا تلتزم الحياد في كثير من الأحيان. ففضلا عن احتضانها لأرشيف المنطقة ساهمت الزوايا في نشر ثقافة الاستسلام والتمرد. تلك هي بعض القضايا الواجب الانتباه إليها في كل عمل ذي علاقة بالذاكرة في إطار جبر الضرر الجماعي.
الهوامش:
1- تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، الكتاب الأول، صفحة 98.
2- المرجع نفسه، صفحة 108.
3- المرجع نفسه.
4- المرجع نفسه
5- المرجع نفسه، صفحة 109.
6- المرجع نفسه، صفحة 111.
7- المرجع نفسه
8- لتلك الغاية أقدمنا على تأليف كتاب: «حفريات في المجالية والهوية الثقافية بمحيط قرية تازمامارت».
9- وانطلاقا من قيم المقاومة في وحدة سوسيومجالية ما نشأ التفكير في إنشاء كتاب: إملشيل الذاكرة الجماعية، صحبة الصديق باسو وجبور.
10- عملا بهذه الفكرة أصدرنا كتابا في مارس من سنة 2021 حول: «قيم السلم القبلي والعلاقات الوظيفية بجبال الأطلس الكبير الشرقي».
11- عملا بهذا الرأي أصدرنا كتابا: الرموز الدفينة بين القبورية والمزارات الطبيعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة


.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا




.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة


.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي




.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة